أعلان الهيدر

السبت، 15 سبتمبر 2018

إنصافيات...


سعد نجاع
كان بريق الأضواء القادمة من وسط المدينة يفتح قلوبنا لمشهد إنتظرناه مايقارب الشّهر ..لكن سرعان مايزول ذلك البريق بمجرد تأكُدِنا من أن السّيارة القادمة ليست "السّارفيس" التي تحمل والدتي.. 
لم يمض وقت طويل على وصولي وخالي مبروك ؛ حتى توقفت سيّارة تحمل على سقفها الكثير من الحقائب ، لم تتمالك نورة نفسها فاندفعت نحوها وهي تمسك بيد زهية..كنت غير بعيد من خطوات نورة، وبعد أن فتحت باب السيّارة ، كان المشهد قد ابتلع الجميع.. ضمّتنا والدتي إلى صدرها الهزيل وهي تذرف دموع الوحش والغربة.. مازالت رائحة فستان زهية ملتصقة بلباسها.. أخيرا جاء من يُسرِّحُ لزهية "الشِينُوفَة" شعرها.. ومن يوجه الأوامر والنصح لنورة الصامدة.. نورة التي لعبت دور الأُمِّ بإمتياز ، تُسكت الباكي وتغطّي من شعَر بالبرد ، و توزّع من لون وجهها المخملي إشراقة يومنا..
أخيرا ،جاءت من حضورها يمنحني جانبا مشرقا في حياتي ..من بحضورها يمكنني الحديث بثقة مع أترابي .. 
لم تهضم نورة المشهد فصرخت بصوت عالي ، عمّ أرجاء المعمورة .. كان لون وجه والدتي يميل إلى الصُّفرة .. الصُّفرة الباهتة التي لاتحمل بين تقاسيمها غير عبارة " فات الأوان" ..
إمتزجت دموع الفرح والحزن و ظهر كل واحد منّا على حقيقته بعد أن نالت منه أحاسيسه.. 
لم أرَ في عمري الصّغير عمّي صالح يبكي وهو من كان يُضرب به المثل في الصُّمود ورباطة الجأش .. كما لم أرَ خالي مبروك ينحني يوما لوالدتي ليُقبِّل رأسها .. كان أعظم تصرف يقوم به أن يجلس على مقربة من سريرها ويبادلها أطراف الحديث ، كما لا يبخل عليها بما جادت به حَجَّتُه إلى السُّوق كل أسبوع .. كانت تناديه بـ"الوَحْدَانِي" لأنه وحيد جدّي "بلعريبي" وجدّتي "خديجة"..بعد أن تربَّع على قلبيهما ونال النَّصيب الأكبر من حُبِّهما ..
لم يبقَ في حيِّنا الصّغير أحد لم يسمع بكاء نورة وصراخها .. في الجهة المقابلة وقف والدي مبتسما كعادته وهو يقول :
ـ آه يا ولاد مّاتها .. نسيتو بَّيْكمْ.. 
كانت ابتسامته توحي بكثير من التفاؤل إتجاه مرض والدتي .. كنت محظوظا وأنا أول من قبَّل وجنتيه الباردتين ، لم يكن والدي رجل يتدخل في أمور أحد منّا، كان يعرف جيدا أن "الكاملة بنت بلعريبي" إمرأة بوزن الكون وأنها أهلٌ للتربية والنصح.. 
بعد تجاذب أطراف الحديث ، كان خالي مبروك قد أدخل الحقائب إلى المنزل ووضعها في زاوية دار "لعيال " بينما دفع والدي تكاليف الرّحلة لصاحب "السَّارفيس" وأخلى سبيله ثم دخل يتمتم :
ـ بسم اللّه.. بسم اللّه.. الحمد للّه. 
كانت فرحة عودته للبيت من جديد لا توصف.. بعد أن منحه "الڨَاوْرِي" الذي يعمل عنده أو كما يُسمّيه "البَاطْرُو" ، عطلة من أجل القيام بواجبه إتجاه والدتي المريضة ..
كان الأسبوع المقبل هو الأسبوع الذي تفتح فيه المدارس أبوابها .. وقتها كنت أنتظر أن أجد مايفرح طفولتي من لباس في حقائب والدي ، ..
في الأسبوع نفسه بدأ بطن والدتي في الإنتفاخ يوما بعد يوم.. كان إنتفاخا رهيباً.. لم تستطع والدتي إخفاء الأمر لكنها حاولت بطريقة ما أن تنزع حزام فستانها "الحِمِيْلة" حتى لا يظهر إنتفاخ بطنها.. كان والدي وأخي الأكبر يأخذانها للمستشفى كل ثلاثة أيام فينزع الممرض منها مايقارب قارورة اللّتر ونصف من الماء ..يومذاك ، كان والدي وأخي يُخفون الأمر علينا ..كانت نورة تعلم بكل شيء ، حيث تغيّرت تصرفاتها منذ أن صارت والدتي تزور المستشفى ، كانت تُقبِّلُها بِحُرقة كل صباح ثم تنادي على زهيّة قائلة :
ـ أرواحي عَمْرِي عينيك من مُكْ. 
كانت زهيّة صغيرة على التلميح .. لكنني كنت أفهم ذلك جيدا وأنا أراقب مايحدث عن كثب. 
بعد حديث طويل جمع والدي وأخي الأكبر.. قرَّر هذا الأخير أخذها إلى مستشفى "بني مسُّوس" بالعاصمة.. في البداية كان والدي رافضا الفكرة مع تأزّم الوضع هناك ..لم تكن العاصمة آمنة آنذاك فالمجازر هنا وهناك ، 
في بادئ الأمر لم تُرحِّب والدتي بالفكرة لكنَّها وافقت على مضَضْ.. العاصمة التي كانت والدتي تشتاقها دوما هاهي ذي ستزورها أخيرا.. لكنها لم تكن تعلم أن هناك الكثير من المفاجآت التي تنتظرها على طبق من جَمر .. 
...يتبع.

#ابن_الماضي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.