أعلان الهيدر

الأحد، 7 يونيو 2020

الرئيسية أنا، وهو، والصّورة "

أنا، وهو، والصّورة "

إدريس بوديبة




الصّورة الفتوغرافية تقنية وفنّ وإحساس، وهي مبنى ومعنى، ومادة بصريّة مشفّرة بمحمولات ثقافية وجمالية، إنها اللحظة الدّالة والومضة المكتنزة بالمدلولات والقراءات المفتوحة، إنها وثيقة وشهادة وموقف وموضوع وأخلاق! الصورة في عصرنا أصبحت في المتناول والمتداول عبر الهواتف الذكية، برواجها وجاهزيتها، "فالكلّ يصّور" كيفما يكون وأينما يكون ! هذه الظاهرة الجارفة بكل تراكماتها أدّت لتكريس الوظائف الاستعجالية للصورة، ربما عجزت عن انجاب مصوّرين محترفين متمكنين من الأدوات والمعارف الجمالية ، لقد ساهم "النّقّال" في انتشار التواصل البصري و الاستفادة من تقنيات الرقمنة و تطبيقاتها المرنة ، و إزدادت فرص التوثيق لليوميات و المشاعر التي تعكس زوايا النظر و الرؤى و الأفكار ، فصورة واحدة قادرة على تحشيد الرأي العام لتبني موقف أو تعديل سياسات، لأنّ الصورة بوثوقيتها لها القدرة على إنقاذ " الكلام" من اللغو وإعطائه المصداقية وتشذيب تداعياته من ثرثرة التبرير. و لتطوير منظومة الصورة فنيا وتقنيا ،علينا إدخال مقاربات بيداغوجية أكثر حداثة وجدية في التكوين والتأطير و التبادلات و تأسيس النوادي و تكثيف المعارض المُحكّمة وتشجيع المصورين واقتناء أعمالهم وتثمينها وإنشاء "المركز الوطني للصورة" لمواكبة التحولات الوطنية والدولية ، لأن الصورة جزء من سيمياء العصر ولغته. 
كانت لي حكاية مع الصورة، فقد كنت أحلم في شبابي أن أكون مصوّرا محترفا، وتمكنت بعد جهد جهيد من شراء آلة تصوير من نوع" Praktika" وكنت أحملها على استحياء، ومع ذلك كنت أحلم بأن أطوف العالم وأصوّر الوجوه والنساء والمدن والبحر ...وتشاء الصدف أن يطلب مني أحد الأطباء الفرنسيين الذي بقي بعد الإستقلال يشتغل في عيادته بمدينة سكيكدة واسمه "بير ساليس" و هو من أصل ألماني، وكان هذا في حدود سنة 1982، للقيام بتعليم نجله اللغة العربية لأنه بصدد تحضيره للعمل بالسعودية مع خاله كما أخبرني، وفي وقت قصير ربطتني علاقة قوية بهذا الشاب النبيه الودود الذي تعلّم مبادئ الكتابة والقراءة بسرعة، وكان شغوفا ومهوُوساً بالتصوير ويمتلك مخبرًا بكل التجهيزات في منزله، و يقوم بالتقاط مئات الصور وتحميضها والاشتغال عليها بنفسه، وأدخلني لهذا العالم السّاحر الذي وجدت فيه ضالتي، كنّا نخرج معا لالتقاط الصور وتعلمت أشياء كثيرة كنت أجهلها مثل كمية الضوء، الكتلة ، تقسيم الصورة ، ضبط الأبعاد ، الخلفية و غيرها ، وحين بلغ هذا الشاب 18سنة، كان في منتهى السعادة والبهجة لأنه سيغادر بيت والديه والاستقلال بنفسه والتمتع بحريته والرحيل إلى فرنسا ، وبالفعل سافر إلى باريس لمزاولة هوايته والتخصص في فنّ الفتوغرافيا، ولم يلتحق بخاله في السعودية كما كان مقررا ، لقد كان سعيدا في حياته الجديدة ومفعما بالحماس ، ويبعث لي بانتظام بطاقات بريدية من تصميمه ،وكانت أحلامي تزداد تأجّجًا واشتعالا وتكبر في مخيلتي أشرطة المغامرات لذاك المصوّر الذي يسكنني ،و الذي سيجوب العالم حاملا على كتفه آلة التصوير الضخمة مرتديا الزي الكاكي وقد أطلق لحيته وشعره . بعد سنتين كاملتين عاد صديقي من باريس في إجازة قصيرة إلى سكيكدة، والتقينا في بيت والديه، وحدثني عن تربصاته المتعددة في التصوير الأكاديمي والموديلات وعرض الأزياء وغيره، ولكن صدمتي كانت كبيرة حين أخبرني أنه طوال تلك الفترة لم يبع للمجلات الكبرى سوى صورتين ، لأن المنافسة شرسة والمستوى رفيع وليس من السهل ولوج هذا العالم وانتزاع موقع فيه ، فهو يحتاج للمهارات العالية ، غير أن صديقي الشاب الطموح لم ييأس و أصرّ إصرارًا على مواصلة المغامرة، وفعلا بعد مدّة قصيرة أخبرني أنه أصبح من المصورين البارزين الذين تتنافس المؤسسات الإعلامية والتجارية للتعاقد معه ، عندئذ أدركت أنّ "صديقي" قد حقق حلمه بالصمود والشغف وبالتكوين والتّنسّك في معبد الصورة بكل زئبقيتها وبهائها ونبلها.
وفي الختام أقول: إن أهمية الصورة تكمن في القدرة على إيقاف الزمن و مقارعة الموت وهذا بتأبيدها لحظات القبح و الجمال ، فهي وعي وسؤال ونافذة نطل منها لاستعادة الزمن المفقود.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.