آمنة برواضي
الحلقة الثاثة عشرة من سلسلة " مع الناقد " مع الدكتور عبد المجيب رحمون.
السلام عليكم دكتور : عبد المجيب رحمون
أولا، أرحب بكم وأشكركم على تفضلكم بالموافقة على الإجابة عن أسئلتي؛
ليكن أول سؤال.
1 - من هو عبد المجيب رحمون؟
جواب:
بداية، أشكرك سيدتي الفاضلة على هذه المبادرة الطيبة ودعوتكم الكريمة لي إلى هذا الحوار، لاشك أنها مبادرة تعكس اهتمامكم بالساحة الثقافية، وانشغالاتكم المعرفية. وقبل أن أتحدث عن نفسي بكثير من الصراحة والاقتضاب، لابد أن أتقاسم مع القارئ جزءاً من مسارك الأدبي وأقدمك له، "آمنة برواضي" روائية وقاصة وباحثة من مدينة الناظور، أستاذة مادة اللغة العربية، تبدع في صمت وتعلن تضامنها مع القضايا الإنسانية الراهنة والمرأة بشكل عام، من خلال مجموعة من الأعمال الروائيةو القصصية نذكر منها على "ذمة التحقيق" الفائزة بالجائزة الأولى للرواية العربية بمدينة وجدة سنة 2016 و"منعرجات ضيقة"، "شظايا حارقة"، "قطرات الندى" وآخر عمل لحدود الساعة هو رواية "عندما تقرع الطبول".
أعود إلى سؤالك؛ "عبدالمجيب رحمون" من مواليد مدينة شفشاون سنة 1976، ترعرع في مدينة طنجة؛ حيث انتقلت الأسرة إلى هناك أواخر سنة 1979 لظروف عائلية واجتماعية، عاش طفولة جمعت بين الاهتمام المفرط للإخوة، وبين الرغبة في التحرر، وممارسة شقاوة الأطفال، فحققت ذلك خلسة، فكان شغبنا و لهونا يجوب الآفاق في الحي الشعبي الذي تقطنه الأسرة ومازالت. في هذه الفترة تمكن فعل القراءة من التسلل إلى وجداني رغم أني لم أدرك بعد أهمية القراءة وجدواها، ولكن هو رغبة وفضول أشبعهما؛ وهنا أدين لإحدى أخواتي في هذا الصدد حيث كانت تشتري مجلة "المختار" بانتظام، فتحفزني لقراءتها، إما بخرجة ترفيهية أسبوعية، أو بإغراء مادي بسيط، وفي كثير من الأحيان بهدية رمزية، وبالمناسبة هذه المجلات مازلت احتفظ بها في مكتبتي عرفانا لأختي، وذكرى عزيزة بالشروع في القراءة؛ أتحدث هنا عن سن العاشرة تقريبا.
أنهيت مرحلة الابتدائي والإعدادي والثانوي بمدينة طنجة، لأنتقل للمرحلة الجامعية في مدينة تطوان، بكلية الآداب مارتيل سنة 1996، ما يمكن أن يقال عن هذه المرحلة أنها بداية للتعمق في المسائل الفكرية والأدبية والاطلاع على جواهر الكتب، وقراءتها قراءة الباحث رغم ما يفرض على هذه المرحلة من نزق وطيش الشباب، لكن بفضل الله استطعت اجتياز هذه المرحلة بنجاح وتفوق، واكتساب جانبا من مهارة التحليل والقراءة، بعد المرحلة الجامعية ولجأت سوق الشغل في القطاع الخاص كمدرس ومدير تربوي لمدة تسع سنوات، حيث كان ولوج الوظيفة العمومية أمرا صعبا من جهة؛ ومن جهة أخرى فرض علي نسق العيش الاجتماعي والعائلي أن أتكيف مع هذا الوضع، في هذه الفترة كنت أعد شهادة الماستر التي خولتني بعد ذلك اجتياز مباراة التوظيف، تقدمت للامتحان الكتابي في تطوان سنة 2009 والامتحان الشفوي في مدينة الرباط، فوفقت بإذن الله، ليتم تعييني في شتنبر 2009 بمدينة طاطا في أقصى الجنوب الشرقي وبالضبط "قرية ألوكوم" أستاذا للتعليم الثانوي التأهيلي، انتقلت بعد أربع سنوات إلى مدينة وزان، حيث قضيت موسماً دراسياً واحداً؛ لأنتقل إلى مدينة الجبهة بإقليم شفشاون كناظر للدروس، ثم العرائش كمدير، والآن في مدينة تطوان؛ في المهمة نفسها مدير ثانوية تأهيلية.
خلال مرحلة التدريس تسجلت في سلك الدكتوراه؛ وبفضل الله و بفضل أساتذتي في الكلية وأصدقائي ومعارفي وأسرتي الصغيرة والكبيرة حصلت على شهادة الدكتوراه في الأدب العربي تكوين الأدب القديم بميزة مشرف جدا من جامعة عبد الملك السعدي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان سنة 2016.
سؤال:
2 - من موقعكم كناقد كيف ترون مستقبل النقد مع كثرة الإصدارات الأدبية؟
جواب:
لا بد من التوضيح في البداية بأني في بداية ممارسة النقد الأدبي والفني، ومحاولة قراءة الأعمال الأدبية قراءة متصلة بأسئلة منهجية وفكرية تستعين بأدوات النقد الثقافي والبلاغة القديمة، كما تحاول توظيف الآليات الحديثة في بناء المفاهيم من قبيل الأسئلة التي تطرحها السرديات والتداولية والنظرية الحجاجية التواصلية، وهي آليات إجرائية أساسها بناء محاولة نقدية فكرية تستجيب للنص وتسائله في محاورة وسجال نقدي تأويلي، باعتبار أن مرحلة "ما بعد الدكتوراه" هي مرحلة لبناء وإعادة المفاهيم، والبحث من جديد؛ لكن بدون مشرف ودون مؤطر، إنها مرحلة ثانية تسبق مراحل كثيرة في سلم المعرفة، مع تغيير مجموعة من المفاهيم والثوابت، وبالتالي فأنا أؤمن بشكل مطلق بما كان يردده أساتذتنا؛ بضرورة البحث وإكمال المشوار العلمي، وعملية البحث هاته لن تتأت إلا بالاعتكاف على أعمال أدبية جديدة، والاطلاع على دراسات نقدية متنوعة من حيث مجالها وتخصصها ومن حيث لغتها؛ أي الانفتاح على دراسات باللغات الأجنبية، وذلك من أجل تطوير ملكة النقد، فالأولى (قراءة الأعمال الأدبية) تنفتح من خلالها على إشكالات معرفية، وأسئلة في الكينونة والوجود، والثانية (قراءة الدراسات المواكبة للإبداع) توجهك توجيها صائبا لوضع الأجوبة في مكانها المناسب. ولعلنا نلمح ونحدد بشكل موجز مسؤولية الناقد، فإذا كان الشعر على سبيل المثال يعتبر "عملية إبداعية يسعى إلى إيقافك وجعلك ترى باستمرار شيئا ماديا مجسدا، ومنعك من الانزلاق إلى سياق تجريدي"، فإن مسؤولية الناقد تتدخل هنا لقراءة نصية، وقراءة متعددة الأبعاد، مع العلم أن النص له سلطة وحرمة لا ينبغي الاعتداء عليها، لأن الكاتب في نهاية المطاف لا نسائله عن نواياه وأهدافه وغاياته، وإنما نحاكمه عن طريقة البناء والتوظيف والاشتغال.
وإذا تتبعنا مسار الشعر العربي عموما وكيف تعامل معه النقاد القدامى أمثال "ابن سلام الجمحي، وقدامة بن جعفر، وأبي هلال العسكري وغيرهم، نجد أنه كان ينظر إليه كجملة من النصائح والإرشادات والحكم والمواعظ، وخطابا مؤثرا أثناء الحروب والنزاعات، أو في مجالس الخلفاء، دون الإخلال بالوظيفة الفنية الإمتاعية فكان عبارة عن "منظومة أخلاقية وأسلوبية"، أما الآن فينظر إليه انطلاقا من شروط تحقيق الإقناع، بمعنى حجاجية النص الشعري، وهنا أضحى "منظومة حجاجية إقناعية" خصوصا مع توغل بعض الشعراء في التجريد والغموض الذي يعد خاصية من خصائص الشعر العربي الحديث، حيث استجاب شعرهم لسياق الوضع العربي وما عرفه من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية.
فالنقد يتطور بتطور المناهج والنظريات، كما يتطور بتنوع ضروب الحياة ومشاكلها، التي تعكسها الأعمال الفنية، دون إغفال أن النقد القديم يمد ـــ بشكل واضح ـــ النقد الحديث بالأدوات والإجراءات النقدية التي تسعف الباحث على بلورتها وتوظيفها في أعماله النقدية، فتلاقح القديم بالجديد،مفهوم وارد ومطروح في الحضارة الإنسانية عامة.
وارتباطا بسؤالكم عن مستقبل النقد سأقول لكم لماذا لا نتحدث عن مستقبل الأدب عموما، لأن في نهاية المطاف فالنقد هو قراءة ثانية أو قراءة أخرى، والنقد المنهجي يرفع قيمة العمل الأدبي؛ من حيث كشف مواطن القوة والخلل. لكن يُلاحظ اليوم أمام انتشار الوسائط التكنولوجية وإمكاناتها المتاحة؛ ما يمكن الاصطلاح عليه بالهجرة نحو الإبداع والكتابة في ظل ما يشبه الانزواء أمام عملية القراءة. ومن خلال تقارير دولية أممية رسمية يتبن أن المجتمع العربي لا يقرأ، وأن جل وقته يقضيه في أمور بعيدة عن الثقافة وعوالمها. إننا أمام معادلة خطيرة غير متوازنة؛ كثرة الإصدارات مقابل ضعف القراءة؛ مما يجعلنا نتساءل بنوع من التوجس عن مستقبل النقد والأدب عموما. رغم ما نراه ونعيشه من دعوات كثيرة للقراءة، وتشجيع المشاريع في هذا المجال؛ نذكر مثلا مشروع تحدي القراءة العربي، وكذلك تأسيس مجموعة من المراكز والشبكات التي تعنى بالقراءة (شبكة القراءة بالمغرب)، بالإضافة إلى وجود "أندية للقراءة والإبداع" في جل مؤسسات التربية والتعليم بالمغرب، وإنشاء معارض جهوية ووطنية احتفاءً بالكتاب؛ هذه الأمور تعكس اهتماما كبيرا بالقراءة، لكن الواقع يثبت أنه مازال أمامنا أشواطا من العمل لنصل إلى معدلات مرتفعة في القراءة، وهذا يتطلب وعيا ومسؤولية من الجميع. فعلا إننا أمام وضع مقلق ومحير، ومعادلة غير متكافئة؛ وفرة الإنتاج والاهتمام بالكتاب لا ينعكس على المجتمع، من خلال ما نلاحظه من غياب لقيم الهوية والمواطنة واحترام الغير.
واستمرارا في الحديث عن مستقبل النقد نقول بأن النقد يجب أن يواكب العمل الإبداعي و لا يبخس حقه، كما نريد من العمل الأدبي أن يتأسس وفق قواعد متينة علمية على رأسها كثرة القراءة وتنوعها. وفي هذا الصدد يقول "شوقي ضيف": «نقصد بالنقد الذي يقوم ويقدر ما للنص الأدبي من قيمة فنية، بعبارة أخرى النقد المقصود هو الذي يتجاوز فيه الناقد درجة الشعور إلى درجة التفكير». ويضيف: «لا يُـحْدِث أديبٌ عملا أصيلا بدون ثقافة عميقة». والنقد كما يرى "رينيه ويليك" لا يوجد إلا ليساعدنا على فهم الأعمال الفنية، ومن القضايا التي يثيرها النقاد كثيرا قضية الأدب والحياة الاجتماعية، فهل يحسن بالأديب أن يوجه أدبه نحو الوفاء بقيم مجتمعه التي تدفع به إلى الأمام؟ أو يوجهها نحو القيم الذاتية والفنية وما ينطوي فيها من إتقان التصوير وروعة التعبير؟ أم إذا استغرق في نفسه وخيالاته ومشاعره الفردية فإنه يصبح منفصلا عن أمته، وبالتالي يصبح أكثر تعرضا للانفصال عن المجتمع الإنساني؟.
هذه جملة من الأسئلة يطرحها الأدب بشكل عام، كما يطرحها القارئ المتخصص، وأنا الآن مستمر في تحديد مسؤوليات الناقد التي تؤطر مستقبله؛ أي مستقبل النقد. والتي يمكن أن نلخصها بشكل عام في: "الموضوعية"، "الأمانة العلمية"، " الجدة والأصالة" و"الكفاءة المعرفية المشروطة بكفاءة نقدية".
أمام هذه المعطيات فإن النقد سيسهم في عملية توازن للأعمال الفنية، ويخلدها ضمن التراث الإنساني. وسينير مستقبله ومستقبل الأدب عموما.
سؤال:
3 - دكتور ما هي المواصفات التي يجب توفرها في العمل الإبداعي ليجد صداه عند النقاد؟
جواب:
سؤال:
4 ـ ماذا يعني لديكم النقد دكتور ؟
خلال مرحلتي الجامعية، كانت لنا مجموعة من المواد والحصص ندرس من خلالها منهجية القراءة والتعامل مع النصوص، وأذكر جيدا كيف استفدنا من أساتذة الماستر " تكوين النص النثري العربي القديم، دراسة في الأشكال والأنواع " الذي كانت تشرف عليه "فرقة البلاغة وتحليل الخطاب"؛ حيث تعلمنا أن قراءة وتحليل النصوص ليست بالشيء الهين، وأنها تتطلب جهدا معرفيا مضاعفا؛ كانت صرامة أساتذتنا حينها تتوخى بناء المفاهيم والمعارف وتكوين طالب باحث.
وأثناء احتكاكي بالنصوص القديمة والحديثة بعد مرحلة الماستر؛ ومن خلال تحضير شهادة الدكتوراه، أو حتى الآن أثناء الاشتغال على بعض الأعمال الإبداعية، أو أثناء تحليل بعض النصوص الروائية والشعرية مع طلبة الماستر؛ نؤكد على أن قراءة النص لابد أن تستجيب لكفاءة نقدية ومعرفية، دقيقة و صارمة، لذلك أردد دائما أن النص ينبغي أن يحظَى بتقدير القارئ، وأن يمنحَه الوقت الكافي في القراءة، ألم يقل "أمبيرتو إيكو" بأن "النص آلةٌ كسولةٌ" فهو يحتاج إذن إلى قارئ نموذجي يشتغل تأويليا كما يشتغل دلاليا، ثم تأتي عملية التفسير والتحليل فالتقييم الذي يجب أن تخضع بدورها لقواعد علمية وليس انطباعية.
إن النقد عملية مضاعفة تلي عملية القراءة، وعلينا أن نميز بين النقد الروائي والقصصي والنقد الشعري ونقد النصوص الأدبية بشكل عام رغم ما تتضمنه النصوص من قواسم فنية مشتركة أساسها "مبدأ الالتزام"، ونعني به التقيد بالخطوات والمعايير المؤسسة لكل عمل إبداعي.
وبالعودة إلى التعريف اللغوي لكلمة "نقد" فإن المعاجم اللغوية تتفق على كون الكلمة تعني تمييز الجيد من الرديء والحسن من القبيح، وبمعناه الاصطلاحي فهو النظر في طبيعة الأعمال الأدبية وخصائصها وقيمتها الفنية. وهو حسب "نورثروب فراي" «بنيان من الفكر والمعرفة له وجوده الخاص». وحسب "إحسان عباس" هو «القدرة على التذوق والتمييز ثم الانتقال إلى التفسير والتعليل والتحليل والتقييم». والقضية النقدية قديمة قدم التراث الأدبي، وارتبطت كما نعلم باليونان والرومان، وعند العرب في العصر الجاهلي بنقد الشعر، وكتب التراث تسجل لنا الكثير من المظاهر النقدية أهمها احتكام الشاعرين "امرؤ القيس" و"علقمة بن عبدة" إلى "أم جندب" للنظر في وصفهما للفرس أيها أجود.
ويعني لي النقد عامة؛ لغة واصفة علمية مبنية على قواعد معرفية وخطوات إجرائية. وبالتالي فإن دراسة الأعمال لا تقوم على الانطباع والأهواء، بل على أسس علمية حتى يكون نقدا بناءً وليس نقدا هداما من أجل النقد فقط. النقد العملي المنهجي هو الذي يُغني العمل ويثريه ويضيف إليه، فالنقد إذن جهاز مفاهيمي يختزل معطيات دقيقة عن العمل، والنظر إليها بالموازاة مع المباحث والمناهج والنظريات التي تحدد طبيعتها.
سؤال:
5 - من موقعكم كناقد وأستاذ جامعي زائر هل تعتقدون أن هناك أدبا نسائيا وأدبا رجاليا أم أن الفرق الجوهري بين كتابة الجنسين يكمن في درجة الإبداع ومدى تحققها في العمل الإبداعي؟
جواب:
لا يخفى على الجميع أن درجة الإبداع تميز كل عمل دون أن ننظر إلى تصنيفه الجنساني، فدرجة الإبداع هي المؤشر الذي تحدثنا عنه آنفا والمتمثل في الأثر. من هنا نقول بأن الأدب لا يقبل التخصيص أو التقسيم بقدر ما يقبل التقييم. ولكن لا يمكننا أن نتجاهل مفهوم الكتابة النسائية، باعتباره مفهوما ترسخ مع وجود المرأة الكاتبة منذ مطلع القرن التاسع عشر، وهنا نتحدث عن الإبداع النسائي وأنت أستاذة آمنة جزء منه بالنظر إلى مسارك الأدبي. فالكتابة النسائية تجسد انتقال المرأة من موضوع إلى أداة تُسهم في بناء عوالم النص والبحث في شروط الحبكة النصية، كما أنه انتقال من وضع التأمل والتفكر والاستسلام إلى وضع التحرر والانعتاق ومزاحمة الرجل في حصنه اللغوي كما يقول الناقد "عبدالله الغذامي"، لقد ولجت المرأة عالم الكتابة لتعلن أنها كائن لغوي وأن ما عرفته من تهميش لم يكن إلا جانبا من النسق الثقافي للمنظومة العربية؛ هذا الجانب الذي عمل على تغييب المرأة لاعتبارات اقتصادية وسياسية واجتماعية؛ لأن الكتابة صناعة ذكورية كما يؤكد ذلك تاريخ الأدب. ومع ظهور حركات تحررية أدبية وسياسية، في الغرب بزغت بوادر أدب يعكس تطلعات المرأة، نحو الانعتاق والبوح والتعبير عن مكنونات الذات ونوازع الأنثى؛ من هنا اصطلح على هذه التجربة بالأدب النسائي واستطاعت المرأة أن تؤسس لنفسها عالما فنيا يستجيب لطموحاتها وخصوصياتها، وهنا يمكننا أن نتحدث عن الفرق الجوهري بين ما يكتبه الرجل وما تكتبه الأنثى، أي في حجم الأحاسيس والمشاعر والقضايا التي يتم طرحها؛ وبالتالي لا يمكن أن نقبل بتقسيم الأدب إلى رجالي ونسائي تقسيما بيولوجيا، فالأدب حسب "رشيدة بنمسعود" "وزهور كرام" و"سعاد الناصر" وغيرهن لا يقبل التقسيم والتصنيف استنادا إلى معيار الذكورة والأنوثة، وإنما يمكن تحديد الفرق من خلال خصوصية الكتابة. واستنادا إلى هذه القناعة المعرفية نلغي إمكانية التمييز بين الأدب الرجالي والنسائي، لكن تجدر الإشارة إلى أن الكثير يرفض هذه التسمية بحجة أنه يُفيء الأدب، ويعمل على ترسيخ ثنائية المركز والهامش، وهذا الأمر يكرس دونية المرأة بالضرورة، لذلك فلأدب يسع الرجل والمرأة بدون تصنيف.
وكما تعلمي فلقد انتشرت الكتابة النسائية بشكل لافت مند السبعينيات، وقد تمكنت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان من اعتماد ماستر خاص بالكتابة النسائية الذي تزامن مع الجهود الفكرية والعلمية للأستاذات والأساتذة من أجل إرساء هذا المفهوم، وتكوين جيل من الطلبة في هذا المسلك الذي يعبر عن مفهوم قائم يقرأ الإبداع النسائي ويبحث في حقوله المعرفية والنقدية. ولنا شرف المشاركة في تدريس بعض حصصه المتعلقة بنقد الإبداع النسائي.
و دفاعا عن هذا المفهوم؛ ترى الكثير من المبدعات أن الأدب النسائي يصدر عن المرأة من أعماقها وصدق أحاسيسها، لأن الرجل في اعتقادهن لا يمكن أن ينجح في رصد هذه الخصوصية. وبالتالي يؤكدن على مفهوم الكتابة النسائية؛ وامتداداته المعرفية، ولهذا نشهد أعمالا وأبحاثا نسائية مغربية وعربية حظيت باهتمام النقاد كما نافست في الجوائز العالمية والعربية. لأن المرأة استطاعت أن تجد لنفسها وذاتها مكانا مشرفا في حقل الأدب الذي ظلت مغيبة عنه لعقود من الزمن.
سؤال:
6 - ما هي رسالتكم للروائيين خاصة الشباب منهم؟
جواب:
إنه سؤال جسيم أستاذة آمنة، باعتبار أن توجيه رسالة هي مسؤولية عظمى، وانطلاقا من تجربتي المتواضعة البحثية والتدريسية في السلك الثانوي والجامعي (كأستاذ زائر) ومواكبة بحوث الطلبة وقراءتي لعدد لابأس به من الإبداع العالمي والعربي، سأقول بكل صراحة أن آفة الكتابة الاستعجال، والرغبة في الظهور، وهنا يحضرني رأي الناقد الكبير "شوقي ضيف" الذي يقول: «وليس هناك شيء يضر الأديب الناشئ كمحاولة الظهور السريع، وهو ظهور تكثر وسائله في عصرنا، عصر الصحف والإذاعة والصور المتحركة والناشرين الكثيرين...فتلك الوسائل ضحاياها من المتعجلين الذين لا يأخذون فرصة للنمو الطبيعي والتخلق والاختمار»، وهذا الرأي كان منذ أكثر من أربعين سنة قبل زحف العولمة وانتشار الرقمنة ووسائط التواصل الاجتماعي. فالاستعجال آفة مكروهة في العمل كله، والمقصود به الاستعجال المتهور؛ الغير المدروس دراسة دقيقة ومبنية على مراحل محددة.
إن غواية الرواية أو الابداع عموما ينبغي أن تُقاوَم؛ ومقاومتها هو الصبر، وتكثيف وقت القراءة والحفظ، والنظر في العملية الإبداعية من حين لآخر لتصل مرحلة الاختمار كما سماها "شوقي ضيف"؛ ألم يأذن "أبو نواس" "خلفا الأحمر" في نظم الشعر فقال له: عليك بحفظ ألف مقطوع للعرب بين أرجوزة ومقطوعة وقصيدة ثم انسها. الغاية من هذا التدريب هو صقل الموهبة وتنميتها وتطويرها وهو ما نسميه بالتكوين الذاتي الذي من شأنه أن يرفع شأن كل أديب وناقد.
فالإبداع في النهاية هو عملية تلاقح بين موهبة أو طاقة، وبين وسط ثقافي واجتماعي يغدي هذه الطاقة ويحفزها على الظهور والابتكار.
سؤال:
7 - باعتباركم تزاولون مهنة التدريس كيف ترون مستقبل الجامعة والتعليم العمومي بالمغرب؟
جواب:
تعتبر الجامعة فضاء علميا وتربويا وأكاديميا لإنتاج المعرفة، وتأهيل الطلبة لسوق الشغل، وتأهيله كذلك للاكتفاء الذاتي والمعرفي، كما تعتبر الجامعة منبراً للتكوين والإشعاع العلمي، وكما لا يخفى عليك وأمام تطور وسائل التكنولوجيا، ووسائط التواصل، انخرطت الجامعة المغربية في تحقيق مجموعة من المشاريع العلمية، من خلال مؤتمرات وطنية ودولية تستضيف نخبة من الباحثين، يعالجون قضايا فكرية وفلسفية وأدبية راهنية، وكذلك من خلال تأسيس مختبرات فكرية علمية مبنية على قواعد دقيقة وبرامج عمل متقنة يشرف عليها أساتذة وباحثين أكفاء، كما نشهد اعتماد مباحث جديدة في سلك الماستر، نذكر على سبيل المثال ماستر " الكتابة النسائية" بكلية الآداب بتطوان، كما أسلفت؛ وماستر "التأويليات والدراسات اللسانية"، وماستر متخصص كالدراسات السينمائية، ومواد دراسية حول الأدب الرقمي ارتباطا بالثورة المعلوماتية، كما نشهد تمثيل الكليات للمغرب في المعارض الدولية للكتاب، وعقد شراكات وتوأمات علمية مع مختلف الجهات الوطنية والدولية؛ كما أن هناك مواكبة لتقنيات الرقمنة من خلال التكوين والدراسة عن بعد، وكما تعلمين أنه ابتداء من الموسم الجامعي المقبل سيتم تغيير في نظام الدراسة باعتماد ما يسمى بالبكالوريوس أي الانتقال من ثلاث سنوات إلى أربع سنوات، حيث أعلن السيد سعيد أمزازي، وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي، مطلع هذه السنة بمراكش، خلال افتتاح المناظرة المغربية الأمريكية، أن العمل بنظام البكالوريوس، يعتبر خياراً موفقا اعتمده المغرب، سيبدأ العمل به في مؤسسات التعليم العالي الوطنية في شتنبر المقبل 2020.
كل هذا يعكس تقدم الجامعة المغربية، وانتقالها إلى دور فاعلي يضع في أولويته تجديد مناهج البحث الجامعي وتطويرها، والارتقاء بظروف التكوين. وأمام هذا الانتقال الأكاديمي للجامعة المغربية تعي مسؤوليتها جيدا حيث تضع شروطا مقيدة للتسجيل وولوج سلكي الماستر والدكتوراه، وشروطا لإنهاء البحوث وتقديمها. وأمام هذا الوعي تتعاظم كذلك مسؤولية الطالب أو الدارس كذلك؛ فإلى جانب التكوين الميداني الذي يخضع له في الفصول الدراسية، هناك ما يسمى بالتكوين الذاتي؛ وهو أهم مرحلة؛ فعلى الطالب وضع برنامج علمي لمرحلته الجامعية تعتمد بالأساس على القراءة ثم القراءة بمختلف اللغات، ثم مواكبة الدرس العلمي من خلال حضور الملتقيات والندوات الفكرية بل والتفاعل معها، ثم البحث والسؤال وطرح الإشكالات، وصياغتها. والحمد الله أصبحنا نرى ثلة من الطلبة والباحثين بهذا المستوى، ولكن مازال أمام الجامعة المغربية الكثير من العمل لتحقيق نتائج أفضل تنافس به الجامعات العالمية ومن بينها أن تكون جميع التخصصات التي يلجها الطلبة متساوية من حيث فرص الشغل، علما أن الخيار المهني في التعليم الذي تبنته الدولة يتناسب مع هذا الرأي.
وإذا نظرنا إلى قطاع التعليم المدرسي؛ نلاحظ نية كبيرة في الإصلاح و اعتماد مشاريع كثيرة تهم المناهج والديداكتيك، والتكوين منذ سنة 1957 حيث تم إحداث "اللجنة الرسمية لإصلاح التعليم" إلى الآن مع مشروع "الرؤية الاستراتجية" (2015-2030). حقيقة لقد مر التعليم بفترات متفاوتة، وظل يتأرحج بين نجاح المشاريع وفشلها.
وعليه؛ وأمام الرغبة في الإصلاح ينبغي على جميع المكونين تحمل المسؤولية، وتبني أهداف ومشاريع دون النظر في الواقع الحالي. والحمدلله وخلال تجربتي عاينت وواكبت الكثير من الأطر التربوية والإدارية التي تؤمن برسالتها، وتنخرط بشكل فعال في بلورة مشروع الإصلاح، ومن هنا أتوجه إليها بأسمى عبارات التقدير والاحترام.
إن نظامنا التعليمي بشكل عام، يعرف إكراهات كثيرة لخصها المفكر الكبير"محمد عابد الجابري" بفقدان الثقة في المدرسة المغربية، ولا يمكن أن تعود هذه الثقة إذا لم تعمل المدرسة المغربية على تجديد مهن التدريس والتكوين والتدبير، والنهوض بالبحث العلمي والابتكار، ثم تعزيز دور الموارد البشرية بكل أنواعها، على رأسها الأستاذ والمتعلم باعتبارهما محور العملية التعليمية التعلمية. إننا نريد من المدرسة المغربية كما يعتبر ذلك العالم السوسيولوجي "محمد جسوس" أداة للمردودية، ومصدرا للعطاء والانفتاح باعتبارهما رافعتان أساسيتان لجودة التعليم.
إذن فمستقبل التعليم المدرسي والجامعي رهين بالدرجة الأولى في بلورة المشاريع الإصلاحية بعزيمة وإرادة، مع اعتماد مبدأي الحكامة والمحاسبة، وتفعيل القوانين المسطرة في هذا الباب. ولن يتحقق ذلك إلا بانخراط الجميع كل من موقعه ومنصبه، وتحمل مسؤوليته، حينها يمكننا أن نتحدث عن التقدم والتطور والنجاح.
سؤال:
8 - لو لم تكن أستاذا للغة العربية ماهي الوظيفة التي كنتم ستختارونها؟
جواب:
أكيد أستاذة آمنة أننا جميعا عندما كنا يافعين في مرحلة الابتدائي وما قبلها طُرح علينا من عائلتنا أو معارفنا سؤال هو: ماذ تريد أن تكون في المستقبل؟ وهو سؤال بريء يختزل الحب الذي يكنه الكبار للصغار، ورغبة في رؤيتهم بأفضل حال. وسؤالكم يتضمن رسالة ضمنية ومضمرة والخطاب المضمر أقوى حجة، واسمحيلي أستاذة بأن أستعير إحدى أدوات تحليل الخطاب، وهي الممارسة التأويلية، لقراءة رسالتك ليكون المقصود منها: هل نحن مؤمنين بمهمتنا وراضين عنها؟ سأقول لك بأن الكثير منا وجد نفسه في مهنة لم يهيئ لها الأسباب، ولم يفكر فيها يوما؛ وهذا راجع إلى عدم التوازن في المنظومة الاجتماعية المغربية، وهشاشة الاقتصاد بشكل عام. ومحاولة التغلب على شبح البطالة بعد التخرج، أو بعد الاستقلال الأسري، وتجربتي ستعضد كلامي هذا، وسأتقاسمها مع القارئ بكل صدق.
لقد بدأت مسيرتي بالبحث من أجل العمل الصحافي، إذ كنت أفكر في خوض التجربة الإذاعية، لأنها كانت تغريني؛ إذ ارتبطت بالمذياع منذ الطفولة بين برامج رياضية وأخبار وطنية ودولية، لم يتحقق لي ذلك لغياب التحفيز والتوجيه رغم لقائي بالعديد من صحافيي مدينة طنجة، والاستشارة معهم في الموضوع، ثم اشتغلت في أعمال حرة لمدة وجيزة، لأجد نفسي بعد ذلك مدرسا خصوصيا ثم إداريا في القطاع نفسه. لألج بعد تسع سنوات سلك الوظيفة (سلك التعليم) عن قناعة ورضى، والذي تناسب مع رؤيتي وتوجهي في الحياة، لذلك؛ سأعقب على سؤالكم بسؤال آخر: ماذا سأختار بعد الآن؟ وهو سؤال يبرره مبدأ الطموح المعرفي والإنساني، والمهني؛ ورغم أني أعيش استقرارا مهنيا واجتماعيا ولله الحمد سأختار أن أكون في مهمة جديدة أكثر مسؤولية؛ لأن في اعتقادي أن خوض الكثير من التجارب يصقل شخصية الإنسان ويتعلم الكثير من الدروس، ويتفاعل مع نماذج إنسانية متعددة يستفيد منها ويفيد، ونحن في هذه الدنيا من درس لآخر ومن معرفة لأخرى؛ فالحياة لا تقدم لك بعضها إن لم تقدم لها نفسك كلها، وفي هذا معاناة وتضحيات لكن نتائجها مفيدة وجيدة.
سؤال:
9 - هل هناك مشاريع في الطريق وإذا وجدت هلا حدثتنا عنها؟
جواب:
فيما يخص بالمشاريع البحثية، فلا يمكنني إلا أن أقول لك بأن كل مشروع ولا بد وأن يخضع لثلاث مراحل أساسية؛ التشخيص ونعني به جمع المعطيات وتدوينها أي القراءة المكثفة والمنفتحة، وإبداء الملاحظات والأفكار، ثم الأجرأة وتعني الشروع في الكتابة الأولية، ثم التتبع وهو المراجعة والتنقيح والإضافة والزيادة. وبالتالي فأنا أرى أن مشاريعي خاضعة لهذا النظام، كما أنها خاضعة لبرنامج نحدده في ثلاث مستويات: مشروع قريب المدى، متوسط المدى، وبعيد المدى.
ولابد من الإشارة إلى أن الدراسات التي نُشرت لي في كتابين جماعين محكمين في المغرب وفي تونس؛ أو تلك التي تخضع لحدود الساعة للتحكيم وهي مقالتان؛ الأولى في علوم التربية، والأخرى في النقد الروائي؛ أو تلك التي أشارك بها في المؤتمرات والندوات الوطنية خضعت للمراحل السابقة. وأعتقد أن هذه الاستراتيجية التي أتقيد بها لا تلغي ولا تنقص من الطريقة التي يشتغل بها عموم الباحثين، فأحيانا كثيرة أسعى إلى التزود بخبرات أساتذتي ومعارفي والمهتمين بحقل الأدب.
وفي الوقت الراهن أعكف على الإعداد لبعض الدراسات الفكرية والنقدية المرتبطة بمجال التخصص وبمجال العمل دائما، حيث أحاول أن أفكك النص/ الموضوع إلى أجزائه واكتشاف قيمه المعرفية والجمالية، والتعمق في باطنه لاستخراج دلالاته عبر محاورته أو استنطاقه. كما أزف إليكم خبر قرب صدور أطروحتي في النقد وتحليل الخطاب حيث اشتغلت على قراءة وتحليل مختلف النصوص التي تطرقت إلى موضوع المرأة في النثر العربي القديم؛ وهي نصوص منتقاة عبر حقبة زمنية تمتد إلى عشر قرون الأولى، رهانها الأول أن تكون نصوصا معبرة خاضعة لشرط الانسجام والاتساق والقصدية كما صاغتها التداولية، وعلم اللغة، ولسانيات النص؛ حيث وظفتُ مفهوم الصورة كإجراء نظري مستعيرا في ذلك أدوات ومناهج حديثة في التحليل من قبيل التداولية ونظرية التواصل والحجاج وتقنيات السرد. هي في طور النشر، وأكيد أن تداعيات "وباء كورونا" ستؤثر على عملية الطبع إلى حين عودة دور النشر إلى الاشتغال.
وفيما يخص المدى البعيد فهناك مشاريع بعضها يتعلق بالنقد والآخر بالإبداع؛ باعتبار أن الإبداع ومضة تعتري كل قارئ للنصوص، ولنا في أومبيرتو إيكو وطه حسين و أمين معلوف ومحمد أنقار وعبدالرحيم جيران ومحمد برادة وأدونيس ونازك الملائكة ورضوى عاشور وسعاد الناصر وزهور كرام والزهرة رميج...والكثير من الأديبات والأدباء نماذج رائعة في الجمع بين النقد والإبداع وقدوة مميزة يُحتذى بها. وهذه المشاريع في مراحلها الأولى (التشخيص) وقد تأخذ وقتا طويلا حتى تكتمل الفكرة وتختمر، فتعلن وجودها. فطبيعة أي عمل تقتضي التريث، فالتريث والتأني من سمات العمل الجيد. والكتابة مسؤولية عظيمة، قال عنها "أبو العباس القلقشندي" "علم" واعتبرها "ابن خلدون" "صناعة". إنها ترتبط بأسئلة مفصلية؛ ماذا سنكتب؟ ماذا سنقدم إلى القارئ الذي نلتزم معه بالجدة والأصالة؟ هل سنجدد و نبتكر ؟ أم نعيد صياغة الكلام؟ هل هناك تقدير للكاتب والكتابة في مجتمعنا العربي؟ هذه الأسئلة وغيرها تجعلني بالذات أتريث؛ لأتفرغ إلى المطالعة، والتعمق في المرحلة الأولى التي تحدثنا عنها (التشخيص).
سؤال:
10 - قد يكون هناك سؤال أو أكثر تودون الخوض فيه والإجابة عنه، ولكنني لم أتطرق له، أرجو أن تضعوا السؤال وتتفضلوا بالإجابة عنه؟
جواب:
في الحقيقة، هناك أسئلة كثيرة تحضرني وتؤرقني كمتتبع للشأن الثقافي والتعليمي والإجابة عنها، يستدعي حيزا آخر قد يضيق معه وقت هذا الحوار؛ ولكن أحْسَب أنك تطرقت إلى معظمها، بحِرفيَّة ومهارة، يعكس خبرتكم وتمرسكم.
في الأخير لا يسعني إلا أن أتقدم إليك أستاذة آمنة مجدداً بالشكر الجزيل على مبادرتكم واهتمامكم بالحقل الثقافي والتعليمي بالمغرب. كما أتقدم لأساتذتي الأجلاء في كلية الآداب بتطوان ولأساتذتي خلال مراحلي التعليمية الأولى، وإلى كل من أسهم في تكوين مساري الدراسي والمهني بأسمى عبارات التقدير والاحترام؛ فلهم الفضل الكثير عليَّ.
الشكر لكم أستاذي الفاضل، وفقكم الله في مسيرتكم.
حاورته المبدعة: أمنة برواضي
الحلقة الثاثة عشرة من سلسلة " مع الناقد " مع الدكتور عبد المجيب رحمون.
السلام عليكم دكتور : عبد المجيب رحمون
أولا، أرحب بكم وأشكركم على تفضلكم بالموافقة على الإجابة عن أسئلتي؛
ليكن أول سؤال.
1 - من هو عبد المجيب رحمون؟
جواب:
بداية، أشكرك سيدتي الفاضلة على هذه المبادرة الطيبة ودعوتكم الكريمة لي إلى هذا الحوار، لاشك أنها مبادرة تعكس اهتمامكم بالساحة الثقافية، وانشغالاتكم المعرفية. وقبل أن أتحدث عن نفسي بكثير من الصراحة والاقتضاب، لابد أن أتقاسم مع القارئ جزءاً من مسارك الأدبي وأقدمك له، "آمنة برواضي" روائية وقاصة وباحثة من مدينة الناظور، أستاذة مادة اللغة العربية، تبدع في صمت وتعلن تضامنها مع القضايا الإنسانية الراهنة والمرأة بشكل عام، من خلال مجموعة من الأعمال الروائيةو القصصية نذكر منها على "ذمة التحقيق" الفائزة بالجائزة الأولى للرواية العربية بمدينة وجدة سنة 2016 و"منعرجات ضيقة"، "شظايا حارقة"، "قطرات الندى" وآخر عمل لحدود الساعة هو رواية "عندما تقرع الطبول".
أعود إلى سؤالك؛ "عبدالمجيب رحمون" من مواليد مدينة شفشاون سنة 1976، ترعرع في مدينة طنجة؛ حيث انتقلت الأسرة إلى هناك أواخر سنة 1979 لظروف عائلية واجتماعية، عاش طفولة جمعت بين الاهتمام المفرط للإخوة، وبين الرغبة في التحرر، وممارسة شقاوة الأطفال، فحققت ذلك خلسة، فكان شغبنا و لهونا يجوب الآفاق في الحي الشعبي الذي تقطنه الأسرة ومازالت. في هذه الفترة تمكن فعل القراءة من التسلل إلى وجداني رغم أني لم أدرك بعد أهمية القراءة وجدواها، ولكن هو رغبة وفضول أشبعهما؛ وهنا أدين لإحدى أخواتي في هذا الصدد حيث كانت تشتري مجلة "المختار" بانتظام، فتحفزني لقراءتها، إما بخرجة ترفيهية أسبوعية، أو بإغراء مادي بسيط، وفي كثير من الأحيان بهدية رمزية، وبالمناسبة هذه المجلات مازلت احتفظ بها في مكتبتي عرفانا لأختي، وذكرى عزيزة بالشروع في القراءة؛ أتحدث هنا عن سن العاشرة تقريبا.
أنهيت مرحلة الابتدائي والإعدادي والثانوي بمدينة طنجة، لأنتقل للمرحلة الجامعية في مدينة تطوان، بكلية الآداب مارتيل سنة 1996، ما يمكن أن يقال عن هذه المرحلة أنها بداية للتعمق في المسائل الفكرية والأدبية والاطلاع على جواهر الكتب، وقراءتها قراءة الباحث رغم ما يفرض على هذه المرحلة من نزق وطيش الشباب، لكن بفضل الله استطعت اجتياز هذه المرحلة بنجاح وتفوق، واكتساب جانبا من مهارة التحليل والقراءة، بعد المرحلة الجامعية ولجأت سوق الشغل في القطاع الخاص كمدرس ومدير تربوي لمدة تسع سنوات، حيث كان ولوج الوظيفة العمومية أمرا صعبا من جهة؛ ومن جهة أخرى فرض علي نسق العيش الاجتماعي والعائلي أن أتكيف مع هذا الوضع، في هذه الفترة كنت أعد شهادة الماستر التي خولتني بعد ذلك اجتياز مباراة التوظيف، تقدمت للامتحان الكتابي في تطوان سنة 2009 والامتحان الشفوي في مدينة الرباط، فوفقت بإذن الله، ليتم تعييني في شتنبر 2009 بمدينة طاطا في أقصى الجنوب الشرقي وبالضبط "قرية ألوكوم" أستاذا للتعليم الثانوي التأهيلي، انتقلت بعد أربع سنوات إلى مدينة وزان، حيث قضيت موسماً دراسياً واحداً؛ لأنتقل إلى مدينة الجبهة بإقليم شفشاون كناظر للدروس، ثم العرائش كمدير، والآن في مدينة تطوان؛ في المهمة نفسها مدير ثانوية تأهيلية.
خلال مرحلة التدريس تسجلت في سلك الدكتوراه؛ وبفضل الله و بفضل أساتذتي في الكلية وأصدقائي ومعارفي وأسرتي الصغيرة والكبيرة حصلت على شهادة الدكتوراه في الأدب العربي تكوين الأدب القديم بميزة مشرف جدا من جامعة عبد الملك السعدي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان سنة 2016.
سؤال:
2 - من موقعكم كناقد كيف ترون مستقبل النقد مع كثرة الإصدارات الأدبية؟
جواب:
لا بد من التوضيح في البداية بأني في بداية ممارسة النقد الأدبي والفني، ومحاولة قراءة الأعمال الأدبية قراءة متصلة بأسئلة منهجية وفكرية تستعين بأدوات النقد الثقافي والبلاغة القديمة، كما تحاول توظيف الآليات الحديثة في بناء المفاهيم من قبيل الأسئلة التي تطرحها السرديات والتداولية والنظرية الحجاجية التواصلية، وهي آليات إجرائية أساسها بناء محاولة نقدية فكرية تستجيب للنص وتسائله في محاورة وسجال نقدي تأويلي، باعتبار أن مرحلة "ما بعد الدكتوراه" هي مرحلة لبناء وإعادة المفاهيم، والبحث من جديد؛ لكن بدون مشرف ودون مؤطر، إنها مرحلة ثانية تسبق مراحل كثيرة في سلم المعرفة، مع تغيير مجموعة من المفاهيم والثوابت، وبالتالي فأنا أؤمن بشكل مطلق بما كان يردده أساتذتنا؛ بضرورة البحث وإكمال المشوار العلمي، وعملية البحث هاته لن تتأت إلا بالاعتكاف على أعمال أدبية جديدة، والاطلاع على دراسات نقدية متنوعة من حيث مجالها وتخصصها ومن حيث لغتها؛ أي الانفتاح على دراسات باللغات الأجنبية، وذلك من أجل تطوير ملكة النقد، فالأولى (قراءة الأعمال الأدبية) تنفتح من خلالها على إشكالات معرفية، وأسئلة في الكينونة والوجود، والثانية (قراءة الدراسات المواكبة للإبداع) توجهك توجيها صائبا لوضع الأجوبة في مكانها المناسب. ولعلنا نلمح ونحدد بشكل موجز مسؤولية الناقد، فإذا كان الشعر على سبيل المثال يعتبر "عملية إبداعية يسعى إلى إيقافك وجعلك ترى باستمرار شيئا ماديا مجسدا، ومنعك من الانزلاق إلى سياق تجريدي"، فإن مسؤولية الناقد تتدخل هنا لقراءة نصية، وقراءة متعددة الأبعاد، مع العلم أن النص له سلطة وحرمة لا ينبغي الاعتداء عليها، لأن الكاتب في نهاية المطاف لا نسائله عن نواياه وأهدافه وغاياته، وإنما نحاكمه عن طريقة البناء والتوظيف والاشتغال.
وإذا تتبعنا مسار الشعر العربي عموما وكيف تعامل معه النقاد القدامى أمثال "ابن سلام الجمحي، وقدامة بن جعفر، وأبي هلال العسكري وغيرهم، نجد أنه كان ينظر إليه كجملة من النصائح والإرشادات والحكم والمواعظ، وخطابا مؤثرا أثناء الحروب والنزاعات، أو في مجالس الخلفاء، دون الإخلال بالوظيفة الفنية الإمتاعية فكان عبارة عن "منظومة أخلاقية وأسلوبية"، أما الآن فينظر إليه انطلاقا من شروط تحقيق الإقناع، بمعنى حجاجية النص الشعري، وهنا أضحى "منظومة حجاجية إقناعية" خصوصا مع توغل بعض الشعراء في التجريد والغموض الذي يعد خاصية من خصائص الشعر العربي الحديث، حيث استجاب شعرهم لسياق الوضع العربي وما عرفه من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية.
فالنقد يتطور بتطور المناهج والنظريات، كما يتطور بتنوع ضروب الحياة ومشاكلها، التي تعكسها الأعمال الفنية، دون إغفال أن النقد القديم يمد ـــ بشكل واضح ـــ النقد الحديث بالأدوات والإجراءات النقدية التي تسعف الباحث على بلورتها وتوظيفها في أعماله النقدية، فتلاقح القديم بالجديد،مفهوم وارد ومطروح في الحضارة الإنسانية عامة.
وارتباطا بسؤالكم عن مستقبل النقد سأقول لكم لماذا لا نتحدث عن مستقبل الأدب عموما، لأن في نهاية المطاف فالنقد هو قراءة ثانية أو قراءة أخرى، والنقد المنهجي يرفع قيمة العمل الأدبي؛ من حيث كشف مواطن القوة والخلل. لكن يُلاحظ اليوم أمام انتشار الوسائط التكنولوجية وإمكاناتها المتاحة؛ ما يمكن الاصطلاح عليه بالهجرة نحو الإبداع والكتابة في ظل ما يشبه الانزواء أمام عملية القراءة. ومن خلال تقارير دولية أممية رسمية يتبن أن المجتمع العربي لا يقرأ، وأن جل وقته يقضيه في أمور بعيدة عن الثقافة وعوالمها. إننا أمام معادلة خطيرة غير متوازنة؛ كثرة الإصدارات مقابل ضعف القراءة؛ مما يجعلنا نتساءل بنوع من التوجس عن مستقبل النقد والأدب عموما. رغم ما نراه ونعيشه من دعوات كثيرة للقراءة، وتشجيع المشاريع في هذا المجال؛ نذكر مثلا مشروع تحدي القراءة العربي، وكذلك تأسيس مجموعة من المراكز والشبكات التي تعنى بالقراءة (شبكة القراءة بالمغرب)، بالإضافة إلى وجود "أندية للقراءة والإبداع" في جل مؤسسات التربية والتعليم بالمغرب، وإنشاء معارض جهوية ووطنية احتفاءً بالكتاب؛ هذه الأمور تعكس اهتماما كبيرا بالقراءة، لكن الواقع يثبت أنه مازال أمامنا أشواطا من العمل لنصل إلى معدلات مرتفعة في القراءة، وهذا يتطلب وعيا ومسؤولية من الجميع. فعلا إننا أمام وضع مقلق ومحير، ومعادلة غير متكافئة؛ وفرة الإنتاج والاهتمام بالكتاب لا ينعكس على المجتمع، من خلال ما نلاحظه من غياب لقيم الهوية والمواطنة واحترام الغير.
واستمرارا في الحديث عن مستقبل النقد نقول بأن النقد يجب أن يواكب العمل الإبداعي و لا يبخس حقه، كما نريد من العمل الأدبي أن يتأسس وفق قواعد متينة علمية على رأسها كثرة القراءة وتنوعها. وفي هذا الصدد يقول "شوقي ضيف": «نقصد بالنقد الذي يقوم ويقدر ما للنص الأدبي من قيمة فنية، بعبارة أخرى النقد المقصود هو الذي يتجاوز فيه الناقد درجة الشعور إلى درجة التفكير». ويضيف: «لا يُـحْدِث أديبٌ عملا أصيلا بدون ثقافة عميقة». والنقد كما يرى "رينيه ويليك" لا يوجد إلا ليساعدنا على فهم الأعمال الفنية، ومن القضايا التي يثيرها النقاد كثيرا قضية الأدب والحياة الاجتماعية، فهل يحسن بالأديب أن يوجه أدبه نحو الوفاء بقيم مجتمعه التي تدفع به إلى الأمام؟ أو يوجهها نحو القيم الذاتية والفنية وما ينطوي فيها من إتقان التصوير وروعة التعبير؟ أم إذا استغرق في نفسه وخيالاته ومشاعره الفردية فإنه يصبح منفصلا عن أمته، وبالتالي يصبح أكثر تعرضا للانفصال عن المجتمع الإنساني؟.
هذه جملة من الأسئلة يطرحها الأدب بشكل عام، كما يطرحها القارئ المتخصص، وأنا الآن مستمر في تحديد مسؤوليات الناقد التي تؤطر مستقبله؛ أي مستقبل النقد. والتي يمكن أن نلخصها بشكل عام في: "الموضوعية"، "الأمانة العلمية"، " الجدة والأصالة" و"الكفاءة المعرفية المشروطة بكفاءة نقدية".
أمام هذه المعطيات فإن النقد سيسهم في عملية توازن للأعمال الفنية، ويخلدها ضمن التراث الإنساني. وسينير مستقبله ومستقبل الأدب عموما.
سؤال:
3 - دكتور ما هي المواصفات التي يجب توفرها في العمل الإبداعي ليجد صداه عند النقاد؟
جواب:
لعلنا تطرقنا إلى الجواب عن هذا السؤال منذ قليل أثناء حديثنا عن مستقبل النقد والأدب، ولعله سؤال يرتبط بشكل دقيق بنظرية التلقي وتعني كيف نقرأ النص؟ وماهي الثوابت والأسس التي ننطلق منها للقراءة هل هي جمالية فنية، اجتماعية، تاريخية، نفسية؟. ولكي يجد العمل الإبداعي صداه عند القراء بشكل عام، عليه أن يضع في حسابه مخاطبا/ قارئا متطلبا، يطلب المتعة، ويطلب اللغة والأسلوب، ويطلب التماسك النصي، ويطلب مواكبة العمل للقضايا بمختلف أنواعها، كما يطلب الأثر، لأن في رأيي أن العمل الأدبي يساوي الأثر، ترتبط هذه الشروط جميعها بالوظيفة الجمالية/ الشعرية كما حددتها نظرية التواصل كما سنرى. ويذكرني بالمناسبة كتاب مهم في قراءة النصوص الروائية (لذة القراءة) لصاحبه "أيمن الغزالي" إذ يؤكد المؤلف أنه عندما لا تتحقق الشروط الموضوعية، يخفق العمل الفني في توليد الأثر الذي يريده الكاتب، والأثر كما نراه بمعناه الأنتربولوجي والتاريخي وبمعناه النفسي؛ أي كيف يؤثر فينا العمل؟ وما هو الشعور الذي خلفه في نفوس القراء؟، وانطلاقا من هذا المعطى نكون مرتبطين بسؤال جوهري ومحوري في العملية الأدبية صاغه العالم الشكلاني "رومان ياكبسون" بشيء من الدقة وهو "ما الذي يجعل من الرسالة عملا فنيا؟" ويرتبط كما نعلم بست عناصر المرسل والمرسل اليه والسنن (العلامة) والرسالة والسياق وقناة الاتصال. حيث تنشأ من هذه العناصر كافة وظائف اللغة وأهمها الوظيفة الشعرية وهي الوظيفة التي تعنى بالجانب الجمالي للغة من حيث الإيقاع والتركيب والأسلوب وتناسق العبارة: إننا أمام بلاغة القول وبلاغة العبارة. ولكي تتحقق هذا الوظيفة لا بد من شروط ثلاثة في العمل يحددها "شوقي ضيف" في الالتزام والأصالة والجدة، فالأولى يربطها بالثقافة العميقة، فهي كالجذور التي تغذي الفروع، ثم الالتزام ونراه في التقيد بعناصر الكتابة، ثم الجدة أي طرح مواضيع مرتبطة بالواقع تستلهم معانيه وتقوم بحبكها فنيا بشروط علمية منهجية.
إذا تحققت هذه العناصر في العمل الأدبي فهي بلا شك ستحظى بالاحترام والتقدير من طرف القارئ، ثم من طرف الناقد؛ وإن اختلفت الغايات فإن المشترك بينهما هو تحقيق المتعة، لأن مسؤولية المبدع شاقة فهو مرتبط بتاريخ وموروث روائي ضخم، و على رأي كونديرا يؤكد "أيمن الغزالي" أن الروائي «لا يستطيع في ظل الحرية المرنة التي كتب بها المؤسسون الأوائل، أن يقفز فوق موروث القرن التاسع عشر، إذ عليه أن يجمع بين متطلبات التأليف القاسية؛ الجمع بين حرية رابليه وديدرو في الكتابة والتخطيط المنظم الصارم الذي يتطبله التأليف، لذلك فإن روائي القرن العشرين أو الحادي والعشرين سيواجه مشاكل كثيرة أكثر من التي واجهها بلزاك ودوستويفسكي، نظرا لوجود موروثا نقديا وأكاديميا وتيارات مختلفة».
إذا تحققت هذه العناصر في العمل الأدبي فهي بلا شك ستحظى بالاحترام والتقدير من طرف القارئ، ثم من طرف الناقد؛ وإن اختلفت الغايات فإن المشترك بينهما هو تحقيق المتعة، لأن مسؤولية المبدع شاقة فهو مرتبط بتاريخ وموروث روائي ضخم، و على رأي كونديرا يؤكد "أيمن الغزالي" أن الروائي «لا يستطيع في ظل الحرية المرنة التي كتب بها المؤسسون الأوائل، أن يقفز فوق موروث القرن التاسع عشر، إذ عليه أن يجمع بين متطلبات التأليف القاسية؛ الجمع بين حرية رابليه وديدرو في الكتابة والتخطيط المنظم الصارم الذي يتطبله التأليف، لذلك فإن روائي القرن العشرين أو الحادي والعشرين سيواجه مشاكل كثيرة أكثر من التي واجهها بلزاك ودوستويفسكي، نظرا لوجود موروثا نقديا وأكاديميا وتيارات مختلفة».
سؤال:
4 ـ ماذا يعني لديكم النقد دكتور ؟
خلال مرحلتي الجامعية، كانت لنا مجموعة من المواد والحصص ندرس من خلالها منهجية القراءة والتعامل مع النصوص، وأذكر جيدا كيف استفدنا من أساتذة الماستر " تكوين النص النثري العربي القديم، دراسة في الأشكال والأنواع " الذي كانت تشرف عليه "فرقة البلاغة وتحليل الخطاب"؛ حيث تعلمنا أن قراءة وتحليل النصوص ليست بالشيء الهين، وأنها تتطلب جهدا معرفيا مضاعفا؛ كانت صرامة أساتذتنا حينها تتوخى بناء المفاهيم والمعارف وتكوين طالب باحث.
وأثناء احتكاكي بالنصوص القديمة والحديثة بعد مرحلة الماستر؛ ومن خلال تحضير شهادة الدكتوراه، أو حتى الآن أثناء الاشتغال على بعض الأعمال الإبداعية، أو أثناء تحليل بعض النصوص الروائية والشعرية مع طلبة الماستر؛ نؤكد على أن قراءة النص لابد أن تستجيب لكفاءة نقدية ومعرفية، دقيقة و صارمة، لذلك أردد دائما أن النص ينبغي أن يحظَى بتقدير القارئ، وأن يمنحَه الوقت الكافي في القراءة، ألم يقل "أمبيرتو إيكو" بأن "النص آلةٌ كسولةٌ" فهو يحتاج إذن إلى قارئ نموذجي يشتغل تأويليا كما يشتغل دلاليا، ثم تأتي عملية التفسير والتحليل فالتقييم الذي يجب أن تخضع بدورها لقواعد علمية وليس انطباعية.
إن النقد عملية مضاعفة تلي عملية القراءة، وعلينا أن نميز بين النقد الروائي والقصصي والنقد الشعري ونقد النصوص الأدبية بشكل عام رغم ما تتضمنه النصوص من قواسم فنية مشتركة أساسها "مبدأ الالتزام"، ونعني به التقيد بالخطوات والمعايير المؤسسة لكل عمل إبداعي.
وبالعودة إلى التعريف اللغوي لكلمة "نقد" فإن المعاجم اللغوية تتفق على كون الكلمة تعني تمييز الجيد من الرديء والحسن من القبيح، وبمعناه الاصطلاحي فهو النظر في طبيعة الأعمال الأدبية وخصائصها وقيمتها الفنية. وهو حسب "نورثروب فراي" «بنيان من الفكر والمعرفة له وجوده الخاص». وحسب "إحسان عباس" هو «القدرة على التذوق والتمييز ثم الانتقال إلى التفسير والتعليل والتحليل والتقييم». والقضية النقدية قديمة قدم التراث الأدبي، وارتبطت كما نعلم باليونان والرومان، وعند العرب في العصر الجاهلي بنقد الشعر، وكتب التراث تسجل لنا الكثير من المظاهر النقدية أهمها احتكام الشاعرين "امرؤ القيس" و"علقمة بن عبدة" إلى "أم جندب" للنظر في وصفهما للفرس أيها أجود.
ويعني لي النقد عامة؛ لغة واصفة علمية مبنية على قواعد معرفية وخطوات إجرائية. وبالتالي فإن دراسة الأعمال لا تقوم على الانطباع والأهواء، بل على أسس علمية حتى يكون نقدا بناءً وليس نقدا هداما من أجل النقد فقط. النقد العملي المنهجي هو الذي يُغني العمل ويثريه ويضيف إليه، فالنقد إذن جهاز مفاهيمي يختزل معطيات دقيقة عن العمل، والنظر إليها بالموازاة مع المباحث والمناهج والنظريات التي تحدد طبيعتها.
سؤال:
5 - من موقعكم كناقد وأستاذ جامعي زائر هل تعتقدون أن هناك أدبا نسائيا وأدبا رجاليا أم أن الفرق الجوهري بين كتابة الجنسين يكمن في درجة الإبداع ومدى تحققها في العمل الإبداعي؟
جواب:
لا يخفى على الجميع أن درجة الإبداع تميز كل عمل دون أن ننظر إلى تصنيفه الجنساني، فدرجة الإبداع هي المؤشر الذي تحدثنا عنه آنفا والمتمثل في الأثر. من هنا نقول بأن الأدب لا يقبل التخصيص أو التقسيم بقدر ما يقبل التقييم. ولكن لا يمكننا أن نتجاهل مفهوم الكتابة النسائية، باعتباره مفهوما ترسخ مع وجود المرأة الكاتبة منذ مطلع القرن التاسع عشر، وهنا نتحدث عن الإبداع النسائي وأنت أستاذة آمنة جزء منه بالنظر إلى مسارك الأدبي. فالكتابة النسائية تجسد انتقال المرأة من موضوع إلى أداة تُسهم في بناء عوالم النص والبحث في شروط الحبكة النصية، كما أنه انتقال من وضع التأمل والتفكر والاستسلام إلى وضع التحرر والانعتاق ومزاحمة الرجل في حصنه اللغوي كما يقول الناقد "عبدالله الغذامي"، لقد ولجت المرأة عالم الكتابة لتعلن أنها كائن لغوي وأن ما عرفته من تهميش لم يكن إلا جانبا من النسق الثقافي للمنظومة العربية؛ هذا الجانب الذي عمل على تغييب المرأة لاعتبارات اقتصادية وسياسية واجتماعية؛ لأن الكتابة صناعة ذكورية كما يؤكد ذلك تاريخ الأدب. ومع ظهور حركات تحررية أدبية وسياسية، في الغرب بزغت بوادر أدب يعكس تطلعات المرأة، نحو الانعتاق والبوح والتعبير عن مكنونات الذات ونوازع الأنثى؛ من هنا اصطلح على هذه التجربة بالأدب النسائي واستطاعت المرأة أن تؤسس لنفسها عالما فنيا يستجيب لطموحاتها وخصوصياتها، وهنا يمكننا أن نتحدث عن الفرق الجوهري بين ما يكتبه الرجل وما تكتبه الأنثى، أي في حجم الأحاسيس والمشاعر والقضايا التي يتم طرحها؛ وبالتالي لا يمكن أن نقبل بتقسيم الأدب إلى رجالي ونسائي تقسيما بيولوجيا، فالأدب حسب "رشيدة بنمسعود" "وزهور كرام" و"سعاد الناصر" وغيرهن لا يقبل التقسيم والتصنيف استنادا إلى معيار الذكورة والأنوثة، وإنما يمكن تحديد الفرق من خلال خصوصية الكتابة. واستنادا إلى هذه القناعة المعرفية نلغي إمكانية التمييز بين الأدب الرجالي والنسائي، لكن تجدر الإشارة إلى أن الكثير يرفض هذه التسمية بحجة أنه يُفيء الأدب، ويعمل على ترسيخ ثنائية المركز والهامش، وهذا الأمر يكرس دونية المرأة بالضرورة، لذلك فلأدب يسع الرجل والمرأة بدون تصنيف.
وكما تعلمي فلقد انتشرت الكتابة النسائية بشكل لافت مند السبعينيات، وقد تمكنت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان من اعتماد ماستر خاص بالكتابة النسائية الذي تزامن مع الجهود الفكرية والعلمية للأستاذات والأساتذة من أجل إرساء هذا المفهوم، وتكوين جيل من الطلبة في هذا المسلك الذي يعبر عن مفهوم قائم يقرأ الإبداع النسائي ويبحث في حقوله المعرفية والنقدية. ولنا شرف المشاركة في تدريس بعض حصصه المتعلقة بنقد الإبداع النسائي.
و دفاعا عن هذا المفهوم؛ ترى الكثير من المبدعات أن الأدب النسائي يصدر عن المرأة من أعماقها وصدق أحاسيسها، لأن الرجل في اعتقادهن لا يمكن أن ينجح في رصد هذه الخصوصية. وبالتالي يؤكدن على مفهوم الكتابة النسائية؛ وامتداداته المعرفية، ولهذا نشهد أعمالا وأبحاثا نسائية مغربية وعربية حظيت باهتمام النقاد كما نافست في الجوائز العالمية والعربية. لأن المرأة استطاعت أن تجد لنفسها وذاتها مكانا مشرفا في حقل الأدب الذي ظلت مغيبة عنه لعقود من الزمن.
سؤال:
6 - ما هي رسالتكم للروائيين خاصة الشباب منهم؟
جواب:
إنه سؤال جسيم أستاذة آمنة، باعتبار أن توجيه رسالة هي مسؤولية عظمى، وانطلاقا من تجربتي المتواضعة البحثية والتدريسية في السلك الثانوي والجامعي (كأستاذ زائر) ومواكبة بحوث الطلبة وقراءتي لعدد لابأس به من الإبداع العالمي والعربي، سأقول بكل صراحة أن آفة الكتابة الاستعجال، والرغبة في الظهور، وهنا يحضرني رأي الناقد الكبير "شوقي ضيف" الذي يقول: «وليس هناك شيء يضر الأديب الناشئ كمحاولة الظهور السريع، وهو ظهور تكثر وسائله في عصرنا، عصر الصحف والإذاعة والصور المتحركة والناشرين الكثيرين...فتلك الوسائل ضحاياها من المتعجلين الذين لا يأخذون فرصة للنمو الطبيعي والتخلق والاختمار»، وهذا الرأي كان منذ أكثر من أربعين سنة قبل زحف العولمة وانتشار الرقمنة ووسائط التواصل الاجتماعي. فالاستعجال آفة مكروهة في العمل كله، والمقصود به الاستعجال المتهور؛ الغير المدروس دراسة دقيقة ومبنية على مراحل محددة.
إن غواية الرواية أو الابداع عموما ينبغي أن تُقاوَم؛ ومقاومتها هو الصبر، وتكثيف وقت القراءة والحفظ، والنظر في العملية الإبداعية من حين لآخر لتصل مرحلة الاختمار كما سماها "شوقي ضيف"؛ ألم يأذن "أبو نواس" "خلفا الأحمر" في نظم الشعر فقال له: عليك بحفظ ألف مقطوع للعرب بين أرجوزة ومقطوعة وقصيدة ثم انسها. الغاية من هذا التدريب هو صقل الموهبة وتنميتها وتطويرها وهو ما نسميه بالتكوين الذاتي الذي من شأنه أن يرفع شأن كل أديب وناقد.
فالإبداع في النهاية هو عملية تلاقح بين موهبة أو طاقة، وبين وسط ثقافي واجتماعي يغدي هذه الطاقة ويحفزها على الظهور والابتكار.
سؤال:
7 - باعتباركم تزاولون مهنة التدريس كيف ترون مستقبل الجامعة والتعليم العمومي بالمغرب؟
جواب:
تعتبر الجامعة فضاء علميا وتربويا وأكاديميا لإنتاج المعرفة، وتأهيل الطلبة لسوق الشغل، وتأهيله كذلك للاكتفاء الذاتي والمعرفي، كما تعتبر الجامعة منبراً للتكوين والإشعاع العلمي، وكما لا يخفى عليك وأمام تطور وسائل التكنولوجيا، ووسائط التواصل، انخرطت الجامعة المغربية في تحقيق مجموعة من المشاريع العلمية، من خلال مؤتمرات وطنية ودولية تستضيف نخبة من الباحثين، يعالجون قضايا فكرية وفلسفية وأدبية راهنية، وكذلك من خلال تأسيس مختبرات فكرية علمية مبنية على قواعد دقيقة وبرامج عمل متقنة يشرف عليها أساتذة وباحثين أكفاء، كما نشهد اعتماد مباحث جديدة في سلك الماستر، نذكر على سبيل المثال ماستر " الكتابة النسائية" بكلية الآداب بتطوان، كما أسلفت؛ وماستر "التأويليات والدراسات اللسانية"، وماستر متخصص كالدراسات السينمائية، ومواد دراسية حول الأدب الرقمي ارتباطا بالثورة المعلوماتية، كما نشهد تمثيل الكليات للمغرب في المعارض الدولية للكتاب، وعقد شراكات وتوأمات علمية مع مختلف الجهات الوطنية والدولية؛ كما أن هناك مواكبة لتقنيات الرقمنة من خلال التكوين والدراسة عن بعد، وكما تعلمين أنه ابتداء من الموسم الجامعي المقبل سيتم تغيير في نظام الدراسة باعتماد ما يسمى بالبكالوريوس أي الانتقال من ثلاث سنوات إلى أربع سنوات، حيث أعلن السيد سعيد أمزازي، وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي، مطلع هذه السنة بمراكش، خلال افتتاح المناظرة المغربية الأمريكية، أن العمل بنظام البكالوريوس، يعتبر خياراً موفقا اعتمده المغرب، سيبدأ العمل به في مؤسسات التعليم العالي الوطنية في شتنبر المقبل 2020.
كل هذا يعكس تقدم الجامعة المغربية، وانتقالها إلى دور فاعلي يضع في أولويته تجديد مناهج البحث الجامعي وتطويرها، والارتقاء بظروف التكوين. وأمام هذا الانتقال الأكاديمي للجامعة المغربية تعي مسؤوليتها جيدا حيث تضع شروطا مقيدة للتسجيل وولوج سلكي الماستر والدكتوراه، وشروطا لإنهاء البحوث وتقديمها. وأمام هذا الوعي تتعاظم كذلك مسؤولية الطالب أو الدارس كذلك؛ فإلى جانب التكوين الميداني الذي يخضع له في الفصول الدراسية، هناك ما يسمى بالتكوين الذاتي؛ وهو أهم مرحلة؛ فعلى الطالب وضع برنامج علمي لمرحلته الجامعية تعتمد بالأساس على القراءة ثم القراءة بمختلف اللغات، ثم مواكبة الدرس العلمي من خلال حضور الملتقيات والندوات الفكرية بل والتفاعل معها، ثم البحث والسؤال وطرح الإشكالات، وصياغتها. والحمد الله أصبحنا نرى ثلة من الطلبة والباحثين بهذا المستوى، ولكن مازال أمام الجامعة المغربية الكثير من العمل لتحقيق نتائج أفضل تنافس به الجامعات العالمية ومن بينها أن تكون جميع التخصصات التي يلجها الطلبة متساوية من حيث فرص الشغل، علما أن الخيار المهني في التعليم الذي تبنته الدولة يتناسب مع هذا الرأي.
وإذا نظرنا إلى قطاع التعليم المدرسي؛ نلاحظ نية كبيرة في الإصلاح و اعتماد مشاريع كثيرة تهم المناهج والديداكتيك، والتكوين منذ سنة 1957 حيث تم إحداث "اللجنة الرسمية لإصلاح التعليم" إلى الآن مع مشروع "الرؤية الاستراتجية" (2015-2030). حقيقة لقد مر التعليم بفترات متفاوتة، وظل يتأرحج بين نجاح المشاريع وفشلها.
وعليه؛ وأمام الرغبة في الإصلاح ينبغي على جميع المكونين تحمل المسؤولية، وتبني أهداف ومشاريع دون النظر في الواقع الحالي. والحمدلله وخلال تجربتي عاينت وواكبت الكثير من الأطر التربوية والإدارية التي تؤمن برسالتها، وتنخرط بشكل فعال في بلورة مشروع الإصلاح، ومن هنا أتوجه إليها بأسمى عبارات التقدير والاحترام.
إن نظامنا التعليمي بشكل عام، يعرف إكراهات كثيرة لخصها المفكر الكبير"محمد عابد الجابري" بفقدان الثقة في المدرسة المغربية، ولا يمكن أن تعود هذه الثقة إذا لم تعمل المدرسة المغربية على تجديد مهن التدريس والتكوين والتدبير، والنهوض بالبحث العلمي والابتكار، ثم تعزيز دور الموارد البشرية بكل أنواعها، على رأسها الأستاذ والمتعلم باعتبارهما محور العملية التعليمية التعلمية. إننا نريد من المدرسة المغربية كما يعتبر ذلك العالم السوسيولوجي "محمد جسوس" أداة للمردودية، ومصدرا للعطاء والانفتاح باعتبارهما رافعتان أساسيتان لجودة التعليم.
إذن فمستقبل التعليم المدرسي والجامعي رهين بالدرجة الأولى في بلورة المشاريع الإصلاحية بعزيمة وإرادة، مع اعتماد مبدأي الحكامة والمحاسبة، وتفعيل القوانين المسطرة في هذا الباب. ولن يتحقق ذلك إلا بانخراط الجميع كل من موقعه ومنصبه، وتحمل مسؤوليته، حينها يمكننا أن نتحدث عن التقدم والتطور والنجاح.
سؤال:
8 - لو لم تكن أستاذا للغة العربية ماهي الوظيفة التي كنتم ستختارونها؟
جواب:
أكيد أستاذة آمنة أننا جميعا عندما كنا يافعين في مرحلة الابتدائي وما قبلها طُرح علينا من عائلتنا أو معارفنا سؤال هو: ماذ تريد أن تكون في المستقبل؟ وهو سؤال بريء يختزل الحب الذي يكنه الكبار للصغار، ورغبة في رؤيتهم بأفضل حال. وسؤالكم يتضمن رسالة ضمنية ومضمرة والخطاب المضمر أقوى حجة، واسمحيلي أستاذة بأن أستعير إحدى أدوات تحليل الخطاب، وهي الممارسة التأويلية، لقراءة رسالتك ليكون المقصود منها: هل نحن مؤمنين بمهمتنا وراضين عنها؟ سأقول لك بأن الكثير منا وجد نفسه في مهنة لم يهيئ لها الأسباب، ولم يفكر فيها يوما؛ وهذا راجع إلى عدم التوازن في المنظومة الاجتماعية المغربية، وهشاشة الاقتصاد بشكل عام. ومحاولة التغلب على شبح البطالة بعد التخرج، أو بعد الاستقلال الأسري، وتجربتي ستعضد كلامي هذا، وسأتقاسمها مع القارئ بكل صدق.
لقد بدأت مسيرتي بالبحث من أجل العمل الصحافي، إذ كنت أفكر في خوض التجربة الإذاعية، لأنها كانت تغريني؛ إذ ارتبطت بالمذياع منذ الطفولة بين برامج رياضية وأخبار وطنية ودولية، لم يتحقق لي ذلك لغياب التحفيز والتوجيه رغم لقائي بالعديد من صحافيي مدينة طنجة، والاستشارة معهم في الموضوع، ثم اشتغلت في أعمال حرة لمدة وجيزة، لأجد نفسي بعد ذلك مدرسا خصوصيا ثم إداريا في القطاع نفسه. لألج بعد تسع سنوات سلك الوظيفة (سلك التعليم) عن قناعة ورضى، والذي تناسب مع رؤيتي وتوجهي في الحياة، لذلك؛ سأعقب على سؤالكم بسؤال آخر: ماذا سأختار بعد الآن؟ وهو سؤال يبرره مبدأ الطموح المعرفي والإنساني، والمهني؛ ورغم أني أعيش استقرارا مهنيا واجتماعيا ولله الحمد سأختار أن أكون في مهمة جديدة أكثر مسؤولية؛ لأن في اعتقادي أن خوض الكثير من التجارب يصقل شخصية الإنسان ويتعلم الكثير من الدروس، ويتفاعل مع نماذج إنسانية متعددة يستفيد منها ويفيد، ونحن في هذه الدنيا من درس لآخر ومن معرفة لأخرى؛ فالحياة لا تقدم لك بعضها إن لم تقدم لها نفسك كلها، وفي هذا معاناة وتضحيات لكن نتائجها مفيدة وجيدة.
سؤال:
9 - هل هناك مشاريع في الطريق وإذا وجدت هلا حدثتنا عنها؟
جواب:
فيما يخص بالمشاريع البحثية، فلا يمكنني إلا أن أقول لك بأن كل مشروع ولا بد وأن يخضع لثلاث مراحل أساسية؛ التشخيص ونعني به جمع المعطيات وتدوينها أي القراءة المكثفة والمنفتحة، وإبداء الملاحظات والأفكار، ثم الأجرأة وتعني الشروع في الكتابة الأولية، ثم التتبع وهو المراجعة والتنقيح والإضافة والزيادة. وبالتالي فأنا أرى أن مشاريعي خاضعة لهذا النظام، كما أنها خاضعة لبرنامج نحدده في ثلاث مستويات: مشروع قريب المدى، متوسط المدى، وبعيد المدى.
ولابد من الإشارة إلى أن الدراسات التي نُشرت لي في كتابين جماعين محكمين في المغرب وفي تونس؛ أو تلك التي تخضع لحدود الساعة للتحكيم وهي مقالتان؛ الأولى في علوم التربية، والأخرى في النقد الروائي؛ أو تلك التي أشارك بها في المؤتمرات والندوات الوطنية خضعت للمراحل السابقة. وأعتقد أن هذه الاستراتيجية التي أتقيد بها لا تلغي ولا تنقص من الطريقة التي يشتغل بها عموم الباحثين، فأحيانا كثيرة أسعى إلى التزود بخبرات أساتذتي ومعارفي والمهتمين بحقل الأدب.
وفي الوقت الراهن أعكف على الإعداد لبعض الدراسات الفكرية والنقدية المرتبطة بمجال التخصص وبمجال العمل دائما، حيث أحاول أن أفكك النص/ الموضوع إلى أجزائه واكتشاف قيمه المعرفية والجمالية، والتعمق في باطنه لاستخراج دلالاته عبر محاورته أو استنطاقه. كما أزف إليكم خبر قرب صدور أطروحتي في النقد وتحليل الخطاب حيث اشتغلت على قراءة وتحليل مختلف النصوص التي تطرقت إلى موضوع المرأة في النثر العربي القديم؛ وهي نصوص منتقاة عبر حقبة زمنية تمتد إلى عشر قرون الأولى، رهانها الأول أن تكون نصوصا معبرة خاضعة لشرط الانسجام والاتساق والقصدية كما صاغتها التداولية، وعلم اللغة، ولسانيات النص؛ حيث وظفتُ مفهوم الصورة كإجراء نظري مستعيرا في ذلك أدوات ومناهج حديثة في التحليل من قبيل التداولية ونظرية التواصل والحجاج وتقنيات السرد. هي في طور النشر، وأكيد أن تداعيات "وباء كورونا" ستؤثر على عملية الطبع إلى حين عودة دور النشر إلى الاشتغال.
وفيما يخص المدى البعيد فهناك مشاريع بعضها يتعلق بالنقد والآخر بالإبداع؛ باعتبار أن الإبداع ومضة تعتري كل قارئ للنصوص، ولنا في أومبيرتو إيكو وطه حسين و أمين معلوف ومحمد أنقار وعبدالرحيم جيران ومحمد برادة وأدونيس ونازك الملائكة ورضوى عاشور وسعاد الناصر وزهور كرام والزهرة رميج...والكثير من الأديبات والأدباء نماذج رائعة في الجمع بين النقد والإبداع وقدوة مميزة يُحتذى بها. وهذه المشاريع في مراحلها الأولى (التشخيص) وقد تأخذ وقتا طويلا حتى تكتمل الفكرة وتختمر، فتعلن وجودها. فطبيعة أي عمل تقتضي التريث، فالتريث والتأني من سمات العمل الجيد. والكتابة مسؤولية عظيمة، قال عنها "أبو العباس القلقشندي" "علم" واعتبرها "ابن خلدون" "صناعة". إنها ترتبط بأسئلة مفصلية؛ ماذا سنكتب؟ ماذا سنقدم إلى القارئ الذي نلتزم معه بالجدة والأصالة؟ هل سنجدد و نبتكر ؟ أم نعيد صياغة الكلام؟ هل هناك تقدير للكاتب والكتابة في مجتمعنا العربي؟ هذه الأسئلة وغيرها تجعلني بالذات أتريث؛ لأتفرغ إلى المطالعة، والتعمق في المرحلة الأولى التي تحدثنا عنها (التشخيص).
سؤال:
10 - قد يكون هناك سؤال أو أكثر تودون الخوض فيه والإجابة عنه، ولكنني لم أتطرق له، أرجو أن تضعوا السؤال وتتفضلوا بالإجابة عنه؟
جواب:
في الحقيقة، هناك أسئلة كثيرة تحضرني وتؤرقني كمتتبع للشأن الثقافي والتعليمي والإجابة عنها، يستدعي حيزا آخر قد يضيق معه وقت هذا الحوار؛ ولكن أحْسَب أنك تطرقت إلى معظمها، بحِرفيَّة ومهارة، يعكس خبرتكم وتمرسكم.
في الأخير لا يسعني إلا أن أتقدم إليك أستاذة آمنة مجدداً بالشكر الجزيل على مبادرتكم واهتمامكم بالحقل الثقافي والتعليمي بالمغرب. كما أتقدم لأساتذتي الأجلاء في كلية الآداب بتطوان ولأساتذتي خلال مراحلي التعليمية الأولى، وإلى كل من أسهم في تكوين مساري الدراسي والمهني بأسمى عبارات التقدير والاحترام؛ فلهم الفضل الكثير عليَّ.
الشكر لكم أستاذي الفاضل، وفقكم الله في مسيرتكم.
حاورته المبدعة: أمنة برواضي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق