أعلان الهيدر

الاثنين، 11 ديسمبر 2023

الرئيسية قراءة في كتاب ( العقل الحافي ) للكاتب الروائي أمين الزاوي.

قراءة في كتاب ( العقل الحافي ) للكاتب الروائي أمين الزاوي.

 
 
غريبي بوعلام
 
 
 
( العقل الحافي ) عنوان أخر مقال الكتاب، جعله الكاتب عنوان كتابه، أسفله عنوان فرعي، غلافه أسود عليه صورة كاتبه في وضعية تفكير عميقة، يفكر في المعضلات العويصة التي تناولتها مقالاته، كأنه شمعة تذوب لتضيء الظلام الذي اجتاح مجتمعه، ظلام رمز له بذلك اللون الأسود، مصداقا للقول المعروف: اشعل شمعة بدل لعن الظلام.


طوال 65 مقالا،كان كاتبها مثقفا ثوريا، أخذ على نفسه عهدا على قول و كتابة كل ما شغل و يشغل فكره بكل حرية و جرأة، نظرا للمواضيع الحساسة التي يناقشها، أفكار كثيرة تجمعت و تخمرت في ذهنه، تدفقت من قلمه على الورق كالسيل الجارف، مكتسحا مساحات شاسعة من الجهل و الظلامية التي عششت و فرّخت في عقول الناس، مهمته لم تكن سهلة لتغيير الذهنيات المتصلبة و الأفكار الجامدة الخاملة التي أُفرغت في قوالب جاهزة.
اجتهد في اكتساح مناطق ملغمة، مسيجة بأسلاك مكهربة بالممنوع التام، تصعق كل من يقترب منها، طاقة عقلية معتبرة بذلها، تشعر بها و أنت تقرأ الكتاب، تجد في أعماقك زلزالا خفيا خفيفا يهزك من الأعماق، يهدم لغرض بناء جديد على أسس و قواعد صلبة و متينة، أفكار جديدة تكنس من عقلك أفكارا أخرى كنت تعتقد بصحتها، سرعان ما تكتشف أنها تشبه نفايات يجب كنسها، كانت تسمم عقلك و أنت تجهل ذلك، كالسُّم في الدُسم، كمخدر على شكل منشط فكري.
جهود معتبرة بذلها الكاتب لإقناع القارئ بأفكاره، يحوم حولها بأسلوب مبسط بالشرح و التحليل بمنهجية عقلية، يشخّص الداء في الأخير يصف الدواء، بمشرطه الفكري يفتح ليستأصل الورم.
منذ استقلال الجزائر، كان على النظام الحاكم حينها أن يقبل بِبَقاء الطبقة الفكرية المثقفة من الفرنسيين، الجزائر خرجت من حرب مدمّرة و كان عليها بداية البناء و التشييد، كان من الضروري بل من الواجب استبقاء تلك النخبة الفرنسية المفكرة صاحبة الأفكار الخلاّقة، لتستفيد من خبراتها و تجاربها الكبيرة في مختلف مجالاتها،كالمفكرين و الكُتّاب خاصة الذين وُلِدوا في الجزائر و أحبوها من قلوبهم،كانوا ضد بلدهم فرنسا التي احتلت و حاربت الجزائر، بعضهم ساند الثورة الجزائرية بالقلم و حمل السلاح مع المجاهدين.
لكن مع الأسف الشديد النظام حينها أخذ قرار طرد و نفي كل الطبقة المثقفة النيّرة من الجزائر، و السبب لأنهم فرنسيين فَهُم أعداء، كانت الرغبة شديدة و قوية في زراعة ثقافة الكره و البُغض لكل فرنسي، لكل ما هو فرنسي و له علاقة به من قريب أو بعيد، العطش كان كبيرا لمزيد من الانتقام و اشفاء الغليل، تم تصفية عناصر كثيرة من أصحاب الثقافة العليا و الفكر المتنور، وصل الأمر ببعض المتهورين إلى قطع الأشجار التي غرستها فرنسا لغرض تزين الشوارع.
من الذين تم اغتيالهم بعد الاستقلال في ظروف غامضة الكاتب المفكر (جان سيناك) المولود في الجزائر المعروف بتأييده للثورة الجزائرية، كذلك الفيلسوف الفرنسي الوجودي (جون بول سارتر) الذي قال قولته المشهورة : أنا مستعد لأكون جنديا في صفوف المجاهدين، أصدر رائعته ( عارنا في الجزائر ) التي جرّت عليه الويلات، و لا مرة واحد تم الحديث عن هذا الفيلسوف الذي كرّس قلمه للجزائر.
قبيل الاستقلال أنشأت فرنسا المنظمة السرية، كان هدفها تدمير و حرق كل منشآتها الحضارية في الجزائر، وقتل كل رمز فكري كبير كي لا تستفيد منه الجزائر و تركها في حطامها و رمادها، خاصة بعد تأكدها أن الجزائر ستستقل، تم اغتيال الروائي (مولود فرعون) الذي كتب بالفرنسية، أحرقوا مكتبة جامعة الجزائر، فجّروا الميناء.
كل ما فعلته فرنسا قبيل الاستقلال، واصله النظام الذي حكم الجزائر بعد استقلالها، من نفي و سجن و تعذيب و تهميش و تكميم و مطاردة كل فِكر نيّر سواء كان فرنسي وُلد في الجزائر أو جزائري يكتب بالفرنسية، كل هؤلاء كانت الجزائر في أمس الحاجة إليهم من أجل النهوض من جديد.
هذا هو المحور الأول الذي خصّص له الكاتب بعض مقالاته، المحور الثاني تمثّل بمن ستستعين الجزائر بعد الاستقلال للبناء و التشيد؟ وقع الاختيار على دعوة و استدعاء معلمين و أساتذة من دول المشرق العربي خاصة مِصر، هذا داخل في سياسة التعريب السريعة التي انتهجها النظام بعد الاستقلال، بعد استيراد هؤلاء جاؤوا حاملين معهم فِكر الإخوان المسلمين التكفيري المتطرف، ليتم زرعه في عقول التلاميذ و الطلاّب الجزائريين عن طريق المدرسة و التعليم، رويدا رويدا تغلغل إلى النخاع، النتيجة كان ما حصدته الجزائر من دمار و تخريب على جميع الأصعدة.
بعد وفاة رئيس الجزائر الذي كان قد درس بجامع الأزهر، انتهج الرئيس الجديد نفس النهج، عيّن الشيخ محمد الغزالي في منصب مدير جامعة قسنطينة للعلوم الإسلامية، منحوه منابر إعلامية للحديث بكل حرية، سانده في ذلك الشيخ يوسف القرضاوي رفقة شلة من شيوخ الإخوان المسلمين، الذين تمكنوا من الامساك بزمام برامج التعليم في الجزائر من قبة البرلمان بواسطة أحزاب سياسية إسلامية موالية للنظام إلى يومنا هذا. شنوا حملة ضد وزيرة التربية و التعليم حين حاولت التغيير في برامج التعليم، قذفوها باتهامات خطيرة لا دليل لهم عليها.
إديولوجية هؤلاء كانت شديدة على فكر أصحاب الفكر التنويري في الجزائر، اتهامهم بالخروج على الدين، الانحراف عن المبادئ و ضرب الأسس المتينة للجزائر و ثوابتها، شحنوا رؤوس التلاميذ و الطلاّب بثقافة الكراهية و البغضاء لكل تجديد يأتي من الغرب خاصة من فرنسا، دعوهم إلى نبذ لغتها و عدم الدراسة و القراءة بها.
السؤال المطروح لماذا لم يتم الاستعانة بفكر ابن باديس؟ صاحب الفكر المتنور المتفتح، الذي طالب برفع حِجاب الجهل عن المرأة و ضرورة تعليمها، و التفتح على اللغات بما فيها اللغة الفرنسية، ابن باديس الذي أثنى على كمال أتاتورك الذي أسقط الخلافة العثمانية.
لا ننكر أن فرنسا عاثت فسادا في أرض الجزائر لمدة 132 سنة من الاحتلال، لكن بعد كل هذه المدة الطويلة من الاستقلال كان يجب قلب الصفحة، و بداية صفحة جديدة لمستقبل زاهر بين البلدين و التعاون في كل المجالات بما يخدم مصالحهما.
نتيجة لسياسة التعريب المنتهجة بعد الاستقلال، كان رد فعل قوي من دعاة العودة إلى الأصل الأمازيغي و اللغة و الثقافة الأمازيغية إلى جانب اللغة العربية الرسمية، ( هذا هو المحور الثالث للكتاب ) كل هذا خلق ذلك الصراع المرير في السّر و الخفاء، إلى درجة الخوف من الحديث العفوي باللغة الأمازيغية حينها خارج البيت أو في مقر العمل.
بداية الأزمة البربرية تعود إلى ما قبل الثورة التحريرية 1954 بالضبط سنة 1949 ليخفت صوتها أثناء الثورة التحريرية، ليعود من جديد بعد الاستقلال، لكن حدث حينها تهميش و منع و قمع رهيبين. في سنة 1980 وقعت تلك الأحداث الدامية في جامعة (واد عيسي) بتيزي وزو بسبب أن الروائي الجزائري (مولود معمري) كان سيلقي محاضرة عن الشعر الأمازيغي، حيث تم منعه بالقوة، فكان رد فعل قوي من الجماهير الذين تم اسكاتهم بالقمع و الرصاص، من حينها تم ابتكار الربيع الأمازيغي.
بعض ظهور التعددية الحزبية سنة 1989 عادت القضية الأمازيغية لتطفوا من جديد على السطح، لم تدخل في الدستور إلا بعد مجيء الرئيس المخلوع إلى السلطة سنة 1999، الذي كان قد رفضها بشدة في البداية، ثم تراجع عن قراره مع الدستور الجديد، و تم انشاء المحافظة السامية للغة الأمازيغية، و في سنة 2021 تصير الأمازيغية لغة وطنية و رسمية للجزائر إلى جانب اللغة العربية.
مازال هناك مناوشات خفية خلف الستار تعمل على عرقلة تدريس الأمازيغية، بوضع خشبة في العجلة لقطع الطريق أمامها، أمثلة ذلك تحريم الاحتفال بيناير لأن فيه عادات شركية تُخرج من الدين حسب النظرة السلفية.
تدريس اللغة الانجليزية في الابتدائي بحجة أنها لغة العِلم العصرية، بحجة قطع الطريق أمام الفرنسية لغة المستعمِر التي تساند اللغة الأمازيغية، لهذا عرقلة الفرنسية هي وجه من وجوه منع الأمازيغية، نسي أو تناسى هؤلاء أن اللغة الانجليزية كذلك لغة المستعمِر، انكليترا احتلت دول عربية و غير عربية في افريقيا و آسيا، كانت امبراطورية لا تغيب عنها الشمس، فلماذا رفض الفرنسية و قبول الانجليزية؟ إن لم يكن الهدف لعبة سياسية، زد على ذلك الانجليزية كانت تدرس من زمان في التعليم المتوسط و الثانوي. صدق الراحل كاتب ياسين الذي قال:اللغة الفرنسية غنيمة حرب، يمكننا الاستفادة منها من الناحية الثقافية و العلمية، معظم جامعات الجزائر تدرّس العلوم بالفرنسية كالطب مثلا و كثير من التخصصات الدقيقة.
لا ينبغي الاستهانة بالأدب الجزائري المكتوب الفرنسية، سواء أثناء فترة الاحتلال أو بعد الاستقلال إلى يومنا هذا، أمثال الروائي ( مولود فرعون مولود معمري آسيا جبار كاتب ياسين محمد ديب رشيد بوجدرة )و غيرهم، تم تهميش كل هؤلاء و جعلهم في سلة النسيان، السياسة التي انتهجها النظام منذ الاستقلال، نظام يعرف كيف يهيّج التيار الإسلامي المتطرف ضد أصحاب الفكر التويري المعارض، بعد اتهامهم بتهمة الإلحاد و الكُفر، ثم أثناء الحملة الانتخابية يتزلف لأصحاب الزوايا لكسب المزيد من التعاطف و الأصوات، هي نفس سياسة فرنسا التي فرضت على شيوخ الزوايا فتوى أن احتلالها للجزائر قدر من الله يجب الإيمان به.
إلى جانب هذا المحور تطرق الكاتب لموضوع يهود الجزائر، الذين شارك الكثير منهم في الثورة الجزائرية لأن الجزائر بلدهم، هناك من دفع دمه من أجلها، كما شارك الكثير من الفرنسيين في ثورة الجزائر ضد بلدهم فرنسا سواء بالسلاح أو قلم كمثال موريس أودان و ايفتون.
في المقابل وصل عدد الخونة من أهالي مسلمين الجزائر إلى ما يقارب نصف مليون خائن(حركي) حاربوا مع فرنسا ضد بلدهم.
التاريخ يسجل أنه كان مسحيين و يهود في الجزائر قبل مجيء المسلمين، القديس (سانت أوغسطين) من سوق أهراس. نزح الكثير من اليهود بعد سقوط الأندلس إلى شمال افريقيا فرارا من بطش محاكم التفتيش الكاثوليكية. يستحيل محو البصمة الأمازيغية للجزائر بحجة دخول الإسلام إلى هذه المنطقة، لكن مع الأسف نرى و نسمع ما يقوله دعاة القومية العربية المدعمة بالإسلام السياسي أن كل شمال إفريقيا كلهم عرب.
للروائي أمين الزاوي رواية عنوانها (الخلاّن) بطلها الرئيسي (ليفي نقاوة زميرمان) يهودي من غرب الجزائر، مات من أجل بلده أثناء الثورة، شخصية حقيقية في الواقع.
(مريم بان) يهودية جزائرية من نسل الفيلسوف الأندلسي (ابن ميمون) كاتبة و روائية و فنانة تشكيلية رفضت مغادرة الجزائر، كانت مؤيدة لثورتها و ضد الصهاينة الذين احتلوا فلسطين، اشتغلت بالتعليم في وطنها الجزائر، لكن في الأخير اضطرت إلى هجرته بعد دخول الجزائر في دوامة العشرية السوداء، بعد تكفير كل الشعب الجزائري، و الدعوة لقتل كل من ليس بمسلم، و الحصاد في الأخير كان أكثر من 200 ألف قتيل.
في الكتاب مقالات متفرقة لها علاقة بتلك المحاور، كمثال الروائي مولود فرعون صاحب رائعة ( نجل الفقير) الذي سجل زوجته الأمية صاحبة ثلاثة عشر سنة في المدرسة الابتدائية التي كان يدرّس فيها فصارت تلميذته.
مقال عن جون بول سارتر الفيلسوف الفرنسي الذي دافع بشدة عن القضية الجزائرية بمقالاته النارية، فضح المجازر التي ارتكبتها فرنسا ضد الشعب الجزائري، لم نسمع و لو بكلمة واحدة عن هذا الفيلسوف سواء من الطبقة الحاكمة أو المثقفة، قال الكاتب: لماذا لا يطلق اسم هذا الفيلسوف على شارع في الجزائر أو ساحة شعبية؟
كي لا ننسى جرائم الإرهاب في الجزائر، اقترح الكاتب انشاء متحف نسجل فيه كل ما حدث أثناء العشرية السوداء، و نعلق على جدرانه كل الآثار التي خلّفها ذلك الإرهاب الأعمى، هذا قدوة بمتحف في دولة افريقية جعلت متحفا لجرائم دول الغرب، التي أخذت السكان السود كعبيد للعمل في قارة أمريكا بعد اكتشافها.
حل أزمة الثقافة و الفكر في الجزائر يكمن في قبول التعددية الثقافية و العمل بمبدأ الاختلاف و التنوع مع نبذ تلك النظرة الأحادية، كل هذا سيخفف من حدة التوتر و كراهية الأخر المختلف عنا، كل هذا في إطار سياسة المواطنة.
أثناء قراءة الكتاب تشعر بقوة دفاع الكاتب عن ذاكرة هؤلاء الكُتّاب و المفكرين، الذين تم تغييبهم عمدا من الساحة الثقافية الجزائرية، خاصة المعارضين لسياسة السلطة الذين كتبوا بالفرنسية، المشكلة ليست في اللغة بقدر ما هي في الفكر النهضوي الذي ينتقد بشدة سياسة النظام التي نهدم أكثر مما تبني، تعود إلى الوراء أكثر مما تتقدم إلى الأمام، كان يمكن للغة العربية أن تحمل ذلك الفكر النقدي التنويري الذي يدعو إلى التجديد.
أمين الزاوي كان مع الذين كادوا الغرق أثناء العشرية السوداء، نجى بأعجوبة و هو يرى أصدقاءه الكُتّاب و أهل الفِكر يغرقون و لا يستطيع أن يفعل لهم شيء، لهذا الان لم يبق له إلا قلمه الحر و لسانه الفصيح، للدفاع عن هؤلاء المبدعين الكبار، الدفاع عن فكرهم الراقي النيّر و لا يقعوا في فخ النسيان المنصّب لهم، كأن القدر حفظ الأستاذ الزاوي من أجل هؤلاء ليواصل مسيرتهم الفكرية الطويلة الشاقة المفروشة بالأشواك.
 
غريبي بوعلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.