غريبي بوعلام
فروض الطاعة
جميلة لا ترتدي غير الأحمر، لا تأكل غير الأخضر، ويمتقع وجهها بالأصفر وهي تراه ينحني ليقبل يدي ورأسي...تقفز كما الجرادة من زاويتي المنفرجة لزاويته الحادة، لترقعه بنظرة آمرة أن _ خلف در... يدهشني كبدي، إذ يتحول...كما المتحولون في الأفلام السنيمائية المرعبة...وينسحب كما الزئبق من مجلسي الذي كثيرا ما تعيرني به...وتنعتني بوقاحة منقطعة... بالرادار...وتلقي في وجهي... _ ما يقعد فالباب غير الداب... لا أحك هذا الوجع لأحد..رغم أنه ليس سرا...لولا انك حركت في داخلي الوجع...يا امرأة اخلفت عهدها لي وسكنت هذا القبر...لمن سأشكو جميلة بعد اليوم ...ابني الذي يعشق عينيها الخضراوين...يغرق كل مساء في زواياها الماكرة ويفقد حاسة السمع والرؤية والشم أيضا... فلا أنيني يفجعه، ولا حرائقي تزكمه، ولا المكان الذي انتقيته لأراه كلما دخل يلفته، فجأة توقف عن الانحناء وتقبيلي، فجأة صنعت منه جميلة صرصور يقفز مثلها ويتجاوزني بأكياسه المليئة بألوان جميلة المفضلة، وبكل ما تحب أن تأكل جميلة... _ أما أنا، يا خائنة العهد...سآكل التراب، ليس لي غير هذا المكدس على جثتك لأتمرغ عليه كقطة جرباء، وألعق حرقتي، وحرقتك...فلم يخف علي يوما انك رحلت بغصة تشبه جميلة.
----------
مباشرة القاصة جعلت القارئ في قلب الحدث، بعد تقديم جميلة بكلمتين و ما تحبه من المأكولات، لكن فجأة يمتقع لونها، يصير كصفرة الليمون، و هي ترى زوجها يهم بتقبيل يد و رأس والدته، فتأمره بنظرة واحدة منها ( أن خلف در ) هذا الأمر لا يستعمل إلا في الثكنة العسكرية، استعملته القاصة لتظهر لنا مدى سيطرة هذه المرأة على زوجها و تحكمها فيه، كأنها ضابطة سامية في الجيش، و هو الجندي البسيط الذي تحمل أكتافه الفراغ، توقف القاصة سردها لتصف ما يجول في أعماق والدة زوجها الذي كانت تنتظره عند باب البيت، لتظهر لنا مدى حبها لابنها و شفقتها عليه و على حياته مع هذه الزوجة التي تحاول بلا هوادة تطليقه من أمه، زيادة على تلك النظرة المملوءة بالحقد و الضغينة تعاير والدة زوجها بقولها لها أن لا يقف عند الباب إلا الداب، و الداب تقصد به الكلب الذي يبقى عند الباب للحراسة، كل هذا و الزوج بجانبها يرى المشهد الدرامي و لا يحرك ساكنا، بعد أن شلته زوجته بنظرتها القاتلة كأنها لسعة عقرب، لتجمّده في مكانه و تسمّره بالأرض، حتى أنه لم يقبّل والدته، و ينصرف عنها دون كلمة واحدة، دون أن يمنحها حتى القليل من المأكولات التي بالكيس الذي في يده الذي يحمل أشهى مأكولات جميلة، التي جعلته يقفز كالصرصور من عند أمه، هنا نلمس تلك السرعة العجيبة في استجابة الزوج لأوامرها ( العسكرية ) و تستعمل القاصة ما يسمى بالحوار الداخلي ( المونولوج ) لتظهر لنا ما يجيش في أعماق الوالدة من الم عميق كيف ينحر قلبها طولا و عرضا، و يمزّق روحها إلى النخاع، مع ذلك لا نشعر أنها تكره و تبغض فلذة كبدها، بل تكن له كل المحبة الصافية و العاطفة الرقراقة الراقية، و تعذره بقولها أنه يحب زوجته و جمالها الظاهر إلى درجة العمى أو عمي البصيرة، تلوح القاصة إلى أن هناك نوع من السحر إن صح هذا التعبير، لتحاول تبرير سلوك هذا الرجل نحو والدته، و قبل نهاية القصة تقفز بنا الكاتبة إلى مشهد أخر، و هي تصف قلب الوالدة عند قبر اختها و تجتر ألمها المُر كالحنظل عليها كأنه ابنها الذي ضمه الثرى في أحشائه مجازا، رغم كل ما فعله فيها و هو على قيد الحياة، هكذا قلب الأم الذي لا و لن يعرف الحقد و البغض على أولادها مهما فعلوه فيها، برعت القاصة بذكائها الأدبي في وصف مشاعرها خاصة عندما قابلتها مع عاطفة الزوجة، و بمجرد أن يقارن القارئ بين القلبين يدرك الفارق الشاسع بيتهما، خاصة اذا تأملنا موقف الزوج كيف كان قلبه و هو بين أمه و زوجته، الذي لم يتمكن ايجاد ذلك التوازن بين الزوجة و الوالدة، فمالت كل الكفة بثقلها إلى الزوجة، إلى أن طاشت في الهواء كفة الوالدة التي جعلت منه رجلا بكل ما تحمل هذه الكلمة من عمق و سمو.
القصة موفقة جدا في مجملها، محكمة البناء، سردها متماسك و مكثف، لا تجد فيها ذلك الحشو أو الاطناب اللذان يثقلان القصة فينفر منها القارئ، استعملت القاصة صور بيانية لتقريب عمق المعنى و مغزاه من ذهن القارئ، لتؤثر فيه بتلك الأدبية الجميلة و تصل بسهولة إلى وجدانه، و تفتح فيه مغاليق مشاعره و تدخلها في عالم تلك القصة المتخيل من خلال تلك الكلمات المملوءة بالإيحاءات الجميلة المؤثرة على السامع أو القارئ و هي تمسك وجدانه، و تلفت انتباهه و تتركه منجذبا و متفاعلا مع أحداث القصة المؤلمة بالتعاطف أو التنافر مع أبطالها و القاصة تحركهم بأسلوبها الجذاب، ما يلفت الانتباه هو الاستعمال الجيد للتشبيه الذي حمل في طياته تلك المعاني الخفية، خاصة عندما شبهت ذلك الزوج و هو يقفز كالجرادة من زاوية الزوجة، ثم جعلته كالصرصور حين جعلته يقفز من والدته، في الأخير شبهت الوالدة بقطة جرباء و هي تتمرغ على الثرى الذي يضم اختها و هي تتحسر عليها وقد قتلتها كنتها التي تشبه جميلة ، كما نجد في القصة الاستعارة التي عمقت المعنى و الكناية التي تزخرفه، دون أن ننسى الحوار الداخلي الذي من خلاله تمكنت القاصة من ولوج عمق معاناة تلك الأم المعذبة و ( المونولوج ) من الأدوات الأدبية التي بها يمكننا الحفر إلى أعماق أبطال القصة، في الأخير أقترح على القاصة أن تجعل العنوان في كلمة واحدة ( الطاعة ).
----------
غريبي بوعلام / الجزائر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق