بقلم:سعد نجاع
هو الصباح حين تفتح المدينة أبوابها للزاحفين نحو يوم جديد، فتعج شوارعها بالجنون وقت ذروتها بأشخاص يشبهون إلى حد بعيد الجثث المتحركة "الزومبي" التي تقتات من لحوم البشر ،وفي المقابل هم أشخاص لم تتحمل عقولهم وقلوبهم كوابيس كانوا يتجنبوها فتحققت فجأة ليصيبهم بعدها الجنون...
حين قال القائد الأسطوري "حنبعل " مقولته الشهيرة بأن" كل الطرق تؤدي إلى روما " فهو لم يخطئ لأن سبل الوصول متاحة لكن بطرق متعددة، أما في هاته المدينة التي يشتم أهلها بعضهم بعضا على جداريات المدارس والملاعب فهي مدينة كل الطرق إليها تؤدي إلى الجنون...
كعادته، مُكْفهرّ الوجه، أشعث الشعر، تعلوا ملامحه عناوين الحزن العميق، يكتب على جدارية المسجد طلاسم لايفهمها أحد سواه ، يحاول أن يكون مميزا عن غيره من دراويش الحي...
رأيته اليوم على غير عادته بعد أن حلّق ذقنه وارتدى هنداما يليق بالعقلاء وهو يعتلي المنصة التي تتوسط باحة المسجد ، بعد أن مدّ يده إلى متسولة كانت تجلس في الزاوية المقابلة من المسجد ، منحها قطعة نقدية ،ثم ابتسم وجرّ قدميه نحو مقهى العتيق، ...
غيرت وجهتي من المكتب إلى المقهى أقتفي أثره، دخل المقهى فدخلت وراءه بعدما جلس في الغرفة التي أسميها "بالغرفة المخفية" هاربا من عالم لا يرأف بالضعفاء، وبإشارة مني وأنا أستأذنه مشاركته الطاولة، أومأ برأسه إيجابا وهو يُحملق بي، ظلّ ينظر إليّ بشرود ويتشفّى ،كأنه يخبرني بشيء قادم، عند وقوف النادل بيننا أشار بإصبعيه السبابة والإبهام وهو يحصر مايطلبه بينهما، فهمت مايريد، أما النادل فلم يطل النظر إليه مطولا وقد أدار رأسه إليّ ،فما قام به الدرويش إشارة يحفظ النادل معناها جيدا ب "قهوة بيان دوزي"...
ثم أخرج من جيبه قطعة من سيجارة يكون قد استعمل جزءا منها قبل ولوجه الحي وراح يشعلها وينفث ماتبقى منها في الأفق، ولأن الغرفة كانت ضيقة لاتتسع إلا لأربعة أشخاص والداخل إليها ليس لديه أية حجة بأن يتّقِي شُبهة القمار أو لعبة "الرهان الرياضي" إلا أنني كنت أستنشق من تقاسيم وجهه الرحمة التي فقدها العقلاء، وهو يمنح تلك القطعة النقدية للمتسولة...
ـ كيف حالك يا رجل؟ قلتها مبتسما...
أجابني وهو يمتص رحيق سيجارته القاتل:
ـ الحمد لله ،وخاصة حين يتجنبنا العقلاء
لم أفهم تلميحه، كل ما فهمته أنه لايريد مجالستي أو بالأحرى الحديث معي....
إنصرفت وكلّي أمل أن ألتقيه يوما آخر لأن وراء جنونه قصة عظيمة
بخطى متثاقلة يرسم في أزقّة المدينة مخطط ترحاله، رأيته صبيحة اليوم الموالي في زاوية الشارع الكبير قبالة محل بيع التوابل وبالضبط عند الزاوية المؤدية لمقهى العتيق، كأنه يستنشق عطر الماضي الجميل، وأريج الطفولة بنرجسية درويش دفع به حبُ فتاة من مدينة شرقية إلى الجنون، وهو من كان يُزين الحي بديكوره المميز،...
عندما سألت أحد أقاربه وهو شيخ طاعن في السن بين تقاسيم وجهه وأسماله البالية مسيرة ألف عام،أما المسافة التي تفصل بين عينيه وأنفه فهي مسافة كافية لتجني منها محصول سنين من القهر والشقاء...، أجابني بنبرة حادّة وهو ينتظر هذا السؤال وفي تلك الزاوية من المقهى منذ سنين:
ـ الحب يابني يفعل بالرجال أكثر مما يفعل بالنساء ،ومافعلته تلك الريح الشرقية ب "سِيْدْ عْلِي" بعد أن بعثرته ودفعت به إلى الجنون خير دليل على ذلك...
ـ ريح شرقية؟
ـِ أجل ريح شرقية دفعت حيّا بأكمله إلى عشق تلك الفتاة التي جاءت ضيفة في إحدى العطل المدرسية لأحد أقاربها ، فبعثرت شباب الحي، اعتزلوا أعمالهم اليومية، وملأوا كراسي المقهى التي كانت قبل قدوم هاته الفتاة خاوية إلا من بعض كبار السن،...
سكت هنيهة ثم واصل حديثه وبنبرة واجفة:
من لم يسلم من هاته الريح هو "سيْدْ عْلِي" الشاب المسكين الذي أحَبّها بصدق ،أما بقية الشباب فبمجرد عودتها استأنفوا أعمالهم بذكاء واعتبروها نزوة مراهقة عابرة، لكن سيد علي كان مميزا في حبّه واقتفاء أثرها حتى بعد عودتها لمدينتها، وحين رُفض من طرف أهلها، عاد ليفترش رصيف الحي ويلتحف نجوم السماء ويتفرّس المارّة بعينين جاحظتين، عاد ليدفن ماتبقى من حبه في صدره الطيب النقي، ويلوذ بصمته في زوايا المقاهي لا يكلم أحدا غير سيجارته وفنجان القهوة... وأكبر خطوة يقوم بها هي أنه يتسلل إلى ينبوع المسجد ليغسل وجهه ويبلل رأسه ولايأبه للماء الذي يبلل جزءا كبيرا من ثيابه، حين يغتسل في الينبوع يصبح كفرخ عصفور بلّله المطر...
وبكل مايملكه "سيد علي " من دهاء إستطاعت تلك الشرقية أن تدفع به لأن يُحدّث نفسه، ويتوسل المارّة، ويلتقط بقايا السجائر المستعملة من على الأرض، ويرسم بذلك الجزء الصغير من عصاه قصة حب على أرصفة المقاهي والأحياء في كل تنقلاته...، إستطاعت أن تجعل منه دمية يلعب بها أطفال الحي فيرجمونه؛ثم يبتعدون عنه وهم يصفقون لكنه كان يبتسم وفقط ،كأنه يشاركهم فرحتهم...
جنونه كان مقابل لحظات يقضيها معها على سطح العمارة مستمتعا بجسدها البارز بتفاصيل مغرية كدمية"باربي"، كما لم ترحمه ليالي الصيف الهادئة بنجومها المتلألأة وقمرها الضيّاء من أن تكشف مخدعه في ليلة خالية من صخب الأعراس وانتصارات كرة القدم ،من تأوهات كانت تصل عنان السماء ثم تعود متساقطة عليه كرجوم شيطانية ، ظل يتلذذ تلك اللحظات التي تفصله عن عالمه الجنوني كلما مرّ شريط الذكريات أمام عينيه، في حين منحته تلك الشرقية جسدا يلمع كالذهب ويذوب في حضنه كشمعة ،ويلتئم بين يدي "سيد علي" كجرح طال شفاؤه، هي فتاة علمتها الحياة كيف تبرز مفاتنها للذين لم تكن لهم تجارب في الحب حتى ولو كانت فاشلة...
هبّت ريح شرقية أخذت من "سيد علي " عقله ثم اتهمته بالجنون...
هو الصباح حين تفتح المدينة أبوابها للزاحفين نحو يوم جديد، فتعج شوارعها بالجنون وقت ذروتها بأشخاص يشبهون إلى حد بعيد الجثث المتحركة "الزومبي" التي تقتات من لحوم البشر ،وفي المقابل هم أشخاص لم تتحمل عقولهم وقلوبهم كوابيس كانوا يتجنبوها فتحققت فجأة ليصيبهم بعدها الجنون...
حين قال القائد الأسطوري "حنبعل " مقولته الشهيرة بأن" كل الطرق تؤدي إلى روما " فهو لم يخطئ لأن سبل الوصول متاحة لكن بطرق متعددة، أما في هاته المدينة التي يشتم أهلها بعضهم بعضا على جداريات المدارس والملاعب فهي مدينة كل الطرق إليها تؤدي إلى الجنون...
كعادته، مُكْفهرّ الوجه، أشعث الشعر، تعلوا ملامحه عناوين الحزن العميق، يكتب على جدارية المسجد طلاسم لايفهمها أحد سواه ، يحاول أن يكون مميزا عن غيره من دراويش الحي...
رأيته اليوم على غير عادته بعد أن حلّق ذقنه وارتدى هنداما يليق بالعقلاء وهو يعتلي المنصة التي تتوسط باحة المسجد ، بعد أن مدّ يده إلى متسولة كانت تجلس في الزاوية المقابلة من المسجد ، منحها قطعة نقدية ،ثم ابتسم وجرّ قدميه نحو مقهى العتيق، ...
غيرت وجهتي من المكتب إلى المقهى أقتفي أثره، دخل المقهى فدخلت وراءه بعدما جلس في الغرفة التي أسميها "بالغرفة المخفية" هاربا من عالم لا يرأف بالضعفاء، وبإشارة مني وأنا أستأذنه مشاركته الطاولة، أومأ برأسه إيجابا وهو يُحملق بي، ظلّ ينظر إليّ بشرود ويتشفّى ،كأنه يخبرني بشيء قادم، عند وقوف النادل بيننا أشار بإصبعيه السبابة والإبهام وهو يحصر مايطلبه بينهما، فهمت مايريد، أما النادل فلم يطل النظر إليه مطولا وقد أدار رأسه إليّ ،فما قام به الدرويش إشارة يحفظ النادل معناها جيدا ب "قهوة بيان دوزي"...
ثم أخرج من جيبه قطعة من سيجارة يكون قد استعمل جزءا منها قبل ولوجه الحي وراح يشعلها وينفث ماتبقى منها في الأفق، ولأن الغرفة كانت ضيقة لاتتسع إلا لأربعة أشخاص والداخل إليها ليس لديه أية حجة بأن يتّقِي شُبهة القمار أو لعبة "الرهان الرياضي" إلا أنني كنت أستنشق من تقاسيم وجهه الرحمة التي فقدها العقلاء، وهو يمنح تلك القطعة النقدية للمتسولة...
ـ كيف حالك يا رجل؟ قلتها مبتسما...
أجابني وهو يمتص رحيق سيجارته القاتل:
ـ الحمد لله ،وخاصة حين يتجنبنا العقلاء
لم أفهم تلميحه، كل ما فهمته أنه لايريد مجالستي أو بالأحرى الحديث معي....
إنصرفت وكلّي أمل أن ألتقيه يوما آخر لأن وراء جنونه قصة عظيمة
بخطى متثاقلة يرسم في أزقّة المدينة مخطط ترحاله، رأيته صبيحة اليوم الموالي في زاوية الشارع الكبير قبالة محل بيع التوابل وبالضبط عند الزاوية المؤدية لمقهى العتيق، كأنه يستنشق عطر الماضي الجميل، وأريج الطفولة بنرجسية درويش دفع به حبُ فتاة من مدينة شرقية إلى الجنون، وهو من كان يُزين الحي بديكوره المميز،...
عندما سألت أحد أقاربه وهو شيخ طاعن في السن بين تقاسيم وجهه وأسماله البالية مسيرة ألف عام،أما المسافة التي تفصل بين عينيه وأنفه فهي مسافة كافية لتجني منها محصول سنين من القهر والشقاء...، أجابني بنبرة حادّة وهو ينتظر هذا السؤال وفي تلك الزاوية من المقهى منذ سنين:
ـ الحب يابني يفعل بالرجال أكثر مما يفعل بالنساء ،ومافعلته تلك الريح الشرقية ب "سِيْدْ عْلِي" بعد أن بعثرته ودفعت به إلى الجنون خير دليل على ذلك...
ـ ريح شرقية؟
ـِ أجل ريح شرقية دفعت حيّا بأكمله إلى عشق تلك الفتاة التي جاءت ضيفة في إحدى العطل المدرسية لأحد أقاربها ، فبعثرت شباب الحي، اعتزلوا أعمالهم اليومية، وملأوا كراسي المقهى التي كانت قبل قدوم هاته الفتاة خاوية إلا من بعض كبار السن،...
سكت هنيهة ثم واصل حديثه وبنبرة واجفة:
من لم يسلم من هاته الريح هو "سيْدْ عْلِي" الشاب المسكين الذي أحَبّها بصدق ،أما بقية الشباب فبمجرد عودتها استأنفوا أعمالهم بذكاء واعتبروها نزوة مراهقة عابرة، لكن سيد علي كان مميزا في حبّه واقتفاء أثرها حتى بعد عودتها لمدينتها، وحين رُفض من طرف أهلها، عاد ليفترش رصيف الحي ويلتحف نجوم السماء ويتفرّس المارّة بعينين جاحظتين، عاد ليدفن ماتبقى من حبه في صدره الطيب النقي، ويلوذ بصمته في زوايا المقاهي لا يكلم أحدا غير سيجارته وفنجان القهوة... وأكبر خطوة يقوم بها هي أنه يتسلل إلى ينبوع المسجد ليغسل وجهه ويبلل رأسه ولايأبه للماء الذي يبلل جزءا كبيرا من ثيابه، حين يغتسل في الينبوع يصبح كفرخ عصفور بلّله المطر...
وبكل مايملكه "سيد علي " من دهاء إستطاعت تلك الشرقية أن تدفع به لأن يُحدّث نفسه، ويتوسل المارّة، ويلتقط بقايا السجائر المستعملة من على الأرض، ويرسم بذلك الجزء الصغير من عصاه قصة حب على أرصفة المقاهي والأحياء في كل تنقلاته...، إستطاعت أن تجعل منه دمية يلعب بها أطفال الحي فيرجمونه؛ثم يبتعدون عنه وهم يصفقون لكنه كان يبتسم وفقط ،كأنه يشاركهم فرحتهم...
جنونه كان مقابل لحظات يقضيها معها على سطح العمارة مستمتعا بجسدها البارز بتفاصيل مغرية كدمية"باربي"، كما لم ترحمه ليالي الصيف الهادئة بنجومها المتلألأة وقمرها الضيّاء من أن تكشف مخدعه في ليلة خالية من صخب الأعراس وانتصارات كرة القدم ،من تأوهات كانت تصل عنان السماء ثم تعود متساقطة عليه كرجوم شيطانية ، ظل يتلذذ تلك اللحظات التي تفصله عن عالمه الجنوني كلما مرّ شريط الذكريات أمام عينيه، في حين منحته تلك الشرقية جسدا يلمع كالذهب ويذوب في حضنه كشمعة ،ويلتئم بين يدي "سيد علي" كجرح طال شفاؤه، هي فتاة علمتها الحياة كيف تبرز مفاتنها للذين لم تكن لهم تجارب في الحب حتى ولو كانت فاشلة...
هبّت ريح شرقية أخذت من "سيد علي " عقله ثم اتهمته بالجنون...