أعلان الهيدر

الأربعاء، 16 أكتوبر 2024

قصة قصيرة / كأنهم هم




بقلم /بختي ضيف الله - الجزائر

 

 

ينظر إلى الجبل الأشيب بالضباب، ذلك المكابر العنيد. يمسح على شجيرات غرسها شباب القرية بعدما أحرقت الطائرات الفرنسية الحاقدة غاباته الكثيفة؛ له في كل شبر أثر قدم يخلد ذكرى حزينة و أخرى سعيدة مع رفاق السلاح ممّن سبقوه إلى عالم الغيب، ومن الذين ينتظر لقاءهم في هذا اليوم البارد،  ليرسم معهم معالم ثورة نحو نصر مؤزر؛ يملأ الخوف والحسرة قلبه على مصيرهم في طريقهم الطويل والصعب؛ فالذئاب البشرية منتشرة  في كل مكان.

لكي يرفع همته، يذكره صديقه بخصاله الحميدة وبمناقبه البطولية في مسيرته الجهادية؛ بصبره أمام نوائب الدهر، قوي  كالجبال الصامدة عبر العصور؛ لا تغريه الأوسمة التي يتنافس فيها المتنافسون دون أن يبسطوا للوطن يد الإخلاص، وقد أحبه الناس وترك أثرا طيبا في قلوبهم. يحاول أن ينزع  عنه مسحة الحزن التي تلون وجهه الجميل وهو ينصت لأزيز الطائرات وقنابلها وللمدافع التي تدك الجبال دكا.

يهمس في أذن رفيقه، وهو يحاصر دموعه:

- يا رفيق دربي ألم أقل لك أنهم في محنة عظيمة وأنا هنا أختبئ تحت الأشجار والصخور مثل طريدة تخاف أن يتخطفها نسر جائع، لا أقدر على إشعال نار تدفئنا.

- لا تقلق يا أخي، إنهم قادمون؛ سيعملون ما في وسعهم حتى يصلوا إلى هنا؛ فالقضية تهم كل جزائري شريف، ولن يخونوا عهدا مقدسا كتبوه على أنفسهم.

كانت كلماته حكما لا تقدر بثمن، لكنها لم تهدئ من روعه؛ فلا يزال قلبه يحدثه بأسوأ النتائج؛ تمر أمام عينيه صورهم وهم تائهون وسط دخان كثيف متصاعد، يكاد يلتهم ما بقي من قرص الشمس؛ كمن ظل السبيل واتبع طريق العبودية تحت مستعمر بغيض، يدمر كل شيء جميل في هذا الوطن الغالي، طمعا في فتات خبزه أو رضا منه.

من رحمة الرحيم، لم يدم الدخان طويلا هذه المرة؛ أطلق سراح الجبال والقرى القرميدية التي كانت تئن تحت حصاره الخانق؛ فترى الناس يخرجون من بيوتهم إلى مزارعهم وأغنامهم التي تركوها في العراء دون حام لها من اللصوص، بينما هو في ترقب دائم وانتظار على أحر من الجمر.

رفيقه:

-هل ترى هؤلاء النازلين من قمة الجبل يا أخي؟

- لا، أين هم؟ نعم صحيح، إنهم قادمون نحونا، نعم ..نعم..إنهم هم..نعم..الحمد لله..

وقف كقائد ينتظر أحبابه، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة، ينظر إليهم بعينين ثاقبتين، يتفحص وجوههم البعيدة، يراقب خطاهم  وحركاتهم،  ورفيقه يهنئه بقدومهم ويحمد الله على سلامتهم  بعد أن استطاعوا التسلل قبل أن يتخطفهم العدو.

ولكن سرعان ما تغير وجهه بعد أن قصرت المسافة بينه وبينهم؛ فخطاهم مختلفة وحركاتهم غريبة، لا تشبه حركات الشهداء في شيء؛ كانت الأحجار تتطاير تحت أقدامهم كأنهم يطاردون جنيا ماردا، لم يكونوا رحماء بالأرض وهي تكتب عبورهم، ولا بالشجيرات التي تشهد على حب أهلها لهم، في زمن توالت فيه  قيامات الحرب، فأحرقت الأخضر واليابس، ولم يبق في القلوب متسع للحب والسلام.

يحاول أن يعيد ذكريات الأبطال الذين تربى بينهم وأعطوه قبس الجهاد، ليبعد الشكوك التي التهمت فكره فبعثرته؛ قد يكون هؤلاء من الذين التحقوا حديثا ولم يلتق بهم قبل هذا اليوم المشهود، ولم يتربوا على أخلاق الثورة ومبادئها، أو من الذين طال عليهم الأمد فنسوا ما ذكروا به، فعليه – الآن- أن يذكرهم بأبجدياتها. بيد أن معاملتهم القاسية لهما بعثرت فكره من جديد ولم يبق ما يكفي للكلمات.

بعد أن التفوا حوله، قال أحدهم:

-أنت متهم بقتل أحد الأبطال، جئنا لنقبض عليك لتحاكم محاكمة عادلة..

 وأخذوه إلى وجهة مجهولة، وقلبه يردد:كأنهم هم..كأنهم هم.. كأنهم  هم..

 أما رفيقه فبقي واقفا، تأكل قلبه الدهشة والاستغراب، شاهدا على مسيرة بطولات رفيقه العظيمة..

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.