أعلان الهيدر

السبت، 16 مايو 2020

الرئيسية أمنة برواضي في حوار " مع الناقد " الحلقة الخامسة عشرة من سلسلة "مع الناقد" الدكتور فريد معضيشو

أمنة برواضي في حوار " مع الناقد " الحلقة الخامسة عشرة من سلسلة "مع الناقد" الدكتور فريد معضيشو


حاورته الأستاذة آمنة برواضي





السلام عليكم دكتور فريد أمعضشو... 
أولا، أرحّب بكم، وأشكركم على تفضلكم بالموافقة على الإجابة عن أسئلتي. 


وليكُن أول سؤال: من هو فريد أمعضشو؟ 

جواب:
بدايةً، أتقدم إليكِ بالشكر الجزيل على هذه الاستضافة، سائلا الله تعالى أن يحفظك ويوفقك لكل خير وفضل.
في الحقيقة، يصعب على المرء الجواب عن هكذا سؤال، رغم ما قد يبدو عليه من سهولة؛ لعدة اعتبارات. ولكن، بما أنه قد جرت العادة، في مثل هذه المحاورات الأدبية والفكرية، أن يُستهلّ بسؤال معرِّف بالمحاوَر، فلا بأس... العبد الضعيفُ باحث مغربي، رأى نور الوجود ذات يوم من خريف 1979 بإقليم الناظور، قبل أن ينتقل للعيش في فضاءات أخرى من الريف الشرقي (أزغنغان، ميضار، العروي) إلى حدود نيله شهادة البكالوريا، في يونيو 1998، من ثانوية ابن الهيثم بجبل العروي. ثم قصَدَ، لاستكمال دراساته العليا، كليةَ آداب وجدة؛ فحصل منها على الإجازة في اللغة العربية وآدابها (2002)، ودبلوم الدراسات العليا المعمقة (2004)، والدكتوراه في الأدب العربي الحديث (2010). على أنه قد أعدّ أطروحته، بإشراف د. مصطفى اليعقوبي، في موضوع "المصطلح النقدي وقضاياه في كتابات عبد الملك مرتاض النقدية"، وناقشها أمام لجنة علمية مكونة من السّادة الأساتذة الأفاضل: د. عبد الرحمن بودرع، د. إدريس بوكراع، د. عبد الرحمن بوعلي، د. رشيد سلاوي، د. الحسين أوشنّي. وحصل إثرَها على شهادة الدكتوراه بميزة "مشرّف جدا"، مع التوصية بطبع العمل، وتهنئةٍ خاصة من أعضاء اللجنة المُناقِشة.
وقد انخرطتُ، منذ شتنبر 2005، في سلك التعليم أستاذا للغة العربية بالثانوي التأهيلي، فأستاذا مبرّزا، ثم أستاذا للتعليم العالي اعتباراً من 2012. وأشتغل، حاليا، في المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين لجهة الشرق مكوِّنا ومديرا مساعدا مكلفا بالبحث العلمي التربوي والتكوين المستمر. كما أني درّست مجموعة من الموادّ، في أكثر من كلية، منذ الموسم الجامعي 2007/2008 إلى الآن، في سلكي الإجازة والماستر.
وفي المجال العلمي، يسّر الله لي نشْر عدد من الأبحاث والدراسات في مجالات النقد الأدبي والتربية وغيرهما، في مجلاّت علمية داخل الوطن وخارجه، علاوةً على تأليف ثلاثة كتب فردية، والإسهامِ بدراسات في حوالي عشرين مؤلفا جماعيا. كما شاركت في كثير من الفعاليات والملتقيات العلمية (دَولية، وطنية، محلية). وأُسْهِم في تقديم الخبرة والتحكيم لعدد من الدوريات الوطنية والعربية، ولبعض المؤسسات العلمية والجمعيات الثقافية من حين لآخر. 
وأسْعَدُ، كثيرا، بعضويتي في هيأة تحرير مجلات داخل المغرب (مثل مجلتي "البلاغة والنقد الأدبي" و"الذاكرة") وخارجه (مثل مجلة "دراسات معاصرة" الجزائرية)، وبعضوية عدد من الجمعيات الفاعلة في المجال الثقافيّ (اتحاد كتاب المغرب - مركز الريف للتراث والدراسات والأبحاث - الصالون الأدبي بوجدة...). 


2 ـ سؤال:
يُلاحَظ بعض التنوع في اهتماماتكم بين ما هو أدبي، وما هو تربوي، وما هو قانوني... فهل لهذا الاغتراف، والخوض في أكثر من حقل معرفي، دور في إغناء تجربتكم في الكتابة؟

جواب:
بالفعل، يبدو من تصفح كتاباتي اتّسامها بطابع التنوع؛ بحيث إني لم أتقيد في مجموعها بمجال معين، بقدر ما تناولت فيها موضوعات متنوعة، في أكثر من حقل، وإن كان بالإمكان إدراجها ضمن الحقول الثلاثة التي ذكرتِ، ولكن يظل مجالي الأصلي، الذي حظي بأكثر اهتمامي، هو النقد الأدبي؛ بحيث إني كتبتُ في هذا المجال نظريا وتطبيقيا، وتناولتُ قضايا كثيرة في نقد الشعر والقصة والرواية والمسرح وغيرها، كما أفردت عددا مهمّا منها للنقد المصطلحي، لاسيما بعد أن تخصصت فيه منذ أزيد من 15 عاماً. 
والحقيقة أني أجِدُ نفسي في النقد الأدبي أكثر من سواه، وبالأخص في الدراسة المصطلحية. وإن كتابتي في المجالات الأخرى لا تعني، أبداً، الخوض فيها من موقع المتخصص، بل هي كتابات تلامس قضايا فيها، باجتهاد شخص من خارج التخصص، وبعضُها يمكن إدراجها ضمن كتابات الرأي ليس إلاّ...
ولعل الذي دعاني إلى ركوب مثل هذا المسلك ما يمتاز به النص الأدبي، بوصفه كيانا لغويا بالغَ التعقيد، من حمولة دلالية غنية ومتشعبة، قد يصعب على الناقد إدراكها، واستيعابها جيدا، ما لم ينفتح على مجالات أخرى؛ لذا، أرى أن ممارس النقد الأدبي، والمشتغل بالعلوم الإنسانية عموما، مُطالَب بأنْ تكون له ثقافة واسعة ومتنوعة، يستمدّها من حقول عدة في الأدب وغير الأدب، تؤهّله لمحاورة النصوص، وسبر أغوارها، والوقوف على أبعادها. فعلى سبيل المثال، تقتضي قراءة المتون الرِّحْلِيّة تلك الثقافة، علما بأن الرحّالة يكتب، أحيانا، وهو يصف المسالك والممالك والأقوام والثقافات، عن أشياء كثيرة مما عاينه؛ فتأتي كتابته غنية بالفوائد والإشارات، وتغدو وثيقة مهمة يمكن أن يستفيد منها المؤرخ والجغرافي والأنثروبولوجي والأديب وعالم الطبيعة... وعليه، فلا سبيل إلى فهم تلك المتون من دون الإلمام بعدد من الحقول. 
وإن انفتاحي شخصيّا على أكثر من ميدان معرفي أفادني، حقا، في إثراء "تجربتي" الكتابية، وإنْ كان عمرها ليس بالطويل، وفي استيعاب أمور عدة، وفي التعمق لدى مناقشة بعض القضايا التي يثيرها المبدعون والكُتاب... 


3 ـ سؤال: 
أستاذي الفاضل، من موقعكم، كمتدخل في الحقل التربوي تدريساً وتأطيراً وإدارةً وبحثاً، ما تصوركم لحال المدرسة العمومية، وللتعليم بشكل عام، في السنوات القادمة؟ 

جواب:
أولاً، لا بد من كلمة عن الواقع الحالي؛ إذ لا يخفى عنا جميعا ما تعانيه المدرسة المغربية العمومية في الوقت الراهن، وما تواجهه من تحديات وإكراهات؛ الأمرُ الذي عجّل بتبني رؤية استراتيجية لإصلاحها تمتد إلى 2030م، وباتخاذ عدد كبير من التدابير والمخططات الرامية إلى النهوض بها؛ لتتبوأ المكانة التي تستحقها داخليا وخارجيا. ولكن يبدو أن كل ذلك تعترضه صعوبات حقيقية قد تعصف بها، وتحكم عليها بالفشل إذا لم يُتدارَك الأمر، ولم تتدخل الجهات المعنية، على وجه الاستعجال، لتصحيح المسار، ووضع القطار على سكته الصحيحة.
ولا شك في أن هذه التحديات آخذة في التزايد، ويوحي الواقع بأنها ستطرح مصاعب أكبر بالنسبة إلى المنظومات التربوية في البلدان العالَمثالثيّة كلها، سواء فيما يتعلق بالبنيات التحتية، أو الأطر، أو توظيف التكنولوجيا الحديثة فعليا، أو التدريس عن بعد، أو التمكن من اللغات الأجنبية الحيّة، أو ملاءمة المُخْرَجات مع سوق الشغل...
وأتصور أن الرهانات التي يجب أن يتوجه إليها الاهتمام، مستقبلا، من أجل مدرسة عمومية مغربية قوية، قادرة على مواجهة التحديات، والرقي بأداء منظومة التربية والتكوين، هي الإدماج الحقيقي لتكنولوجيا المعلومات والتواصل في هذه الأخيرة، واستعمالها بنجاعةٍ من قبل كل المتدخلين فيها، في كل المراحل والعمليات، علاوة على الاهتمام باللغات العالمية التي تضمن لخرّيجي المنظومة الانخراط في مجتمع المعرفة، ومواكبة التطورات، والانفتاح على العالم، ولاسيما اللغة الإنجليزية، التي صارت تتربع على رأس قائمة سوق اللغات دوليا. كما يجب مراعاة حاجيات المجتمع المغربي، واستحضار خصوصياته، لدى هندسة المناهج والبرامج، وإنتاج المقررات والموارد التعليمية. ولا بد من انفتاحٍ أكبرَ على ما يستجدّ في البيداغوجيا والديدكتيك، واستثماره، على نحو واع، في تطوير تعليمنا، دون إغفال ما يكتنزه تراثنا الفكري الزاخر من اجتهادات أصيلة في المجال التربوي، نحن أولى بالإفادة منها، وليس من المعقول أن نهملها، ونضرب صفحا عنها، جريا وراء ما لدى الآخَر فقط...
ومن هنا، فالتعليم المغربي يمكن أن يكون له شأن آخر في المستقبل، ويمكن أن يكون مؤهلا وذا تنافسية ونجاعة أدائية، في حال الأخذ بهذه التدابير، وغيرها مما لم نأتِ على ذكره، وإلا فإنه سيستمر كما هو! وبذلك، قد لا ننتظر منه تحقيق أشياء ذات قيمة كبيرة.
وأريد أن أؤكد حقيقة، مفادُها أن المدرسة المغربية العمومية، رغم كل ما يقال، قد خرّجت أطرا وكفاءات شرّفت - وتشرّف - البلد في كثير من المحافل والميادين، فضلا عن أنها بانيةُ المغرب المعاصر، ومُزوِّدتُه بالكوادر التي تحتاجها كل قطاعاته الحيوية. فمن أولئك الخريجين مهندسون وأطباء وخبراء ورجال قانون وأساتذة مشهورون... ولكن ممّا يؤسف له أن عددا من الطاقات، التي أنفقت عليها الدولة أموالا طائلة في التكوين والتأهيل، تضطر إلى ترك بلدها، والتوجه إلى الغرب حيث تتوفر لها ظروف اشتغال مناسبة، وتتمتع بكثير من الامتيازات وعوامل الجذب؛ وبذلك يخسر المغرب هذه الكفاءات، ولا يستفيد من ثمرات أشجار تعهّدها زمناً بالسقي والاعتناء! الأمرُ الذي يدعو إلى إعادة النظر في هذا الوضع؛ بتوفير شروط العمل المناسبة لتلك الكفاءات العلمية ماديا ومعنويا، وإيلائها مزيداً من الاهتمام، حتى لا تفكر في الرحيل إلى وجهات أخرى تبذل المال، وشتى وسائل الإغراء؛ لتصيُّد مثل هذه الكوادر، واستقدامها... 


4 ـ سؤال:
ما هي المادة التي تتمنى أن يتلقاها الأستاذ المتدرب إلى جانب مجزوءات الديدكتيك والتربية والدعم...، والتي ترون أنها قد تعيد شيئا مما ضاع لمهنة التعليم؟ 

جواب:
يدْرُس الأساتذة المتدربون بمراكز التكوين، على امتداد فترة التأهيل، عددا من المجزوءات، التي تروم إكسابهم أصولَ مهنة التدريس، وتمكينَهم من الكفايات المهنية الأربع، وهي: تخطيط التعلمات، وتدبيرها، وتقويمها، علاوة على القيام بالبحث التربوي التدخلي. إضافة إلى دعمهم في تكوينهم الأكاديمي الأصلي، وفي المعارف التي سيتولون تدريسها عند التحاقهم بالمؤسسات التعليمية. كما يتلقون تكوينا معمّقا في التشريع المدرسي وأخلاقيات المهنة، والحياة المدرسية، وتكنولوجيا التعليم TICE، ومنهجية البحث التربوي... وذلك بواقع ثماني مجزوءات في كل أسدوس/ فترة؛ حسب النظام المعمول به حاليا. ولا ريب في أن هذه الموادّ كلها مهمة جدا في سياق تكوين أساتذة الغد، ويكمّل بعضها بعضاً، ويمتاز تدبيرها بالطابع الوظيفي، والتركيز على ما له صلة مباشرة بالمَهْنَنة، مع الابتعاد - قدْرَ الإمكان - عن الإغراق في الكلام النظري المجرّد، والحديث بعيداً عن واقع الممارسة الصفية؛ ولذا، يتم ذلك التكوين بالتناوب مع التداريب العمَلية، في شكل وضعيات مهنية بمؤسسات التدريب أو أنشطة مُمَهْنِنة بمراكز التكوين، بل إن الأولوية يجب أن تُعطى للتأهيل الميداني (الممارسة)، لاسيما وأن عُدّة التكوين بالمراكز تلحّ على الاشتغال وَفق بَراديغم "عملي- نظري- عملي".
وممّا يسجّل بعضهم على هذا البرنامج التكويني- التأهيلي أنه كثيف و"ثقيل"، كثيرُ المجزوءات متشعّبُها؛ لذا، يصعب - حسَبَهم - الحديث عن إضافة مواد أخرى إليه، علما بأنه، فيما سبق، كان عدد تلك المجزوءات ستّا فقط. ولكن الواقع، وما يشهده من تحولات ومستجدات، وما يطرحه من تحديات، يدعو إلى توفير تكوينات أخرى للأساتذة المتدربين؛ لأنها تفيدهم في ممارسة المهنة حاضرا ومستقبلا؛ إذ يلزم تمكينهم من تكوين كافٍ في كيفية تدبير الأقسام المشتركة في السلك الابتدائي، وفي التعليم الأولي بوصفه ورشا استراتيجيا مهمّا ينتظر التعميم منذ عقود، وفي اللغات الأجنبية. ومن المفيد لهم، كذلك، أن يكتسبوا مهارات في الإسعافات الأولية، وفي حلّ النزاعات، وفي التعامل مع الإدارة، وفي تقنيات التدريس عن بُعْد، وفي تخطيط المشاريع وتدبيرها... 


5 ـ سؤال:
لكم نصوص شعرية منشورة، وأحرزتم الجائزة الثانية في مسابقة محمد الحلوي للمبدعين الشباب (فاس)، صنف الشعر، عامَ 2005. ماذا عن الشاعر الذي يسكن الناقد؟ هل ننتظر ديوانا لكم؟ وما رأيكم - كناقد - في مستقبل الشعر في وقتٍ أصبحت فيه الروايةُ تتربّع على عرش الإبداع الأدبي اليوم؟ 

جواب:
أتذكّر أني كتبت أول نص شعري، على تفعيلة المتقارب، بعنوان "نفثة مصدور"، سنة 2003؛ نصّ عرضته على بعض أصدقائي يومَها، فاستحسنوه، وشجعوني على الاستمرار في كتابة الشعر. وقد كتبتْ عنه الباحثة فتيحة حسّون، مشكورةً، قبل أعوام، دراسة نقدية مطوّلة نشَرَتها في موقع "الألوكة". وكتبت نصوصا أخرى، بعد ذلك، كلّها من الشعر الحرّ، القائم على نظام التفعيلة، ولكلّ نص قصة ومناسبة. ولا أكتب القصيدة بانتظام، بل من حين لآخر، حينما أجد في نفسي مَيلا ورغبة في التعبير عن أحاسيس وقضايا شعريّاً، وقد نشرت جملة من نصوصي الشعرية في مجلات وصحف عدة؛ من قبيل: العَرَبي، وحِسْمَى، ورسائل الشعر، والأخبار، والمُنْعطَف. ولي أخرى مخطوطة لست، حقيقةً، مقتنعاً بعْدُ بنشرها؛ لذا، آثرْتُ التريُّث، والاحتفاظ بها لنفسي. ثم إن هذه النصوص يمكن أن تشكل ديوانا أو أكثر، ولكني لا أفكر في نشرها حاليا ضمن مجموعة شعرية. كما أني كتبت عدداً من النصوص القصصية، ونشرتها في منابر صِحافية داخل المغرب وخارجه؛ من مثل: الموقف الأدبي، والقدس العربي، وبيان اليوم. والحقيقة أنني لا أجدُني ميّالا إلى "الإبداع"؛ فما كتبته فيه أعُدُّه نصوصا (هكذا)، حاولت فيها التزام مقوّمات كل فن إبداعي، وشروطه الفنية والتقنية، بل قد أقول إني أكتبها من باب الهواية لا الاحتراف، والحُكم الفيصل فيها متروكٌ للقراء. وما أفضّله هو الكتابة النقدية، والدراسة المصطلحية، والبحث الأكاديمي... 
وقد سبق القول بأهمية أن ينفتح الناقد والدارس في الإنسانيات على مجالات ومعارف أخرى. وعليه، فمن المهم جدا أن يكون لدى ناقد الأشعار اطلاعٌ كافٍ، وإنْ لم أقل تمكُّنا من إواليات الكتابة الشعرية؛ لأنه مضطر إلى التعامل، في نُقوده، مع الصورة الفنية، والبنية الموسيقية، والأساليب ولغة الشعر.. هذا كله يفرض عليه أن يتمكن من النحو والبلاغة والعَروض والقافية. فهنا، يبدو أن الناقد مسكون بالشاعر حتما؛ بمعنى أنه يجب أنْ يكون على دراية واسعة بمقومات الكتابة الشعرية. ولا ريب في أن مقارباته الشعرية تكون أعمق وأسدّ لو كان ممن يبدع شعرا معا. ولنا نماذج كثيرة من نقاد الشعر المغاربة الذين كانوا، في الوقت نفسه، شعراء؛ من مثل الراحلين أحمد المجّاطي، وعبد الله راجع، وحسن الأمراني، ومحمد عمارة رحمه الله، ويحيى عمارة، وغيرهم. وإن قارئ ما كتبه هؤلاء وأمثالُهم عن الشعر يحسّ فيه بالتعمق والتغلغل في جوف القصيدة، والغوص في أغوارها؛ بحثا عن الدُّرَر والكَوامِن، وسعيا للوقوف على مقصود المبدع، أو الاقتراب منه أكثر. وأنا شخصيا أجد أن ما يختزنه الناقد من معرفة شعرية نظرية، ومن مقروء واسع في الشعر؛ القديم والحديث، العربي والأجنبي، ومن تجارب إبداعية سابقة في هذا الإطار، مهمّ بالنسبة إليه؛ إذ يساعده على النجاح في مقارباته النقدية الشعرية إلى حدّ كبير.
وبخصوص الشق الأخير من سؤالك، يلزم تأكيد أن ما يعيشه الشعر اليوم يشكل، في الواقع، حلقة في مسيرة تطور القصيدة؛ حلقة يتعيّن ربطها بظروفها وسياق إبداعها، وعدم مقارنتها دائما بما كان من أمرها في الماضي البعيد؛ فلكل وقت شعرُه وشعراؤه، والقصيدة في تطور مستمر تَبعا لتحولات الزمان والإنسان. والتجديد أو التجريب في الشعر انطلق منذ زمن بعيد، وبلغ أوجه في العصر الحديث وما تلاه، إلى درجة تمرده وخروجه عن أبرز خواصّ الشعر، بل صار يختلط بالكلام المنثور في إطار ما أسموه "قصيدة النثر"، التي لا هي بشعر، ولا هي بنثر؛ كما يوحي بذلك اسمُها أيضا، ولكنها حساسية شعرية جديدة لها الحق في "الوجود"، ما دامت تعكس مرحلة ضمن صيرورة التطور الشعري، وما دام لها منظّروها ومؤيّدوها ومبدعوها وجمهورها. وأتوقع للشعر أن يستمر، مستقبلا، في تطوره، وفي ارتياد آفاق جديدة؛ لأنه ظل على الدوام مُواكِبا لتطور المجتمعات والحضارات، ولعله سيكون أشد تعالقاً وتداخلاً مع أجناس أخرى، لاسيما بعد أن صار التقارب بين المعارف والفنون كبيرا جدا، والحدودُ بينها آخذة في التلاشي. وحين نتكلم عن الشعر، فإننا نتحدث عن فن تعبيري مَرِن عُمِّر قروناً، لدى كل الشعوب، ومر بمحطاتِ تحولٍ متعاقبة، وكان في كل ذلك شديد الارتباط بالإنسان والواقع والتاريخ. وإذا ركزنا كلامنا على الشعر العربي، نُلْفي أنه خضع لهذه الصيرورة أيضا؛ فتعاقبت عليه إلى الآن ثلاثُ لحظات كبرى: لحظة القصيدة العمودية، ولحظة القصيدة الحرة، ولحظة القصيدة المنثورة. مع الإقرار بصعوبة وضع فواصل صارمة بين هذه المحطات، وبصعوبة الحسم في بداياتها، بل إنها تتعايش في المشهد الإبداعي العربي؛ فحين ظهرت قصيدة التفعيلة، بنَفَسها التجديدي، لم تُلْغِ سابقتها الكلاسيكية، بل احتفظت بعدد من مقوماتها، ثم أضافت إليها تجديدات فنية وجمالية. ولمّا عرفنا حديثاً قصيدة النثر، التي رفعت من سقف التجديد أكثر، ظل الشكلان السابقان مستمرين؛ بمعنى أن العلاقة بين مكونات المشهد الشعري العربي لا تقوم على الإقصاء والإلغاء، بقدر ما تقوم على التنافس والتعايش في نهاية المطاف، ويبقى لكل شكل منها أنصاره وجمهوره والمنافحون عنه.
وعليه، فالشعر العربي سيواصل مسيرة تطوره، على غرار ما يحدث للشعر في مختلِف أرجاء العالم، ونتوقع أن يتابع سَيْره في درب التجديد والثورة. ويسجل بعضهم أن هذا الفن يعرف اليومَ تراجعا لصالح السرديات عموما، قصةً وروايةً! إذ قيل إن القصة القصيرة أقربُ فنون الأدب إلى روح العصر، وإن طابع الاختصار، الذي يَسِمُها، يساعدها على الانتشار؛ لِما يسود عصرنا هذا من إيقاع سريع في كل شيء، ولتغيُّر عاداتنا في القراءة، ولقرب السرد من النفوس؛ حتى قال بعضهم إن الإنسان كائن حكائي بامتياز. والحقيقة أنه يصعب التسليم بهذا الحكم، وقبوله بوصفه مسلّمة؛ ذلك بأن كتاب الشعر اليوم كُثْر مثلما أن كتّاب القصّ كُثْر، وهنا لا أريد إصدار أحكام على قيمة ما يُنشر، ومدى استجابته واحترامه مقومات كل جنس أدبي، ولو في حدودها الدنيا؛ لأن الواقع يكشف أن كثيراً مما ينشر على أنه "شعر" لا علاقة له بالشعر، وكثيراً مما يُنشر على أنه "قصة" لا علاقة له بالقصة، لاسيما بعد أن كثُر الشعراء والقاصُّون في العالم الافتراضي، الذي يمكن أن يصنع من الشخص، أيّ شخص، بين عشية وضُحاها، مبدعا في الشعر أو القصة! لذا، فأنا أتكلم عن الإبداعات المنشورة في المجالين مسلِّما بأنها كذلك، أما لدى التدقيق، فالأمر سيختلف.
فإذا حكَمْنا اليومَ (لأن حكم اليوم يمكن أن نبني عليه توقعاتنا للمستقبل) على المشهد الإبداعي من زاوية الكم، فإنه من الصعب بمكان حسم "المعركة" لصالح الرواية أو القصة، والقول إنها صارت تتسيّد هذا المشهد، وما نقرأه ونسمعه من مثل هذا الأحكام يظل، في نظري، مجرد كلام يعْوِزه الدليل، ولم ينبَنِ على أسُس علمية، ولا على تقصّ أو استقراء، بقدر ما هو انطباع أو حكم صادر عن ملاحظات عامة. والسببُ أن الصحف والمواقع وشبكات التواصل الاجتماعي تمطرنا يوميا بعدد هائل من الكتابات "الشعرية"، وكذلك تفعل المطابع التي لا تتوقف عن طبع الدواوين، في وقت أمْسَت فيه سبل النشر والطبع ميسورة لمَنْ يملك قدرا من المال يكفي لإخراج بضع عشرات أو مئات من النسخ، لا يكاد يُباع منها سوى النزر اليسير، علما بأن كبار المبدعين صاروا يشتكون من ضعف المقروئية والإقبال على اقتناء الدواوين، فما بالك بمَنْ ليسوا كباراً ومعروفين في مجال الشعر! والأمرُ نفسُه قد نقوله عن الفن القصصي. وعلى كل حالٍ، فسوقُ الإبداع، في الشعر كما في القصة، تعيش اليوم أسوأ فتراتها، في ظل تراجع معدلات المقروئية، واشتغال الناس بأمور أخرى. ولعل مما زاد الطين بِلّة ما يعرفه هذا المشهد عندنا من "تمييع"، وكثرة المتطفلين عليه، وعدم المرور بالصيرورة الطبيعية إلى إنتاج كتابةٍ تحترم مقومات الإبداع، وشروطه، ولو في حدودها الدنيا كما قلنا؛ فإذا بنا نرى أن أيّا كان يريد أن يصير شاعرا، ظانّا أن ذلك لا يتطلب سوى استعمال جملة كلمات، وتوزيعها على الأسطر، مع الإغراب في بعضها أحيانا على نحو عبثي. وإذا بنا نرى أيّا كان يريد أن يصير قاصّا، معتقِداً أن ذلك لا يقتضي سوى إطلاق العنان للحكي وسرد الأحداث... والأدهى أنك قد تجد الواحد من هؤلاء لم يقرأ ولو مجموعة شعرية أو قصصية واحدة كاملة، بل ربما قرأ نصّا هنا أو هناك، وربما سمع ناسا يخوضون في المجال؛ فاكتفى بذلك، وتشجَّع، فأخذ قلمه، وراح يكتب مسمِّيا ذلك شعراً تارة، وقصةً تارة!!! 


6 ـ سؤال:
في رأيكم، ما هي المواصفات التي يجب توفرها في العمل الإبداعي ليجد صداه عند النقد؟

جواب:
قد لا نختلف في أن تطور الإبداع رهين بمُواكبته نقديا، وفي أن الكتابة والنشر في غفلة عن النقد والنقاد الجادّين، الذين يسدِّدون ويصوّبون، ممّا أوصل الإبداع إلى ما وصل إليه من تردٍّ وفوضىً في كثير من الأحايين. ولا يمكن للنقد أن يأخذ أي شيء ممّا يُنشر على أنه إبداع بما يكفي من الاحتفال، لاسيما حين يتبيّن أنه لم يُراعَ فيه ما كان يجب أن يراعى، ولو في حدوده الدنيا؛ كما أكرّر، وإلاّ استحال الأمر إلى عبث، ويكون الالتفات إليه مضيعة للوقت والجهد، بل إن العمل الإبداعي تُشترط فيه شروط ومواصفات ليحظى، فعلا، بالاهتمام النقدي الجادّ، وفي مقدمتها أن يحترم مبدعُه فيه مقومات الفن الأدبي الذي يكتب فيه، وأنْ يتمثلها ويترجمها لدى الكتابة، وأنْ لا يتطفل على ما لا يتقنه. كما يتعيّن أنْ ينطوي ذلك العمل على سمات الجدّية والأصالة وحُسن الرصف والسبك، وأنْ تكون له رسالة وغاية ووقْع في المتلقي. ومن المهم، كذلك، أن يمتاز بالصدق الموضوعي والفني في نظري، وأنْ يكون أكثر التصاقا بهموم الناس وتطلعاتهم، بعيدا عن التحلق في سماوات اليوتوبيا، والنأي عن آلام الشعب وآماله. ولا شك في أن أي عمل تتوفر فيه مثل هذه الشروط والميزات تكون له حظوظ أقوى ليُكِبّ عليه الناقدون بالتحليل والدراسة، وليَخُصّوه بكل ما يلزم من عناية. وهي نفسها المواصفات التي تضمن للعمل الأدبي الانتشار والاستمرار والتأثير. 


7 ـ سؤال:
ألّفتم ونشرْتُم كتباً ودراسات ومقالاتٍ في مجالات النقد الأدبي، والتربية، والقانون والترجمة. تُرى، ما نصيب التراث الأمازيغي، والثقافة الأمازيغية، من كتاباتكم؟ وهل هناك مشاريع حولهما في الطريق؟ وإذا وجدت، فهَلاّ حدثّتُمونا عنها.
جواب:
يظل التراث والثقافة الأمازيغيتان من المجالات التي تحتاج منا إلى اهتمام حقيقي، في ظل ضعف ما تحقق من تراكم فيها إلى حد الآن، رغم كل الجهود القيمة المبذولة فيهما على امتداد سنوات، سواء من قبل "المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية" أو من قبل الدارسين في الجامعات ومراكز البحث... إن التراث الأمازيغي عريق وغني جدا، وإن جوانب البحث فيه من الكثرة بمكان (التاريخ، الاجتماع، الثقافة...)، ولكن المتحقق فعليا يبقى ناقصا؛ كما قلتُ، مع تسجيل تفاوت في الاهتمام بهذا التراث حتى داخل البلد الواحد؛ ففي المغرب، مثلا، يبدو أن الاهتمام الذي حظيت به الثقافة الأمازيغية السُّوسية يفوق بكثير ما حظيت به نظيرتها في الريف، ومردّ ذلك إلى عدة عوامل، يتحمل فيها المنتسبون إلى المنطقة جزءا غير يسير من المسؤولية. وإذا استحضرنا ما قاله دستور المملكة عن الأمازيغية، بوصفها مكونا هُوياتيا أصيلا، ورصيدا لكل المغاربة، يغدو الاهتمام بها، والتمكين لها، وتوفير شروط حياتها، مسؤولية جماعية ومشتركة، على أن ذلك غير مَعني به الجهات الرسمية فقط، بل يجب أن يَضطلع المجتمع المدني، الفاعل في المجال الثقافي الأمازيغي، وكذا الباحثون في هذا الأخير، بدورهم كاملا في الاهتمام بالأمازيغية حضارةً وثقافةً ولغةً. ومن جانبي، أعترف بالتقصير بعضَ الشيء في هذا الميدان، ولاسيما على مستوى النشر. أما الاهتمام بكل ما هو أمازيغي وطني فهو همٌّ يلازمني، وقراءاتي في هذا المجال مستمرة ومكثفة، وما تجمّع عندي من وثائق ومراجع فيه يشكل، في تقديري، رصيدا محترَماً. وقد نشرت بعض المقالات، من قبْلُ، في هذا الإطار، وشاركت في ملتقيات بورقات تتخذ لها موضوعاً الموروث الأمازيغي، ولاسيما مشاركتي في ثلاث دورات ضمن الملتقى الوطني حول الموروث الرِّيفي، الذي ينظمه المجلس العلمي المحلي بالحسيمة، بتعاونٍ وتنسيقٍ مع مركز الريف بالناظور. هذا، إلى جانب حرْصِنا، في مجلة "الذاكرة" المُحَكّمة (تُعْنَى بالريف تاريخا وحضارة وفكرا)، التي يصدرها هذا المركز، ويُديرها الصديق د. الميلود كعواس، على نشر الأبحاث ذات الصلة بالتراث المشار إليه. وسأعمل، في القريب، بحول الله، على نشر جملة مقالات ودراسات حول التراث والثقافة الريفيتين. وقد أفكّر، فيما بعد، في تجميعها في تأليف أو أكثر... 


8 ـ سؤال: 
بصفتكم ناقدا، ما هو تقييمُكم للمشهد الثقافي بالجهة الشرقية خصوصا، وبالمغرب عموما؟

جواب: 
تقييمي الموضوعي للمشهد الثقافي بالمغرب أنه يتطور ويغتني باستمرار، ويشهد ميلاد أسماء وأعمال بوتيرة متزايدة، وينفتح أكثر فأكثر على جغرافيات ثقافية أخرى، بل إنه يفرض نفسه على نحو لافت للنظر؛ بفضل الدينامية الكبيرة التي عرفها في الآونة الأخيرة، والتي جعلته يحظى بالاحترام داخليا وخارجيا. على أن هذا الكلام لا يعني خلو الساحة من مُعَرْقِلات ومشكلات وثغرات، ولكن حُكمي انصرف إلى الملمح الغالب، وإلا فمثل تلك التحديات لا يكاد يخلو منها أي مشهد ثقافي عبر العالم. وللأفراد والمبادرات الشخصية والمجهود الجمعوي التطوعي إسهام قويٌّ في تنشيط الحياة الثقافية ببلادنا، بل إنه لَيَفُوق، فيما يبدو، ذاك الذي يكون مصدره الدولة ووزارة الثقافة وسائر الجهات الرسمية.
وليست جهة الشرق من المملكة استثناءً ها هنا؛ إذ شهدت، في الفترة المعاصرة، نقلة ثقافية مهمة، كمّا وكيفاً، عَكَسَها حجمُ الإصدارات في شتى الفنون والمجالات، وعدد الملتقيات والفعاليات المنظّمة على صعيدها، وآخرُها المعرض المغاربي للكتاب بوجدة. كما سجلت الجهة ريادتها، سابقا، في عدد من الحقول؛ كالمسرح مثلا، وأنجبت مثقفين مرموقين، ومبدعين رُوادا، ونقادا ذوي صِيت يتجاوز حدود البلد، وأعتذر، أستاذة أمينة، عن عدم التمثيل لهؤلاء؛ لأنهم كثيرون، ولأني أخشى أن أنسى منهم مَنْ لا ينبغي أن يُنسى...


حوار الأستاذة آمنة برواضي مع الأستاذ ( فريد أمعضشو ماي 2020)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.