طلال مرتضى*
لعلّ عدداً من الزملاء الذين تناولوا منجز الأديبة آسيا عبد الهادي، والمعنون تحت السقف العالي «دولة الكلاب العظمى»، يختلفون معي تماماً حول ما نُسب إلى المروية على أنها تصنّف في ما يسمّى أدب السيرة، وأنها ولدت من تحت عباءتها متخفّفة بكلّ علائقها ما وضح منها جلياً محمولاً على أكتاف الرويّ، أو ما عبر في نهر السرد على هالة ترميزات وإسقاطات دأبت الكاتبة بكلّ ممكناتها الكتابية مواراتها كي لا تبدو متوافقة مع الحالة السائدة.
«دولة الكلاب العظمى» التي صدرت مؤخراً عن دار «الآن… ناشرون وموزّعون» الأردنية، والتي تداعى سلّمها البياني هبوطاً من أعلى الهرم الحبكة ، نحو قاع النهاية القفلة على شكل قصص منفصلة متّصلة، منفصلة من حيث الانتقال بالحدث من مطرح إلى تالٍ حين يصير هذا الانتقال ضرورياً لفتح خطّ تالٍ، ومتصلة كون الحكاية تُسرَد على لسان الشخصيات ذاتها التي اجترعتها الكاتبة للمَهمة عينها. فيما لا يستطيع أحد ممن تناولوا العمل قراءة أو بقصدية النقد، أن الكاتبة ذهبت نحو القالب الجاهز، أي الفكرة المعمولة مسبقاً، وهو ما تناولته من بناء لشخصيات عملها، حين استعارت ما هو أقرب إلى المحاكاة، القصة الذي نعرفها جميعاً «كليلة ودمنة» والتي كتبها ابن المقفع وقتذاك. وأقول استعارت بين هلالين كي لا تذهب نوايا الكلمة إلى مدارك بعيدة، وهنا قصدت أنها ـ أي الكاتبة عبد الهادي ـ رسمت شخصيات المروية بوجوه حيوانية واستنطقتها على الورق كما فعل ابن المقفع. هنا ويأتي دور الكاتبة بأنها برعت تماماً في تركيب الحكاية من ألِفها إلى خواتيمها، من حيث إقناع القارئ. وتبيّن هذا من خلال حراك تلك الشخصيات على أرضية الرواية بالأفعال الأحداث ومن خلال دلالة الأسماء التي صبغتهم بها.
فنياً، أستطيع القول إنّ الكاتبة استطاعت بناء مرويتها بشكل لافت، وهذا ما جاء بالعمل الأدبي متماسك المعمار، حيث أتت الأحداث مترابطة ومتسلسلة ومتداخلة في كثير من الأحيان، ما زاد من ترابطها ببعضها.
وهذا إن دلّ، فهو يشي بأنها اشتغلت جيداً على سدّ ثغرات العمل ككتلة متكاملة، بدءاً من فاتحة الحكاية تهادياً إلى قفلة أشي بأنها كلاسيكية ولا أدري، إذ إنها تعمّدت الوقوف عليها بهذا الشكل، ويعزى هذا في كثير من الأعمال الكبيرة لكتّاب كبار، ينتظر القارئ بلهفة قفلاتهم اللاذعة التي تُنشي روحه والتي تأخذه نحو مفاز التفكّر إلى أنّ الكاتب جعل منه شريكاً افتراضياً مساهماً في إنهاء عمله الأدبي حسبما دار في متخيّله هو، أي القارئ، بعيداً عن الخواتيم الكلاسيكية كما في الأفلام الهندية أو غيرها، وقت يتزوّج البطل البطلة أو يموتا معاً. بالتأكيد، ما أتحدّث عنه ليس عيباً أدبياً بالمطلق، أو دلالة ترمي من وزن العمل وحضوره، لأنني أعي تماماً ما يفكر به كثيرون من الزملاء الكتّاب، والذين تذهب بهم أحلامهم إلى ما بعد حكاية الورقة، وهنا أقصد نيّة تحميل العمل الأدبي من أدبيّ إلى فنّي.
مما لا شك فيه، أنّ الكاتبة استطاعت من خلال عملها تمرير أحداث كثيرة وقصص من خلال أدوار تناوب على افتعالها شخصيات الرواية الافتراضية حمير وذئاب وكلاب وغيرها من الحيوانات والمخلوقات الأخرى كالجنّيات ، بسلاسة متناهية ومنسجمة حول حراكها وما يدور في فلكها من دون إرباك. ولكنّني ظلّ هذا أترك السؤال المباح هنا والذي تلمّسته من خلال القراءة، حيث وجدت الكاتبة تريد قول كلّ شيء من دون السيطرة على كلّ شيء، وهذا ما جعل الأحداث تتداعى قرائياً مثل شريط الأخبار العاجل الذي تتصدّره أجهزة التلفاز في بيوتنا.
مما لا شكّ فيه أنّ كل ما رمت إليه على ألسنة شخصياتها الافتراضية والحقيقية واقعيّ، وهو ما نعيشه كل يوم في حالاتنا السياسية المتداعية، وما آلت إليه بلادنا من هموم وويلات وتفكّك، والذي انتهى بفاعلية السرد، أشبه بحلم كاذب نعرف جميعاً أنه لن يتحقق في وقتنا هذا! وأعتقد أنها وظّفتها بشكل دقيق، حيث يكون سهل الرواية كلّها العالم العربي أو دول منفصلة بعينها. هذا وتجدر الإشارة إلى أن بيت الجنّيات الذي تمّ زرعه في السهل الفسيح بالواقع الملموس لم يكن يمثّل إلا تلك البقعة السرطانية «إسرائيل»، وكذلك تومئ إشارتها إلى المجزرة الكبيرة وهو ما يدّعيه البعض بالمحرقة… إلخ.
ونعرف أنّ السيرة هي تدوين لتاريخ ما متّصل منفصل كما أسلفت، وكلمة تدوين بحدّ ذاتها إشارة مفزعة للقارئ العليم، إذ إنّه يدرك بالفطرة القرائية أنّ كلمة تدوين تعني رصد أحداث واقعية لا يمكن العبث بتفصيلاتها، وهذا ما يجعل من الماكينة السردية لدى الكاتبة جافة. التدوين يفقد السرد نداوته نظراً إلى تأصيل الوقائع.
في «دولة الكلاب العظمى»، تجاوزت آسيا خولة عبد الهادي هذه المعضلة حين مرّرت ما تريده من دون عقبات، ومن غير أن تغيّر في التاريخ الذي تناولت حقبته.
*شاعر وكاتب سوريّ ـ فيينا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق