قراءة تذوقية في قصيدة "بَرْدِيَّةُ الخَلاص" للشاعر محمود حسن

بقلم سعاد الزامك

أرملتي تصحو عند الفجرِ تُمشط شعر الشمسِ ...

تعطِّرُهُ بالزيتِ الملكيّْ 

تفتح بوَّاباتِ النيل المصري جنوباً 

كي يتقلَّدَ سيفَ الفرعونِ ويُبْحِرْ 

أرملتي حين تجيءُ لتوقظَني كلَّ 

صباحٍ وهْيَ تُقبِّل رَأْسِي

تَسمَعُني في كفني أتلو آيَ الذكرِ و أسْتغفِرْ 

من سبعةِ آلافِ سنينَ تخيط 

الكفن الكَتَّان وترتقه يومياً 

من سبعة آلافٍ وأنا في برزخِيَ 

المُظْلمِ تحت البحر الأحمرْ 

أتَقَصَّي أخبارَ الجنةِ والنارِ وأفتحُ 

مِذياعي 

أتَنقَّلُ بين محطَّاتِ اليوم الآخِرْ 

أسألُ هل جاء النَّاسُ إلي يوم 

المحشرْ 

وحَنوطِي يتآكلُ كلَّ مساءٍ فأمُدُّ 

يديَّ أحاولُ ....

أن أتَقَيَّأَ هذا الموتَ وهذا المِلحَ الضَّاغطَ فَوْقَ فمي 

وأحاول في هذا البحر اللجيّْ 

أن أدخلَ بطن الحوتِ ... أسبِّحُ 

كي يتجلّى المعبرْ 

أنا لم أقتلْ موسي لم أرفع سيفي 

في وجهه

لم أغرسْ نخلي في أرضهْ 

لم أسرقَ ياقوتا أو فيروزاً 

أو تاريخا غَيْرَ مزيَّفْ 

وأنا من ربَّاهُ صغيرا في قصري 

لكنَّ حُلِيَّ نسائي سَرَقَتْها منهنَّ إماءُ الدولةِ في ليلٍ مقصودٍ

ورفاقِي في اللحدِ جميعا نوَّامُونَ 

فَهُمْ ليسوا شعراءَ ولا تأتيني قِنِّينَةُ 

خمرٍ واحدةٌ إلا حين ينامُ المخبرْ

فالمخبرُ يوشي لملائكةِ اللحد بِما 

يجري 

فننام قطيعا مُرْتَعداً 

كي لا يدفعنا في غرف التعذيب 

المتحضر 

لا يفهم هذا المتخلف أن خمور 

الجنة لا تُسْكِرْ

حوريات الجنة أين ذهبن فلم 

يأتين الليلة حتي أني لم ألبس 

سندسِيَ المَلَكِيَّ ولم

أتعاطَ ... حبَّاتِ سريرِ النومِ ولم 

أتَعطَّرْ 

إنِّي جوعانٌ جداً 

والقمح المصري ال يشبهني في 

صومعة 

ليست تبعد عني إلا مقدار ذراع لكن يمنعه 

عني الوالي .. صاحب رأس المال ..

و ( بُخْتانصَّرْ ) 

ونبيُّ الشعر يحاول أن ينقلَ ما 

أوحي الشعرُ إليه صحيحاً بِتواتُرِهِ 

ورُواتِهْ 

بقراءات للشعرِ ثلاثٍ موثوقةْ

لكنَّ النقادَ تجاهرُ بالشركِ وتكفُرْ

ولصوصُ المقبرة المَلَكِيَّة 

توشك أن تخترق السدَّ إلي 

وتنهشَ لحمي 

ويذوبُ رصاص السدِّ يَسيلُ 

نُحاسُه

أُوشكَ أن يُسرقَ تاجي وبَخوري 

وثيابي

أن تُسرق بردياتُ الشعرِ المُوحَى 

والحبرُ الملكِيُّ وأن يُسرقَ منِّي 

الخَاتَم 

أن تُسرقَ أسرارُ التحنيطِ ويُسْرَقَ 

كوبُ الشايِ وكيسُ السُّكَّرٍ 

أن يُخطفَ من أرملتي كلُّ دقيقِ 

الْبَيْتِ التَّالفْ 

ورغيفُ امرأتي في فمِّ صغاري 

يتحجَّرْ

أسنانُ البنتِ الصغرى إن أكلت 

خبزَ الوالي تَتَكَسَّرْ

الشاعر

محمود حسن عبد التواب

========================

عندما تقرأ إحدى قصائد الشاعر الكبير محمود حسن تجد نفسك مجبراً على البحث في أرشيف ذاكرتك و ربما في مكتبتك أو حتى على الشبكة العنكبوتية لتطلع على أصول قصصٍ أشار إليها رمزاً أو تصريحاً سواء كانت تاريخية أو دينية أو غيرها . عندئذ فقط تستيقظ الأسئلة عن مقصده من تلك الإشارات و الرموز .. أعن قصد لإحياء تلك القصص بما تحث على فضائل أو تنهي عن رذائل و قد تغافل عنها البعض في عصرنا الحالي ؟ أم لعلاقة وطيدة بينها و بين مضمون القصيدة بالربط بين واقع و ماضي و تتطلع للمستقبل ؟ أم لغرض في نفس الشاعر يغمُض عن أذهاننا فيدفعنا قسراً للتفكر فيه دون تصريح منه ؟

"بردية الخلاص" مزج محمود حسن بين كلمتي "بردية" تلك الكلمة المصرية العريقة و هي صحيفة مصنوعة من نبات البردي و تستخدم للكتابة و اشتهرت بها مصر منذ الأزل و يعرفها القاصي و الداني من سائر العالم لذا تنم عن الماضي و الحاضر و المستقبل معا ، و بين كلمة "الخلاص" ليجعل عنوان قصيدته يلتحف بالأمل في الخلاص من أوضاع مهترئة و حاضر متخاذل و بلوغ عتبات مستقبل أفضل .

استهل الشاعر قصيدته بكلمة "أرملتي" و أجده استهلالا غير مسبوق على الأرجح ربما لما تحمله من معاني الفجيعة و اللوعة - و لكن – من تلك الأرملة التي كرمها بتصدير قصيدته بها ؟ و أرملة من ؟ من وجهة نظري كقارئة هي مصر التي ترملت منذ عصور على أيدي طغاة و مستعمرين كُثر ، و هي أرملة التاريخ الذي يذبحونه كل يوم بوسائل شتى . ما يدلل على نظريتي ( و إن حملت صواباً أو خطأً ) .. بردية ، تفتح بوابات النيل ، سيف الفرعون ، سبعة آلاف سنين ( كررها الشاعر أكثر من مرة تأكيدا للمعنى ) ، القمح ، حنوط ...... و غيرها من كلمات مصرية أصيلة .

ثم يشير محمود حسن إلى تلك العلاقة المتأصلة إفكا و المتضاربة قولاً عبر التاريخ بين مصر و إسرائيل ، فمصر احتضنت بني إسرائيل و رعتهم كأبنائها خلال العصور و لم تحاول قتلهم أو تُشهر العداوة لهم كما يزعمون إفكاً و لم تعتدِ يوماً على أراضيها أو تغتصبها كما فعلوا و لم تزيف تاريخاً كما زيفوا و لم يزالوا .. فيقول :

أنا لم أقتلْ موسي لم أرفع سيفي 

في وجهه

لم أغرسْ نخلي في أرضهْ 

لم أسرقَ ياقوتا أو فيروزاً 

أو تاريخا غَيْرَ مزيَّفْ 

وأنا من ربَّاهُ صغيرا في قصري 

كذلك يشير الشاعر إلى التاريخ المدفون قهراً و المغبون إنكاراً و الذي يحاول أن يتقيأ الموت الذي غلفوه به و إزالة ملح الصمت المُجبر عليه حتى أنه يحاول أن يدخل بطن الحوت أو يسبح كي يصل المعبر الفارق بين الموت المقنع و الحياة المأمولة .. فيقول :

وحَنوطِي يتآكلُ كلَّ مساءٍ فأمُدُّ 

يديَّ أحاولُ ....

أن أتَقَيَّأَ هذا الموتَ وهذا المِلحَ الضَّاغطَ فَوْقَ فمي 

وأحاول في هذا البحر اللجيّْ 

أن أدخلَ بطن الحوتِ ... أسبِّحُ 

كي يتجلّى المعبرْ 

ثم يعرج إلى شرح ما آل إليه حال مصر من سرقات و كسل و وشاية و خوف قائلا :

لكنَّ حُلِيَّ نسائي سَرَقَتْها منهنَّ إماءُ الدولةِ في ليلٍ مقصودٍ

ورفاقِي في اللحدِ جميعا نوَّامُونَ 

فَهُمْ ليسوا شعراءَ ولا تأتيني قِنِّينَةُ 

خمرٍ واحدةٌ إلا حين ينامُ المخبرْ

فالمخبرُ يوشي لملائكةِ اللحد بِما 

يجري 

فننام قطيعا مُرْتَعداً 

كي لا يدفعنا في غرف التعذيب 

المتحضر 

يتبعها بالإشارة أو التنبؤ باختراق لصوص الأمس ( المستعمر ) للسد ( أحد رموز التحرر من المستعمر ) باستعمار آتٍ يلازمه سرقة التاج و المأكل و المشرب و الملبس ( كل فخار الأمة ) حتى يؤول الحال بمصر بأن يتحجر رغيفها ( رغيف امرأتي إشارة للحاضر ) فتتكسر أسنام البنت الصغرى ( إشارة للمستقبل ) .

القصيدة زاخرة بالصور الرائعة المستحدثة و الرموز التاريخية و الدينية و الإيحاءات السياسية الصارخة من ثغر التاريخ المُكمم منذ أعوام لاستنفار جيوش اليقظة لخطر قادم إن تغافلنا عن تاريخنا ، و نداء للحفاظ على هوية مصر و عراقتها من أي مستغل لها و لخيرات أبنائها .

حقيقة أشعر بلذة طاغية كلما قرأت للشاعر الكبير محمود حسن و بمتعة أكبر في الإبحار بين سطور القصيدة في محاولة للتفنيد و التشريح علّي أبلغ لمغزاها التي كُتبت من أجله و قد نُسج بمهارة شاعر و ريشة فنان .

#سعادالزامك