ينظر إلى كلبه الجائع بإشفاق. هو آخر ما بقي بعد دمار بيته. كان وفيا، يحرس أغنامه من الذئاب الغادرة، التي تنتظر الفرصة المناسبة لتقضي على كل قاصية منها، شتتها الطائرات المسيرة التي سكنت سماء أرضه، تهوي على بساطها الأخضر كلما غمرتها شهوة الانتقام، حتى أهلكتها.
هذه أول مرة في حياته يرى فيها
كلبه يبكي، دون أن يسمع له صوتا، ما أبلغ الصمت! نهران يجريان من عينيه يزيلان غبار
السنين، وقد لبث عمرا طويلا باسطا ذراعيه بالوصيد، راضيا بقضاء الخالق، في كهف اجتمعت
فيه كل صور الحياة، أوى إليه المؤمنون بالحق، محاصرين من إخوة الدم والعقيدة، من الغرب
والشرق، من القريب والبعيد. يسدُّ العدو فتحته الوحيدة، يمنع عنهم الطعام والدواء والهواء
والضوء.
- لا تؤلمني أكثر أيها
الوفي، لا تزد فيّ جراحا أخرى تؤلم روحي، وما أكثرها؛ ترسم أشكالا جديدة، يجمعها
اللون الأحمر..
نسي أن كلبه لا يحبّ الدماء القريبة التي رافقته
في طريقه الموحش، يخشى أن يكتبَ من الغادرين الذين خانوا الأمانة؛ حين يذبح أضحية
العيد كان ينعزل في زاوية بعيدة عن البيت، لا يعود إلا بعد أن يسمع أصوات الأطفال مجتمعين على مائدة
الطعام، والناس عند بابه يلقون تحية العيد،سلاما على كل من أحب أرضه ولم يضيع
مفاتيح المدينة.
تمنى لو كانت للحيوانات
ألسنة ناطقة لسأله عن سر ما تحمله عيناه من علامات عظيمة؛ ولكن لو تكلم لكان الألم
عظيما ولزرع الخوف في أرجاء الكهف الذي لجأ إليه النازحون من كل شبر من أرض غزة،
يبحثون عن مكان آمن، من خيمة إلى أخرى، يكررون تجربة من سبقوهم من الأجداد سنة 1948، فارين من جحيم
العصا.بات الصهــ..ــيو.نية.
زحف نحو كلبه الذي لم
يتحرك، مستأنسا بالهدوء، وقد أغمض عينيه؛ كيف له أن ينام في الوضع الصعب، والناس
يئنون من جراجاتهم التي لا طبيب لها. حرك رأسه، حاول أن يفتح عينيه دون جدوى؛ فعلم
أنه انصرف عن هذا العالم دون ضجيج، كأنه علم أن القنبلة الأشد فتكا ستخترق المكان
الذي ظن الجميع أنه آمن؛ فرحمهم الله جميعا، وأحياهم عنده.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق