رحو شرقي
أراني أراقب مجيئها بعد غياب ، متأسفة على تأخرها ...
هاااااااا يا "سليم " لقد عدت .
تقبلني وتضمني إليها في انحناء وعطرها يملأ مناخيري الصغيرتين ،كيف هي المدرسة ؟
لِمَ لم تعدل مئزرك ؟ .
هل أنت جائع ؟ .
فأجيبها متهكما بصوت الخراف ضنا مني أنها تلاعبني ، هكذا هي أمهاتنا ! ...
ذلك القوام العامر لحظة الفراغ ، والآن أستعجل الذهاب إلى مدرستي وفي صدري تلك الغبطة التي تحملني ، كما يحمل الريح الورق ..
لقد عاد البيت كالعش المهجور ولا أستكثر عودتي إلا مثقلا تعيسا ومتعمدا تأخري ، لا أحد يهتم لأمري ، بعدما كانت تغاريد الطيور وبهاء الربيع بحركة الأقربين ..
كانت أميرته لا تُعرف أحزانها ، بعينها العسليتين والمستدرتين التي تبعث النرجسية في صفائهما ... يحجبهم ظل جبينها ، وبروز وجنتيها عند ابتسامتها الهادئة وفمها المطبق الدقيق الحريص ..
الآن تهجعت إلى البكاء لأني بين السعادة والشقاء ، فيشدني الشقاء من أسفل قميصي الملطخ ببقع التين والعنب ..
هكذا كان بيتنا! ..
بالأيادي الأمينة تعج إلينا الحياة الثمينة ، ولما غادرت الأميرة سابت وهانت ...
في ذلك اليوم!. كان يوم الجمعة ، وانحناء الأغصان على الثرى في المقبرة المجاورة لحينا حيث تخاصرها أشجار السرو والصفصاف ، ظهرت تلك الفتاة على صورة الأسف ، بشخوص عيناها تحت وشاحها الأسود المزدلي على جبينها ...
تريد استلطاف النطق لأمر ذات قيمة ، تبحث بين قطع مرمرية ، فتبدو للناظرين فاقدة النفيس ...
فاقتربت منها مسافة الصوت الهامس ،وسمعت همسها من شهقتها ، وإذا بها تشتكي همًّا كنادبات المسامع ، سامعه في شأن يغنيه عن كل المآثر ..ترتدي نقاب الرثاء الكئيب ، بين أغوار الصمت المهيب ، خاطبتها بصوت هادئ ..
يا سيدتي :
إن أرواحهم تُرفرف للاستئناس بالدعاء ، هذه دار جزاء .
ألا تسمعي نداءهم في قلوبنا ؟!..
أيا زائر بندبات الحزن على الكبد، لمّ تحمل إلينا الأسى ؟!..
بل ننتظر منك دعاءا أو قطرة ماء ، عند رؤوسنا لتروي أسراب العصافير ...
يا سيدتي :
بين هذه الأسوار و الأحجار ، أخلة كنا نفرح بمرآهم ، واليوم نحزن من البعض عند لقياهم ..
إن أزيز الألم قد يحرر حنا جرا للصراخ ،وقد يأسرها في زنزانات الحزن والمآسي ... ترمينا الأنوثة تواريخا وأيامنا كلها خريف ، كأوراق تتساقط في كل لحظة يهزها الريح دون استئذان... ثم أخذ مني الصمت هنيهة .
لقد بكت كثيرا ...كثيرا وأشارت بيدها إلى ذلك القبر ..
يا سيدي : هذا أبي!..
كان رجل نبيلا يتراءى للناس حقيرا لكن في خلوته وسريرته ملاكا ...
عذرا يا سيدتي : إن الجلوس على مائدة مصائب الناس كأنه
الموت يعزي الموت ...
أستأذنك سيدتي : سأغادر ، فكلنا طمع لمغفرة من الله .
وفي طريق العودة استحضرت صورة تلك الفتاة ، رأيتها بيضاء كنور القمر، بعينين سوداويتين كسواد الحجر الكريم قذفته الحمم ، وشعرها الأسود المنساب المموج كالجداول المتكسرة حطه السيل على كتفيها البارزتين ، وصدرها الناهد يدنو رقبتها المغروزة في الجسد بقوامها القوي وصوتها الهادئ ...
لو ابتسمت لخر الصباح ومساءه بعناق الليل سكارى ، في وجهها الغجري يختبئ الثغر والأحزان .. وبدت لي الحياة تلوح على أفق المجهول ، وهكذا اليوم علمت ما كان
في السابق مستورا ...
رأيت على صفحاتها بريقا غير الذي يلمع على فتاة في ريعان الشباب .
إن واقعنا كالعملة بوجهين ، يُظهر وجها باسما جميلا ويخبئ الأخر بعتمته... ليُبقى زائره في حيرة من أمره ، وقد تكون قسوة الحياة دروسا لا تعرفها أصوار المدارس ... وقبل اقترابي من مخرج باب المقبرة، سمعت وقع نداء على مسمعي ، لأستدير ملتفا
نحوه !..
إنها تلك الفتاة تلوح لي بالانتظار، وإني أتفرسها بداية حكاية .... يتبع
بقلم رحو شرقي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق