رحو شرقي
وما أصعب أن تعيش مغتربا وأهلك بالجوار !..
كان الوقوف مع تلك السيدة سناء ، كمن يقف على الجمر ... يتسنى لحظة للانصراف ، وإذا بي أتحسس جموعا يأتون رجالا ، تتعالى أصواتهم بقصيد البردة فعلمت أن زائرا يُحمل على الأكتاف قد حانت قيامته !..
هكذا هي الدنيا ، دونية حقيرة ليس لها صديق ، تقذفنا ظلمات البطون بالصراخ على العراء ؛ ليضمنا الثرى بهنته الرخيصة ...
ما أحقرها ! وليس بأيدينا إلى الدعاء " اللهم أكرم نزله ، وآنس وحشته " وتركت المكان ...
وفي طريقي الذي يقودني إلى البيت ، نَظَرْتُ تلك السيدة أمام دار المسنين تتفرس وجوه المارة ، توحي نظرتها شغف المنتظر للغائب...
إنه عزيزها وقرة عينيها !
منكفئة الوجه ومسبلة الأهداب ، قد نهشت جسمها الحسرة المتوالية والشيخوخة المرومة على تجاعيد وجهها المتعب ،بأثوابها الرثة التي تعانق الأسف والأحزان ؛ وشالها المدرن في زمنها الآسن ...
من يحاول دفن ماضيه فهو مخطئ...مخطئ ، كمن يريد أن يعبر إلى الضفة الأخرى بلا مُعبر ...
واستأنست نداءها لبداية الحكاية ؟!
يا ولدي :
أنا قصة لا مرية فيها ، إن قلب الأم بمثابة الكتاب الخالد الذي يحمل على صفحاته أجمل السيمفونيات الكونية ، قد يرجع إلى مأتم
تلفحني الحسرة بالكسرة لمكان مظلم تعيش فيه العناكب ...
" إن أهون البيوت ، لبيت العنكبوت " بعدما كان اليتيم يعيش فقد الأمومة والأبوة ؛ أصبح اليتيم يعيش فقد الأدب والأخلاق ...
هكذا تعازينا للإنسانية ...إنه ابني الذي عجل لي قبرا خلف هذه الأسوار ، قبرا موحشا باردا وهو على قيد الحياة ، لقد شغفه حب زوجته ويتمارى على الدنيا لأعيش فيه الوحشة بتفاصيلها المميتة ؛ أتمنى على كتفي يدا تبتسم ..
- لقد انهارت بالبكاء وعم الصمت وهي تراقب المارة ، وكأنه مازال لم يَحِن وجه زائرها المغلوط ..
وأنا أحاور نفسي : وهل هناك أبشع من هذا اليتم ؟!
- ما بك أيها الدرويش المكسور على جناح من حملتك ؟!..
كانت تعانقك بقلبها وصنعت لك من صدرها عشا ، تومئ بصوتها الرخيم ، مقاطعه المموجة في لحن خالد .
قد جعلت منك رجلا محسودا بين الآخرين ، فرحتك فيها كأنه طائرا بلغ حلق السحاب !...
إذا سقطت التقطتك ، تريدك زهرة تنمو بعطرها ..ما بك ؟!...
لقد أتى عليك الزمان بمخالبه ليخنق فيك جمالها الفطري ، خُلِقت من أجلك لتحيا وأنت كَبرت بين جفنيها لتحجب عنها النور .
لقد أهدتك سنين العمر ، وأنت قدمت لها موج هائج تتوالى ألسنته .
ثم انحنيت لأسمع فجيعة الحكاية ، كما يتدلى الغصن لأهازيج الريح ..
يا بني :
مازلت أفتقده ، لأنه عزائي الوحيد ...
أنا والألم التي سافرت فيه منذ الولادة ...
أنا التي بُعث مني بأجل !
أنا التي كانت روحه معلقة فيّ بحبل سري ، وهل توجد حياة معلقة بعد هذه الحياة ؟! ...
- بعدما كانت سيدة في كنف العائلة ، ذلك الكيان الذي ذاب مع ضربات الزمن الموجعة ...
تلك الأحلام البائتة على أرجوحة الظلام البائسة ، والفجر المستحيل على أفول النجوم ، في هذا المكان الذي يشبه الزنزانة المجملة ؛ بنوافذها المطلة على تلك المكاتب .
أصبحت معلقة بين ذكريات الماضي في انتظار الموت القادم ؟!.. بحسرة العاقبة!...
هاهي تنتظر زائرا يخدش لها تجاعيد ذاكرتها ، التي لا تحتمل الوقوف على دقائق الماضي بألم ينهش حاضرها ...
سأودعك لأن الكلام ليس فيه عزاء ولا حكمة لتنير قلبا مقهورا
أو دربا مهجورا .....يتبع
عن نزيف قلمي رحو شرقي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق