أعلان الهيدر

الاثنين، 18 ديسمبر 2023

الرئيسية قراءة في رواية ( جسدي المستباح ) للروائي ساري محمد

قراءة في رواية ( جسدي المستباح ) للروائي ساري محمد



غريبي بوعلام


رواية من ثلاثة أقسام بدايتها كانت من نهايتها، تصوّر بطلتها الرئيسية مليكة و هي تفر من جحيم مجموعة إرهابية، حين أخذت طائرة عمودية بقصف مغارة الجبل أين تداولوا على اغتصابها.
تقرر الهروب بعد اكتشافها قرار الجماعة بقتلها لأنها حامل، قبلها قتلوا فاطمة السبية لنفس السبب، و قبل فاطمة ذبحوا السبية الثانية ليندة.
ثمانية صفحات الأولى من الرواية تلخص أهم أحداثها، تجعل القارئ ينغمس فيها، يتخيّل أحداثها، تقنية استعملها الروائي لفتح شهية القارئ على القراءة بنهم، بالتالي يلهب شوقه، يزيد انشغاله بتفاصيل الأحداث بسرد ممتع و جذاب، ليعود في الأخير إلى تلك النهاية التي كانت كبداية للرواية و ما حدث للبطلة بعد فرارها.

 
فجأة ينقلنا الروائي إلى بداية الأحداث من أولها، يعرّفنا بالبطلة مليكة و عائلتها و كيف تعرّفت على يعقوب أخو صديقتها سهام، يعقوب الذي يصير حبيبها.
الطاهر زوج والدة مليكة، شخصية شريرة رغم تديّنه الظاهر، في أعماقه نقص يعصره من الداخل، تترجمه سلوكاته، يمارس كل ضغوطه على مليكة بعد اكتشافه لعلاقتها مع يعقوب و مغامراته معها، التي لم تتجاوز في العمق عاطفة الحب الصادقة، لكن أنّ له أن يدرك تلك العاطفة السامية، فيقرر منعها من الدراسة و الخروج من البيت، و ممارسة أقصى درجات العنف ضدها بالقهر و الشتم و الضرب، تحاول مليكة التمرد عليه لكن والدتها تمنعها.
والدة مليكة في شبابها حبلت بها خارج اطار الزواج، فيضطر الذي مَثّل عليها دور الحبيب أن يتزوجها غصبا عنه، لاجتناب الفضائح لكن في الأخير يتركها، ليتزوج بها الطاهر الذي تزوج مرتين و لم ينجب بسبب عقمه.
بعد اكشاف الطاهر لقصة حب مليكة و محاولتها التواصل خفية بيعقوب، يجن جنونه، يتهمها بمحاولة تدنيس شرف العائلة، يعايرها بابنة السفاح، يخيل له أن حالتها النفسية(حُبها) حالة مرضية، تسكن العفاريت جسدها، فيستعين بالرقاة ليخرجوا الجني منها، يصف الروائي عملية اخراج الجني العصي بالتحاور معه و ضرب جسد مليكة بعد تكميم فمها كي لا تصرخ، و تكتيف يديها و رجليها و استعمال السوط، لم تنجح تلك الطريقة، فتأخذها والدتها إلى مشعوذ في منطقة أخرى، يتلو عليها طلاسم غريبة، و يكتب لها تمائم لتعلقها على صدرها.
وسط هذا الجو المشحون بالغضب و البُغض و الكراهية و كل أنواع الضغوطات النفسية القاهرة، و تهديد الطاهر بطرد مليكة من بيته بعد رفضها القاطع الزواج بالشيخ الذي أرادها زوجة ثانية بتواطؤ مع الطاهر، تضطر إلى الفرار رفقة حبيبها يعقوب إلى الجبل، و الالتحاق بجماعة إرهابية، في اعتقادها أنها تفر من جحيم البيت إلى الفردوس الأعلى.
يتم اغتصابها من طرفهم جميعا، و يعقوب لا يحرك ساكنا رغم حبه الصادق لها، تصير جارية، جعلوها للمتعة الجنسية للغسيل و الطبخ و جلب الماء.
تقع ليندة في السبي، فيأتوا بها إلى الجبل في تلك المغارة، فتقص لمليكة قصة اختطافها رفقة أختها سهيلة من بيت أبيهما في الليل بعد قتله و هو يدافع عن شرفهن، تتمكن سهيلة من الفرار قبل الوصول إلى الجبل.
شخصية ليندة عنيدة عصية لا تقبل الاهانة و لا التنازل بسهولة، رغم ذلك يتم اغتصابها بشدة، تتمرد عليهم بمواقفها المتصلبة، بلسانها السليط مستعملة كلمات نابية بذيئة، فيتم ذبحها كما تذبح دجاجة و ترمي جثتها في الوادي.
فاطمة السبية الثالثة، أرسلها والدها إلى الجبل لمساعدة تلك الجماعة الإرهابية، والدها المعروف بتعاطفه الكبير مع تلك الجماعات، كان من جماعة بويعلي، يتم اغتصابها، بعد انتفاخ بطنها يتم التخلّص منها كي لا تضع حملها عندهم، فتعلم مليكة أن الدور لها للموت بعد ظهور حملها، فتقرر الهرب للنجاة بنفسها، هو المشهد الذي وصفه الروائي في بداية الرواية.
  الروائي/محمد ساري

 
منعتها والدتها من العودة إلى البيت بعد علمها بحملها، هدّدها الطاهر بالطلاق إن عادت ابنتها إلى البيت، تركتها في ذلك المركز، لـتأتي فتاة إلى نفس المركز باحثة عن ليندة، لم تكن تلك الفتاة إلا سهيلة أخت المرحومة ليندة، لتقص عليها تفاصيل معاناة ليندة و كيف كان صمودها في وجه تلك الوحوش الضارية، وعدتها أن تساعدها للخروج من محنتها و تجعل منها أختا لها. نرى تعاطف الروائي مع البطلة مليكة محاولا أن يجد لها مخرجا من المجتمع الذي لا و لن يقبلها.
لم يذكر الروائي مصير جنين مليكة، ترى هل ستحتفظ به؟ أو تتخلص منه بالإجهاض؟ أم ستأخذه دار الطفولة المسعفة، كل الاحتمالات واردة، لهذا الرواية مفتوحة على نهايات أخرى مع المولد الجديد، لتكون مشروع رواية أخرى.
السرد أخذ شكل منحنى تصاعدي بالتدريج، كلما تقدم يزداد في التعقيد رويدا رويدا إلى أن تتشابك خيوط العقدة بحيث يصعب جدا فكها بسهولة، تتوتر الأحداث فتصل إلى الصراع الذي خطط له الروائي في ذهنه بدقة و ذكاء، ليمارس على القارئ تأثيرا كبيرا على وجدانه، ليصر كالأسير لحبكته الروائية المدجّجة بالأشواك، و يخلق في أعماقه ذلك التشويق، يقرأ كأنه يلتهم صفحات الرواية.
قِمة الذروة كانت بفرار مليكة رفقة يعقوب، و الالتحاق بتلك الجماعة الإرهابية، كأن المنحنى التصاعدي للعقدة سيستوي أو ربما سينحني قليلا إلى الأسفل، لكن يفاجئنا الروائي بتصاعد آخر سريع كالسهم المنطلق إلى السماء، تمثّل بما حدث للسبايا الثلاث التي تعتبر تراجيديا ربما لا يتصورها العقل السليم. في الأخير إيحاءات قوية و مضمرة تلهب الخيال بصراعات أقوى، لمعرفة بقية حكاية مليكة.
في الرواية قفزة في الزمن، بدأت من النهاية لتعود إلى البداية، يتواصل السرد إلى تلك النهاية و ما حدث للبطلة الرئيسية بعد هروبها من الجبل، لتستوي في ذهن القارئ كل القصة، كأن الروائي قام بدورة كاملة ليعود إلى النقطة التي انطلق منها و يواصل سرده. في الرواية فجوة تركها الروائي للقارئ لملأها بخياله، لم يقص لنا كيف صعدت مليكة رفقة يعقوب إلى الجبل، مع اغفال الحديث عن والدة مليكة و زوجها طوال اقامة مليكة في الجبل لمدة ستة أشهر، لم يشر الروائي لوالدة مليكة إلا بِبعض الكلمات، أكيد زوجها فرح بذهابها.
من جماليات الرواية استطراد الروائي ليقص لنا قصة أخرى لأحد أبطال الرواية، في نهايتها يعود إلى روايته ليربطها بها، قصة قصيرة يمكن أخذها من الرواية و جعلها مستقلة بكل خصوصياتها، كقصة والدة مليكة، و قصة ليندة و كيف حاصرها هؤلاء السلفيين في حياتها و عملها كحلاقة نساء، فرضوا عليها غلق محلها، لكنها لم ترضخ لهم، حين جاءت فترة العشرية السوداء انتقموا منها شر انتقام، بالخطف و الاغتصاب و الذبح.
أتقن الروائي تقنية الوصف أحسن استعماله بحرفية كبيرة، يرى القارئ تلك المشاهد حية نابضة على شاشة مخيلته كأنها أمام عينية، فيزداد انفعاله بتلك الأحداث المؤلمة، مشاهد واضحة كأن الروائي كان حاضرا وسط أبطاله في الجبل في تلك المغارة.
لغة الرواية سلسة غير معقّدة، يجد القارئ فيها تلك العذوبة اللطيفة و المرونة الجميلة، رغم مرارة أحداثها و سيطرة علقمها، نحت قلم الروائي تحفة فنية حلوة أدبيتها، لغة مصحوبة بصور بلاغية غالبا ما تأتى بعفوية لتزيد من جمالية النص، تُسهّل و تحبب عملية القراءة، ساعدت كثيرا الروائي على ايصال و تمرير أفكاره بسهولة، يستعمل من حين لأخر بعض الكلمات العامية لتوصيل المعنى دون الإكثار منها، أخذا بعين الاعتبار قراء العرب الذين لا يفهمون اللهجة الجزائرية.
الحوار متوفر بما يخدم الفكرة و يسهّل طرحها أثناء تبادل الكلام بين الشخصيات، نجد بعض الكلمات غير أخلاقية، مخلة بالحياء اضطر الروائي في استعمالها لموقف معين و ضرورة أدبية، للتعبير عن إحساس و غضب و الرُّعب الذي عاشته بعض شخصيات الرواية، كمثال البطلة لنيدة التى تعرضت لأبشع اغتصاب و أقصى تعذيب، ربما لو كان شخص آخر مكانها لكفر و ألحد.
العنصر النسوي حاضر بقوة في الرواية منها السبايا الثلاث، كل واحدة بشخصيتها و خصوصياتها المختلفة، تعمّد الروائي في تنويعها لإثراء أحداث روايته، و ابراز مختلف شرائح فتيات و نساء المجتمع، وإظهار إلى أي مدى المرأة محتقرة في مجتمعنا سواء قبل العشرية السوداء أو بعدها، مليكة سلّمت نفسها بحسن نية لتلك الجماعة الإرهابية و استسلامها لهم، ليندة العنيدة التي رفضت الاستسلام لهؤلاء القتلة فيتم ذبحها، فاطمة التي سلّمها والدها لهؤلاء الخنازير، سهيلة الرياضية التي تمكنت من الفرار بعد القفز من الشاحنة التي كانت تنقلها كسبية إلى الجبل، جَدة مليكة المؤمنة بخرافات العفاريت و تأثر مليكة بها.
سِهام أخت يعقوب خاضعة لأخيها الأكبر الذي أوقفها عن الدراسة ليزوجها، المرشدة فوزية التي تعمل في المسجد كداعية، و نصيرة الخياطة نموذج المرأة المطلقة التي تعاني في صمت، تبحث عنها مليكة لتعلمها فن الخياطة بعد طردها من الدراسة، جعلتها ذريعة لتخرج من البيت كي تلتقي بعشقيها يعقوب سرا، و والدتها التي تعيش تحت قسوة زوجها الطاهر.
نلاحظ في النص مفارقات و تناقضات شديدة ركّز عليها الروائي، كانت صادمة لإحساس القارئ جعلته يفكر و يعيد التفكير فيها و طرح السؤال على نفسه بخصوصها، دعوة مضمرة لإعادة النظر في بعض المفاهيم الراكدة في عقولنا، و ضرورة هدمها و بنائها من جديد، و ما الإبداع و الأدب إن لم يهز القارئ من الأعماق؟ العلاقة الجنسية محرمة خارج اطار الزواج، لماذا يمارسها هؤلاء باسم الدين؟ رجل يموت مدافعا عن عِرض بناته و آخر يرسل بنته لتلك الجماعة من أجل الجنس، إلى غيرها من متناقضات صارخة.
تعالج الرواية قضية سبي النساء التي تعتبر من المواضيع المسكوت عنها، نظرا لحساسيتها و ما فيها من فضائع و كوارث بشرية، ارتكبت في التراث و التاريخ الإسلامي سواء بين المسلمين أو مع غيرهم، للروائي جرأة كبيرة على فتحها من خلال أبطالها، السبي بكل ما فيه من خطف و اغتصاب و اعتداء على انسانية الإناث، و ما يتبعه من فتح لأسواق النخاسة، كما حدث مع داعش.
كان أمير الجماعة يعقد قِران مليكة مع واحد من جماعته ليغتصبها ثم يطلِقها منه، ليعقد قِران آخر فيغتصبها ثم يطلقها، هكذا إلى أن أغتصبها الجميع، زواج المتعة المعروف عند الشيعة، زواج عُمره بضع دقائق، أحيان كثيرة الاغتصاب يكون مباشرة، و ممارسة جهاد النكاح الذي تمثّل في شخصية فاطمة التي أرسلها والدها لتشارك في الجهاد.
هكذا يتم الاستهتار بالمبادئ و الأخلاق من طرف الذين يدّعونها، جعلوا الدين في خدمة شهواتهم الطاغية المكبوتة في أعماقهم.
سبب كل ذلك الخراب و الدمار هو تقديس التاريخ بما فيه من أخطاء و انحرافات لأنه أفعال بشر، و رغبة الفكر السلفي المتطرف في عودة و احياء ذلك التاريخ الدموي بحذافره في القرن 21، بكل ما فيه من انزلاقات خطيرة ضد انسانية البشر.بحجة نشر الدعوة الإسلامية و التوسع الجغرافي( الغزو) يتم سلب أراضي الناس و ثرواتهم و استعبادهم و جعلهم رقيق.كتب التاريخ المعتمدة تقص لنا فجائع و فضائع يندى لها الجبين تتقطع لها القلوب، تم اخفاؤها علينا من زمن طويل، لكن مع ابتكار النت صارت كل المراجع متوفرة، و البحث عن الحقيقة سهل جدا، كل هذا كشف المخفي، فضح هؤلاء الشيوخ الذين أخفوا علينا تلك الحقائق المرعبة، فصارت مصداقيتهم في مهب الريح.
تطرق الروائي لموضوع تلبس الإنس بالجن، فهل الجن يعشش في جوف البشر؟ من خلال شخصية مليكة التي عانت الأمرين تحت ضغوط الطاهر و نظرة المجتمع لها، زد عليها قصة حبها الفاشلة مع يعقوب، عوامل جعلتها تعيش اضطرابات نفسية صعبة و خطيرة، تم تفسيرها بعفريت أو جني يسكنها، هو سبب ما يحدث لها، صارت مليكة تهلوس تتحدث مع الجني الذي أُغرم بها و يريد الزواج منها، بعد فشل الرقاة من طرد الجني، تلجأ والدتها إلى الشعوذة، في الأخير يظهر أن حالتها النفسية علاجها هو زوال تلك الضغوط المفروضة عليها، و لقاءها مع من تحب تحت سقف واحد، كانت من حين لأخر عندما تلتقي بيعقوب خفية، تصير إنسانة أخرى كأنها وُلِدت من جديد.
يُظهر لنا الروائي تفاهة تلك التفسيرات الغيبية لأمراض نفسية، يمكن معالجتها بالطب النفسي الحديث دون اللجوء إلى طرق جاهلية ألبسوها لباس الدين، ليتم قبولها و التسليم لها بكل سهولة، ملغية العقل كله، نفس الكلام لتلك الشعوذة التي تدل على جهل مطبق و فِكر مصفّح مغلق.
في الرواية اشارات قيمة عن مراحل عصيبة مرت بها الجزائر، كمقتل الرئيس بوضياف على المباشر، نجاح الحزب الإسلامي المنحل في الانتخابات و بداية تخريب و تدمير البلاد و الاغتيالات المبرمجة، حتى مليكة شاركت في توزيع منشورات الحزب التي منحها لها يعقوب.
 
غريبي بوعلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.