أمنة برواضي
الحلقة التاسعة من سلسلة " مع الناقد " مع الدكتور بوزيد الغلى.
السلام عليكم دكتور: بوزيد الغلى.
أولا أرحب بكم، وأشكركم على تفضلكم بالموافقة على الإجابة عن أسئلتي.
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته الكاتبة والروائية المحترمة الأستاذة أمينة.
من أوجب الالتزامات الأخلاقية أن أوجه لك كلمة شكر وتقدير على اختياري ضمن سلسلة حوارات مع نقاد مغاربة.
1 ـ ليكن أول سؤال:
من هو بوزيد الغلى؟
جواب:
من مواليد آسا جنوب المغرب عام 1971، حاصل على الدكتوراه من جامعة محمد الخامس عام 2005، ناقد وباحث في التراث الشعبي.
بالمناسبة، كنت أعرف نفسي منذ أواسط التسعينات عندما أسأل من أنت ومن أية منطقة أنت؟
بالصحراء ولدت، وبِحَرّ رمضائها اكتويت، فلما نضج الفتى الذي كنته، غيّرت كثيرا من أفكاري، واتجهت للكتابة الإبداعية قبل أن ألج باب الكتابة النقدية منذ مطلع الألفية الثانية، حيث شاركت في عدة مؤتمرات تعنى بالنقد الأدبي داخل المغرب وخارجه بالكويت وتونس والإمارات...
سؤال:
2 - بصفتكم ناقدا ما هو تصوركم للممارسة النقدية؟ وكيف تجدون النقد في المغرب وفي المنطقة الجنوبية على وجه التحديد؟
جواب:
في تقديري، الكتابة النقدية لا تتيح إضاءة النص/الإبداع، بما يقيم مسافة بين النص ومؤلفه فقط، وإنما تجسد على حد تعبير جوناثان كللر، "صيغة من صيغ إنتاج المعرفة"، ولن تنمو وتزدهر الكتابة الإبداعية أيا كان جنسها في تربة تنعدم فيها الممارسة النقدية، فالنقد في رأيي بمثابة الملح الذي يمنع فساد المنتوج، ويطهره من بكتريات الرداءة. إن عين الناقد مثل عين المجهر الذي يرى النص بعوينات النظريات النقدية، ويعرضه على محك أدوات الكتابة النقدية التي يفترض فيها أن تنتج أفكاراً وتصورات لا أن تكتفي بالاجترار واستخدام منهجيات أضحت مثل وصفة جاهزة، تطبق على كل نص. وفي هذا الصدد، فإن المحذور والخطر المحدق بالممارسة النقدية كما قال الناقد المصري أيمن بكر في مقالته الموسومة ب: "الحرية والفلسفة والنقد"، يكمن في " أن تتحول الكتابات النقدية إلى سلعة ضمن صفقات ثقافية تافهة".
فيما يتصل بالكتابة النقدية في الجنوب، لا تزال حديثة الولادة شأنها في ذلك، شأن الكتابة الإبداعية التي انطلقت من عقالها إثر وقف إطلاق النار عام 1991، فإذا استثنينا محصول نقاد الشعر المنحدرين من الصحراء الذين ساهموا في الحركة النقدية المغربية منذ سنوات عديدة مثل إدريس نقوري، محمد عالي خنفر وعبد الرحمان الموساوي، فإن نقد الرواية والقصة والمسرح، يبقى ضامرا، ولا يخرج عن مساهمات الدكتور نقوري والدكتور الوالي جودا، بالإضافة طبعا إلى مساهماتي التي سأتحدث عنها لاحقا.
لقد جاوزت الروايات الصحراوية عتبة العشرين رواية في ظرف وجيز، فاز منها عدد لا بأس به بجوائز عربية، تعزز اعتقادنا بأن قلة الإنتاج لا تنتقص من جودته شيئا، صحيح، أن معايير الجوائز تتقحّمُها الانتقادات من كل جانب، لكن، مجرد الوصول إلى اللوائح القصيرة ثم الفوز يعدّ مؤشرا مشجعا، ولاشك أن تبني دور نشر عربية محترمة نشر روايات الكاتبة القديرة البتول لمديميغ والروائي الواعد بوسحاب أهل علي ومحمد النعمة بيروك، يجعل إضاءاتنا النقدية لهذه النصوص وغيرها، ليست مجرد "طقس احتفالي" بميلاد مبدع أو عمل إبداعي، بل هو دليل على إقامتنا مسافة بين النص ومبدعه، مما يعطي للكتابة النقدية معنى وقدرا من الموضوعية، ولا تفوتني الفرصة في هذا الصدد، أن أشير إلى صدى روايات الصحراء وكتابها في الخارج، فقد تُرجمت من طرف أجانب نصوص ومقاطع من نصوص، وتم اتخاذها كمناذج للدراسة النقدية باللغة الاسبانية كما هو الحال بالنسبة لرواية "بقايا أحلام عزة" للروائي يحظيه بوهدا، كما لا يفوتني التنويه بفوز القاص محمد عالي الحيرش بجائزة القصة المكتوبة بالفرنسية بالمغرب في إطار مسابقة نظمتها جمعية مدرسي اللغة الفرنسية، حيث ضمت لجنة التحكيم أسماء لامعة مثل "ليلى سليماني"، وبالمناسبة، هناك أعمال روائية وقصصية صحراوية مكتوبة بلغة موليير، وهي في كل الأحوال تعمل على تسريد ثقافة الصحراء وتراثها اللامادي فضلا عن تفاصيل الحياة بالصحراء كما أوضحت في مقالة منشورة في موقع "جنة كتب:" تحت عنوان : أن تفكر بالحسانية وتكتب بالفرنسية، قراءة في مجموعة Fleurs des sables للكاتبة سعاد ماء العينين.
أما المسرح، فهناك نصوص مسرحية حسانية تستحق الدراسة النقدية، وقد جمع منها الدكتور اسليمة أمرز المتحصل على دكتوراه في أشكال الفرجة والمسرح؛ ثلاثة نصوص في كتاب" الأمل بأبعاد ثلاثة"، كما نشر عبد القادر أطويف نصا تحت عنوان: "جا فالدركة"؟
سؤال:
3 - من موقعكم كناقد كيف ترون مستقبل النقد مع كثرة الإصدارات الأدبية؟
جواب:
هذا سؤال مهم أعاد إلى الذاكرة تدوينة مهمة كتبها الدكتور أيمن بكر على صفحته على الفيسبوك، وأثارت نقاشا دافئا. دعيني أنقل من صحيفة العرب التي أجرت حوارا مع هذا الناقد المصري المعروف، قال فيه: " معظم من يشكون غياب النقد على فيسبوك لا يقرؤون ما ينشره النقاد إلا إذا كان عنهم". إذن لا يكمن المشكل في غياب النقد، بقدر ما يندرج المشكل ضمن إشكالية أم تتعلق بضعف القراءة، وتضاؤل نسبة القراء في ظل سيطرة وغلبة النقر على الهواتف على تقليب الصفحات، لست أعتبر أن التكنولوجيات الحديثة بما فيها الآلات القارئة والهواتف الذكية عائقا أمام القراءة، لقد حدثت ثورة رقمية لا مناص من التكيف معها، لكن تضاؤل وتناقص نسب القراءة في العالم العربي مشكلة حقيقية لم تنفع في مكافحتها مبادرات محدودة. أعرف أن الانفجار الرقمي صاحبه أيضا انفجار في التأليف والنشر، و"النشر السائل" العاري من معايير التحكيم واحترام المقاييس الدنيا للإبداع الأدبي، يسيء إلى الأدب، ويجعل العودة إلى ما كان يسمى "الأدب الرفيع" أمراً لا مناص منه من أجل الارتقاء بالذائقة. لقد قرأت "بريد الليل" التي فازت بجائزة عربية "مرموقة"، وكتبت على صفحتي على الفيسبوك ما معناه : وأسفاً، كم يصنع المدّاحون من لجان القراءات مجداً زائفا، ولم تخطئ ذائقتي الأدبية، إذ كتبت صحف عربية كثيرة عن رداءة العمل "الفائز" وعن فشل لجنة القراءة في تحري الموضوعية في تحكيم الأعمال.
ثمة أعمال مغربية جديرة بالقراءة والتلقي، حظي بعضها بالتناول النقدي، بينما غاب بعضها عن أنظار النقاد، ليس لأن الساحة النقدية مشغولة بكثرة المنتج الإبداعي، ولكن، لأن الدرس النقدي في الجامعات ينبغي أن ينفتح على الأعمال الروائية والقصصية التي تستحق أن تتخذ نماذج للدراسة، صحيح، أنني أنظر إلى الموضوع من خارج التدريس الجامعي، لكنني أعرف من تجربتي أن أعمالا مغربية آتية من الصحراء تدرس في جامعات أجنبية، وتتخذ نماذج للتطبيق في أطاريح جامعية، في الوقت الذي قد لا يهتدى إلى عناوينها في الشمال، ربما لأن الهامش بعيد عن المركز، حيث تضعف إن لم تنعدم الإمكانيات المتاحة أمام الكتّاب لتسويق أعمالهم عبر دور نشر وتوزيع ذائعة الصيت، وكي أدلل على صحة هذا الكلام، أذكر مثلا أن رواية : أماكن ملغومة، للكاتبة البتول لمديميغ اتخذت نصا للتطبيق في بحث ماستر بدولة أجنبية، وقد اتصلت بي منذ وقت غير بعيد طالبة أجنبية تعد أطروحة دكتوراه في بلدها، وطلبت مني موافاتها بنسخة الكترونية من رواية "إمارة البئر" للكاتب محمد سالم الشرقاوي بعد أن طالعت قراءتي النقدية حولها منشورة في مجلة "ذوات". وهذه مناسبة كي أجدد الشكر للمحترمة رئيسة تحرير المجلة : سعيدة شرف.
إن مستقبل النقد الذي راكمت فيه المدرسة المغربية خبرة مهمة، رهين بتطوير الدرس النقدي بالجامعة من جهة، وإقامة الجسور على مستوى الهندسة البيداغوجية بالجامعات والمستويات الدنيا بين النقد والفلسفة، إذ يزدهر النقد كما يعتقد كثير من النقاد عندما تزدهر الفلسفة، ولن يستغني النقاد عن النظريات الفلسفية، كما أن الفلاسفة لم ينفصلوا بتاتا عن الأعمال الأدبية مسرحا كانت أو رواية من أجل تقديم رؤاهم الفلسفية من دريدا إلى بول ريكور والقائمة طويلة...
سؤال:
4- كيف ترون مستقبل الحركة الثقافية في جنوب المغرب مقارنة مع باقي المناطق؟
جواب:
إذا جاز لنا الحديث عن حركة ثقافية في الصحراء في ظل غياب تام للجامعة، وأعني على وجه التخصيص انعدام كليات الآداب والفنون في الجهات الجنوبية الثلاث، وانعدام دور النشر في مقابل اقتصار عناية الدولة والقطاع الخاص بالجانب الاقتصادي الرخو في مجمله، مما يدعم انتشار أزعومة "الصحراء موطن الرخاء المعيشي"، فإن الجهود مقتصرة على ما تبذله مديريات الثقافة بالجهات الثلاث، فضلا عن مبادرات محدودة من مؤسسات رسمية وغير رسمية تقوم بين الفينة والأخرى بتنظيم لقاءات ثقافية على هامش مهرجانات محلية أو ما شابه.
إن النموذج التنموي سيبقى منقوصا ما لم يتضمن هندسة حقيقية لمشروع قائم على سياسة ثقافية واضحة المعالم، هل يعقل أن تقوم تنمية في ظل سبات ثقافي طويل، تغيب في ظله البنيات الثقافية (انعدام قاعات المسرح بكلميم وغيرها من مدن الصحراء=، وتنعدم مؤتمرات النقد والأدب، وتنعدم فيه دور النشر أيضاً...؟. لكن مع ذلك، أؤمن بأن العسر لن يغلب إرادة المبدعين، ومستقبل ثقافة الصحراء واعد بجهود أبنائها الذين أسسوا مجلات ثقافية محترمة، وذاع صيتها قبل أن تتعثر نتيجة تكلفة النشر بالشمال وضعف التسويق في الجنوب، وقد كنت والزميل ابراهيم الحيسن وآخرين قد أنشأنا مجلة فصلية تحمل عنوان: " ثقافة الصحراء" توقفت مع الأسف عند العدد الرابع، واستقطبت خلال عمرها القصير أقلاما مرموقة وطنيا وعربيا.
سؤال:
5- أصدرتم عدة كتب تتناول بالتحديد التراث الحساني على سبيل المثال لا الحصر:
"التراث الشعبي الحساني" " نفاضة الذاكرة الشعبية الحسانية"
" المجتمع الصحراوي من خلال أمثاله الحسانية".
" عتبات صحراوية" قراءة في المنجز السردي والأكاديمي بالصحراء.
" الفكر التربوي التراثي" ."دراسة في المأثور الشعبي الحساني".......
كما لكم عدة مقالات . ودراسات تعنى بأدب الطفل.
إلى أي مدى كان تأثير البيئة الصحراوية بمناخها وتراثها على مؤلفاتكم؟.
جواب:
أعتقد أن الكتب والمقالات التي نشرت تندرج عموما ضمن إطار اهتماماتي البحثية، ففي النقد الأدبي أصدرت كتاب عتبات صحراوية (دار فضاءات للنشر بالأردن)، وهو ارتكز على دراسة العتبات والنصوص الموازية أو المناصات في عينة من الروايات التي صدرت بالصحراء إلى حدود 2014، بينما تناولت بالدراسة روايات بأقلام صحراوية أخرى من خلال دراستها سيميائيا (سيميائية الأهواء في رواية ولي النعمة مثلا)، أو موضوعاتيا كما في دراستي الموسومة ب: الموسيقى والرواية (دراسة في متون صحراوية)...، وبموازاة اهتماماتي النقدية، استفرغت جهدا متواضعا في دراسة التراث الحساني من خلال دراسة حكاياتنا الشعبية، وألعابنا التقليدية فضلا عن كثير من طقوسنا (كتاب التراث الشعبي الحساني: ثراء وتنوع، منشورات الهيئة لمصرية العامة للكتاب).
ولا يفوتني أن أشكر بهذه المناسب، رئيس تحرير مجلة تراث بالإمارات العربية المتحدة الأستاذ وليد علاء الدين الذي أتاح لي نشر الكثير من المواد والمساهمات عن التراث الشعبي الحساني على امتداد سنوات خلت، مما سمح لهذا التراث أن ينفتح عبر المجلة على فضائنا العربي الممتد.
وعطفا على سؤالك عن مدى تأثير الصحراء في اهتماماتي البحثية والإبداعية، أود التأكيد على أن الصحراء التي ولدت بها وترعرعت، سكنت كتاباتي نقدا وإبداعا، وفي هذا الصدد أتذكر أن أول قصة كتبتها تحت عنوان"العائد"، وترجمتها للفرنسية تحت عنوان: Le survivant، تحمل بصمة الصحراء بوضوح لا يخفى.
سؤال:
6- لو لم تزاولوا مهنة التدريس، ما هي الوظيفة التي كنتم ستختارونها؟
جواب:
جوابا عن سؤالكم بشأن المهنة التي كنت سأختارها لو لم أنسلك في سلك التعليم منذ تخرجي من المدرسة العليا للأساتذة عام 1996، ثم تخرجي لاحقا من مركز المفتشين بالرباط عام2018 ، أقول إنني كنت منذ الفترة التي ولجت فيها الجامعة ضحية سوء توجيه بتأثير من جماعة إسلامية قضيت معها زهرة حياتي مغبونا مع كامل الأسف، ورغم أنني تحررت من ربقة الانتماء إليها منذ أزيد من عشرين سنة خلت؛ كما ذكرت في روايتي (الطلح لا يخطئ القبلة) التي تتحدث عن تلك التجربة التي أمقت اليوم ذكرها، فإنني لا أزال أحمل بين جوانحي حلمي الذي وأدته عن غير تبصر نتيجة التأثر بالفصيل وأوهام النضال مع الاسلامويين، إذ أنني كنت أطمح إلى التسجيل في شعبة الأدب الإنجليزي، وسجلت على غير إرادتي الداخلية بشعبة الدراسات الإسلامية التي أوهموني أنها تمزج بين الأدب العربي والدراسات الشرعية، لأكتشف بعد فوات الأوان خلال الدورة الثانية أن نسبة مواد الأدب العربي لا تتعدى سويعات تتعلق بالنحو والبلاغة واللسانيات في السنتين الثالثة والرابعة، لكن العود يبقى على حاله حين يذهب اللحاء، وقد بقيت متأثرا بالأدب، قارئا وشاعرا مبتدئا طيلة أيام الجامعة، وهجرت قول الشعر الحرّ لما كثر المتشاعرون، واتجهت للكتابة والنقد.
شكرا لكم أستاذي الفاضل، وفقكم الله في مسيرتكم.
حاورته المبدعة: أمنة برواضي.
الحلقة التاسعة من سلسلة " مع الناقد " مع الدكتور بوزيد الغلى.
السلام عليكم دكتور: بوزيد الغلى.
أولا أرحب بكم، وأشكركم على تفضلكم بالموافقة على الإجابة عن أسئلتي.
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته الكاتبة والروائية المحترمة الأستاذة أمينة.
من أوجب الالتزامات الأخلاقية أن أوجه لك كلمة شكر وتقدير على اختياري ضمن سلسلة حوارات مع نقاد مغاربة.
1 ـ ليكن أول سؤال:
من هو بوزيد الغلى؟
جواب:
من مواليد آسا جنوب المغرب عام 1971، حاصل على الدكتوراه من جامعة محمد الخامس عام 2005، ناقد وباحث في التراث الشعبي.
بالمناسبة، كنت أعرف نفسي منذ أواسط التسعينات عندما أسأل من أنت ومن أية منطقة أنت؟
بالصحراء ولدت، وبِحَرّ رمضائها اكتويت، فلما نضج الفتى الذي كنته، غيّرت كثيرا من أفكاري، واتجهت للكتابة الإبداعية قبل أن ألج باب الكتابة النقدية منذ مطلع الألفية الثانية، حيث شاركت في عدة مؤتمرات تعنى بالنقد الأدبي داخل المغرب وخارجه بالكويت وتونس والإمارات...
سؤال:
2 - بصفتكم ناقدا ما هو تصوركم للممارسة النقدية؟ وكيف تجدون النقد في المغرب وفي المنطقة الجنوبية على وجه التحديد؟
جواب:
في تقديري، الكتابة النقدية لا تتيح إضاءة النص/الإبداع، بما يقيم مسافة بين النص ومؤلفه فقط، وإنما تجسد على حد تعبير جوناثان كللر، "صيغة من صيغ إنتاج المعرفة"، ولن تنمو وتزدهر الكتابة الإبداعية أيا كان جنسها في تربة تنعدم فيها الممارسة النقدية، فالنقد في رأيي بمثابة الملح الذي يمنع فساد المنتوج، ويطهره من بكتريات الرداءة. إن عين الناقد مثل عين المجهر الذي يرى النص بعوينات النظريات النقدية، ويعرضه على محك أدوات الكتابة النقدية التي يفترض فيها أن تنتج أفكاراً وتصورات لا أن تكتفي بالاجترار واستخدام منهجيات أضحت مثل وصفة جاهزة، تطبق على كل نص. وفي هذا الصدد، فإن المحذور والخطر المحدق بالممارسة النقدية كما قال الناقد المصري أيمن بكر في مقالته الموسومة ب: "الحرية والفلسفة والنقد"، يكمن في " أن تتحول الكتابات النقدية إلى سلعة ضمن صفقات ثقافية تافهة".
فيما يتصل بالكتابة النقدية في الجنوب، لا تزال حديثة الولادة شأنها في ذلك، شأن الكتابة الإبداعية التي انطلقت من عقالها إثر وقف إطلاق النار عام 1991، فإذا استثنينا محصول نقاد الشعر المنحدرين من الصحراء الذين ساهموا في الحركة النقدية المغربية منذ سنوات عديدة مثل إدريس نقوري، محمد عالي خنفر وعبد الرحمان الموساوي، فإن نقد الرواية والقصة والمسرح، يبقى ضامرا، ولا يخرج عن مساهمات الدكتور نقوري والدكتور الوالي جودا، بالإضافة طبعا إلى مساهماتي التي سأتحدث عنها لاحقا.
لقد جاوزت الروايات الصحراوية عتبة العشرين رواية في ظرف وجيز، فاز منها عدد لا بأس به بجوائز عربية، تعزز اعتقادنا بأن قلة الإنتاج لا تنتقص من جودته شيئا، صحيح، أن معايير الجوائز تتقحّمُها الانتقادات من كل جانب، لكن، مجرد الوصول إلى اللوائح القصيرة ثم الفوز يعدّ مؤشرا مشجعا، ولاشك أن تبني دور نشر عربية محترمة نشر روايات الكاتبة القديرة البتول لمديميغ والروائي الواعد بوسحاب أهل علي ومحمد النعمة بيروك، يجعل إضاءاتنا النقدية لهذه النصوص وغيرها، ليست مجرد "طقس احتفالي" بميلاد مبدع أو عمل إبداعي، بل هو دليل على إقامتنا مسافة بين النص ومبدعه، مما يعطي للكتابة النقدية معنى وقدرا من الموضوعية، ولا تفوتني الفرصة في هذا الصدد، أن أشير إلى صدى روايات الصحراء وكتابها في الخارج، فقد تُرجمت من طرف أجانب نصوص ومقاطع من نصوص، وتم اتخاذها كمناذج للدراسة النقدية باللغة الاسبانية كما هو الحال بالنسبة لرواية "بقايا أحلام عزة" للروائي يحظيه بوهدا، كما لا يفوتني التنويه بفوز القاص محمد عالي الحيرش بجائزة القصة المكتوبة بالفرنسية بالمغرب في إطار مسابقة نظمتها جمعية مدرسي اللغة الفرنسية، حيث ضمت لجنة التحكيم أسماء لامعة مثل "ليلى سليماني"، وبالمناسبة، هناك أعمال روائية وقصصية صحراوية مكتوبة بلغة موليير، وهي في كل الأحوال تعمل على تسريد ثقافة الصحراء وتراثها اللامادي فضلا عن تفاصيل الحياة بالصحراء كما أوضحت في مقالة منشورة في موقع "جنة كتب:" تحت عنوان : أن تفكر بالحسانية وتكتب بالفرنسية، قراءة في مجموعة Fleurs des sables للكاتبة سعاد ماء العينين.
أما المسرح، فهناك نصوص مسرحية حسانية تستحق الدراسة النقدية، وقد جمع منها الدكتور اسليمة أمرز المتحصل على دكتوراه في أشكال الفرجة والمسرح؛ ثلاثة نصوص في كتاب" الأمل بأبعاد ثلاثة"، كما نشر عبد القادر أطويف نصا تحت عنوان: "جا فالدركة"؟
سؤال:
3 - من موقعكم كناقد كيف ترون مستقبل النقد مع كثرة الإصدارات الأدبية؟
جواب:
هذا سؤال مهم أعاد إلى الذاكرة تدوينة مهمة كتبها الدكتور أيمن بكر على صفحته على الفيسبوك، وأثارت نقاشا دافئا. دعيني أنقل من صحيفة العرب التي أجرت حوارا مع هذا الناقد المصري المعروف، قال فيه: " معظم من يشكون غياب النقد على فيسبوك لا يقرؤون ما ينشره النقاد إلا إذا كان عنهم". إذن لا يكمن المشكل في غياب النقد، بقدر ما يندرج المشكل ضمن إشكالية أم تتعلق بضعف القراءة، وتضاؤل نسبة القراء في ظل سيطرة وغلبة النقر على الهواتف على تقليب الصفحات، لست أعتبر أن التكنولوجيات الحديثة بما فيها الآلات القارئة والهواتف الذكية عائقا أمام القراءة، لقد حدثت ثورة رقمية لا مناص من التكيف معها، لكن تضاؤل وتناقص نسب القراءة في العالم العربي مشكلة حقيقية لم تنفع في مكافحتها مبادرات محدودة. أعرف أن الانفجار الرقمي صاحبه أيضا انفجار في التأليف والنشر، و"النشر السائل" العاري من معايير التحكيم واحترام المقاييس الدنيا للإبداع الأدبي، يسيء إلى الأدب، ويجعل العودة إلى ما كان يسمى "الأدب الرفيع" أمراً لا مناص منه من أجل الارتقاء بالذائقة. لقد قرأت "بريد الليل" التي فازت بجائزة عربية "مرموقة"، وكتبت على صفحتي على الفيسبوك ما معناه : وأسفاً، كم يصنع المدّاحون من لجان القراءات مجداً زائفا، ولم تخطئ ذائقتي الأدبية، إذ كتبت صحف عربية كثيرة عن رداءة العمل "الفائز" وعن فشل لجنة القراءة في تحري الموضوعية في تحكيم الأعمال.
ثمة أعمال مغربية جديرة بالقراءة والتلقي، حظي بعضها بالتناول النقدي، بينما غاب بعضها عن أنظار النقاد، ليس لأن الساحة النقدية مشغولة بكثرة المنتج الإبداعي، ولكن، لأن الدرس النقدي في الجامعات ينبغي أن ينفتح على الأعمال الروائية والقصصية التي تستحق أن تتخذ نماذج للدراسة، صحيح، أنني أنظر إلى الموضوع من خارج التدريس الجامعي، لكنني أعرف من تجربتي أن أعمالا مغربية آتية من الصحراء تدرس في جامعات أجنبية، وتتخذ نماذج للتطبيق في أطاريح جامعية، في الوقت الذي قد لا يهتدى إلى عناوينها في الشمال، ربما لأن الهامش بعيد عن المركز، حيث تضعف إن لم تنعدم الإمكانيات المتاحة أمام الكتّاب لتسويق أعمالهم عبر دور نشر وتوزيع ذائعة الصيت، وكي أدلل على صحة هذا الكلام، أذكر مثلا أن رواية : أماكن ملغومة، للكاتبة البتول لمديميغ اتخذت نصا للتطبيق في بحث ماستر بدولة أجنبية، وقد اتصلت بي منذ وقت غير بعيد طالبة أجنبية تعد أطروحة دكتوراه في بلدها، وطلبت مني موافاتها بنسخة الكترونية من رواية "إمارة البئر" للكاتب محمد سالم الشرقاوي بعد أن طالعت قراءتي النقدية حولها منشورة في مجلة "ذوات". وهذه مناسبة كي أجدد الشكر للمحترمة رئيسة تحرير المجلة : سعيدة شرف.
إن مستقبل النقد الذي راكمت فيه المدرسة المغربية خبرة مهمة، رهين بتطوير الدرس النقدي بالجامعة من جهة، وإقامة الجسور على مستوى الهندسة البيداغوجية بالجامعات والمستويات الدنيا بين النقد والفلسفة، إذ يزدهر النقد كما يعتقد كثير من النقاد عندما تزدهر الفلسفة، ولن يستغني النقاد عن النظريات الفلسفية، كما أن الفلاسفة لم ينفصلوا بتاتا عن الأعمال الأدبية مسرحا كانت أو رواية من أجل تقديم رؤاهم الفلسفية من دريدا إلى بول ريكور والقائمة طويلة...
سؤال:
4- كيف ترون مستقبل الحركة الثقافية في جنوب المغرب مقارنة مع باقي المناطق؟
جواب:
إذا جاز لنا الحديث عن حركة ثقافية في الصحراء في ظل غياب تام للجامعة، وأعني على وجه التخصيص انعدام كليات الآداب والفنون في الجهات الجنوبية الثلاث، وانعدام دور النشر في مقابل اقتصار عناية الدولة والقطاع الخاص بالجانب الاقتصادي الرخو في مجمله، مما يدعم انتشار أزعومة "الصحراء موطن الرخاء المعيشي"، فإن الجهود مقتصرة على ما تبذله مديريات الثقافة بالجهات الثلاث، فضلا عن مبادرات محدودة من مؤسسات رسمية وغير رسمية تقوم بين الفينة والأخرى بتنظيم لقاءات ثقافية على هامش مهرجانات محلية أو ما شابه.
إن النموذج التنموي سيبقى منقوصا ما لم يتضمن هندسة حقيقية لمشروع قائم على سياسة ثقافية واضحة المعالم، هل يعقل أن تقوم تنمية في ظل سبات ثقافي طويل، تغيب في ظله البنيات الثقافية (انعدام قاعات المسرح بكلميم وغيرها من مدن الصحراء=، وتنعدم مؤتمرات النقد والأدب، وتنعدم فيه دور النشر أيضاً...؟. لكن مع ذلك، أؤمن بأن العسر لن يغلب إرادة المبدعين، ومستقبل ثقافة الصحراء واعد بجهود أبنائها الذين أسسوا مجلات ثقافية محترمة، وذاع صيتها قبل أن تتعثر نتيجة تكلفة النشر بالشمال وضعف التسويق في الجنوب، وقد كنت والزميل ابراهيم الحيسن وآخرين قد أنشأنا مجلة فصلية تحمل عنوان: " ثقافة الصحراء" توقفت مع الأسف عند العدد الرابع، واستقطبت خلال عمرها القصير أقلاما مرموقة وطنيا وعربيا.
سؤال:
5- أصدرتم عدة كتب تتناول بالتحديد التراث الحساني على سبيل المثال لا الحصر:
"التراث الشعبي الحساني" " نفاضة الذاكرة الشعبية الحسانية"
" المجتمع الصحراوي من خلال أمثاله الحسانية".
" عتبات صحراوية" قراءة في المنجز السردي والأكاديمي بالصحراء.
" الفكر التربوي التراثي" ."دراسة في المأثور الشعبي الحساني".......
كما لكم عدة مقالات . ودراسات تعنى بأدب الطفل.
إلى أي مدى كان تأثير البيئة الصحراوية بمناخها وتراثها على مؤلفاتكم؟.
جواب:
أعتقد أن الكتب والمقالات التي نشرت تندرج عموما ضمن إطار اهتماماتي البحثية، ففي النقد الأدبي أصدرت كتاب عتبات صحراوية (دار فضاءات للنشر بالأردن)، وهو ارتكز على دراسة العتبات والنصوص الموازية أو المناصات في عينة من الروايات التي صدرت بالصحراء إلى حدود 2014، بينما تناولت بالدراسة روايات بأقلام صحراوية أخرى من خلال دراستها سيميائيا (سيميائية الأهواء في رواية ولي النعمة مثلا)، أو موضوعاتيا كما في دراستي الموسومة ب: الموسيقى والرواية (دراسة في متون صحراوية)...، وبموازاة اهتماماتي النقدية، استفرغت جهدا متواضعا في دراسة التراث الحساني من خلال دراسة حكاياتنا الشعبية، وألعابنا التقليدية فضلا عن كثير من طقوسنا (كتاب التراث الشعبي الحساني: ثراء وتنوع، منشورات الهيئة لمصرية العامة للكتاب).
ولا يفوتني أن أشكر بهذه المناسب، رئيس تحرير مجلة تراث بالإمارات العربية المتحدة الأستاذ وليد علاء الدين الذي أتاح لي نشر الكثير من المواد والمساهمات عن التراث الشعبي الحساني على امتداد سنوات خلت، مما سمح لهذا التراث أن ينفتح عبر المجلة على فضائنا العربي الممتد.
وعطفا على سؤالك عن مدى تأثير الصحراء في اهتماماتي البحثية والإبداعية، أود التأكيد على أن الصحراء التي ولدت بها وترعرعت، سكنت كتاباتي نقدا وإبداعا، وفي هذا الصدد أتذكر أن أول قصة كتبتها تحت عنوان"العائد"، وترجمتها للفرنسية تحت عنوان: Le survivant، تحمل بصمة الصحراء بوضوح لا يخفى.
سؤال:
6- لو لم تزاولوا مهنة التدريس، ما هي الوظيفة التي كنتم ستختارونها؟
جواب:
جوابا عن سؤالكم بشأن المهنة التي كنت سأختارها لو لم أنسلك في سلك التعليم منذ تخرجي من المدرسة العليا للأساتذة عام 1996، ثم تخرجي لاحقا من مركز المفتشين بالرباط عام2018 ، أقول إنني كنت منذ الفترة التي ولجت فيها الجامعة ضحية سوء توجيه بتأثير من جماعة إسلامية قضيت معها زهرة حياتي مغبونا مع كامل الأسف، ورغم أنني تحررت من ربقة الانتماء إليها منذ أزيد من عشرين سنة خلت؛ كما ذكرت في روايتي (الطلح لا يخطئ القبلة) التي تتحدث عن تلك التجربة التي أمقت اليوم ذكرها، فإنني لا أزال أحمل بين جوانحي حلمي الذي وأدته عن غير تبصر نتيجة التأثر بالفصيل وأوهام النضال مع الاسلامويين، إذ أنني كنت أطمح إلى التسجيل في شعبة الأدب الإنجليزي، وسجلت على غير إرادتي الداخلية بشعبة الدراسات الإسلامية التي أوهموني أنها تمزج بين الأدب العربي والدراسات الشرعية، لأكتشف بعد فوات الأوان خلال الدورة الثانية أن نسبة مواد الأدب العربي لا تتعدى سويعات تتعلق بالنحو والبلاغة واللسانيات في السنتين الثالثة والرابعة، لكن العود يبقى على حاله حين يذهب اللحاء، وقد بقيت متأثرا بالأدب، قارئا وشاعرا مبتدئا طيلة أيام الجامعة، وهجرت قول الشعر الحرّ لما كثر المتشاعرون، واتجهت للكتابة والنقد.
شكرا لكم أستاذي الفاضل، وفقكم الله في مسيرتكم.
حاورته المبدعة: أمنة برواضي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق