أعلان الهيدر

الجمعة، 29 نوفمبر 2019

الرئيسية قراءة في رواية ( وحيدا في الليل ) للروائي الجزائري مفتي بشير.

قراءة في رواية ( وحيدا في الليل ) للروائي الجزائري مفتي بشير.

غريبي بوعلام 




تقوم الرواية على لسان ثلاث شخصيات رئيسية، ياسين الناشر العجوز الذي يتحدث عن مخطوط رواية كاتبه المفضل رشيد كافي و طبيعة علاقته به، و جزء من حياته هو الأخر، كيف جاء إلى النشر؟ و رغبته في أن يساعد الكاتب صاحب الموهبة في نشر أعماله زمن التسعينيات حينما لم يكن هنالك نشر في الجزائر، الشخصية الثانية هو رشيد كافي كاتب يعيش للكتابة و من أجلها، يحس بالعزلة و الضيق و النفور، لكن الكتابة هي مدار حياته كلها، تعيده رسالة صديقه القديم هشام ماضي إلى فترة التسعينيات المؤلمة و تذكره به هو الذي اختفى في ظروف غامضة و من دون أن يفهم كل أقاربه كيف و لماذا و أين ذهب..اللغز الذي ستكشف الرسالة عنه بعض الشيء.

الشخصية الثالثة هو هشام ماضي و رسالته الطويلة التي تشبه الاعترافات أو السيرة الذاتية أو محاولة كشف ما ظل خافيا عن الاخرين ..حياته و صراعاته الداخلية أو الخارجية و مساره العنيف الذي قاده ليصبح بدوره آلة للعنف في مرحلة كان العنف هو السيد و هو المتكلم الوحيد، ثلاث شخصيات تجمعهما رواية واحدة و تربطهم لعبة روائية مشتركة، كاتب يكتب مقدمة روائية لرواية هشام ماضي و يعطيها للناشر الذي من المفروض يتولى نشرها لكنه يصاب بمرض و يكتب هو أيضا وصية أخيرة لابنه لنشر الرواية ...

الرواية كلها مأساة، مأساة نفسية عمقية تنخر بطل الرواية من الأعماق، تحاول تفكيكها و تحليلها دون الوقوع في التحليل العقلي الجاف الخالي من جرعة عاطفية التي تجذب القارئ، تسرد الأحداث في نفس الوقت تحلل العواطف المشتعلة و المتصارعة في أعماق أبطالها ببساطة دون اللجوء إلى التفسير و الشرح المُمِل. يواصل الراوي سرد أحدث الرواية بتلك التقنية السردية المكثفة لأحداثها بأسلوبه السلس الخفيف المدهش، خاصة من ناحية تفكيك و تصوير العواطف الهائجة و الأفكار المحتدمة في بؤرة الشعور المتوترة، تقنية سردية تسلب لب القارئ، تتركه مشدود للرواية و ينتظر بشوق كبير بقية الأحداث الاتية و المتماسكة في نسيجها السردي، المحكمة البناء مِمَا يدل من تمكن الروائي من أدواته الإبداعية، و حنكته في كيفية التأثير على وجدان القارئ و كسبه و اللعب على أوتاره الحساسة بصياغة أدبية تميل إلى البساطة مع تمسكها بالعمق في الطرح، و البُعد في النظر، و التشويق المدهش، و لا نجد في السرد صور أدبية بلاغية إلا ناذرا، و إن وُجِدت تأتي بطريقة عفوية دون أن يقصدها الكاتب، لهذا لا نجد في الرواية التجميل اللفظي و لا زخرف الكلمات بسبب اهتمام الكاتب بالفكرة و طريقة عرضها بحيث تكون مؤثرة جدا على وجدان القارئ، في رأيي قد أفلح في ذلك إلى أبعد حدود التأثير، و قد ساعده على ذلك استعمال الحوار الذي كان كالباب المشرّع على أعماق شخوص الرواية، و لا نجد وصف لأماكن أحداثها.

نلمس في الرواية تأثر الكاتب بل ولعه بالروائيين الكبار مثل دوستويفسكي، كافكا، هنري ميلر و غيرهم، هؤلاء الكتّاب عُرِفوا بعمق تحليلاتهم للصراعات النفسية التي تتخبط فيها البشرية و براعتهم في عرضهم لها في قالب أدبي روائي مدهش إلى درجة الصدمة.

بطل الرواية جرّب كل الطرق لمعالجة الصراعات الكبيرة التي زلزلت باطنه و سوّدت حياته، هاجر دراسته الجامعية، حبه الفاشل، ذهابه إلى الخدمة الوطنية و نيران الإرهاب ملتهبة، استغلاله من طرف ذلك الجهاز السري، الفرار الذي زاد من محنته الذي عمقها أكثر و أكثر، في الأخير يعود إلى القلم الذي باح له بكل ما في جوفه على الورق الأبيض، تُرى هل تمكن من علاج نفسه بعد أن مارس ذلك التفريغ الرهيب على الورق ؟ هذا هو السؤال الذي طرحه الروائي بأسلوبه غير المباشر و تركه بلا جواب و هي دعوة للقارئ ليشاركه الإجابة، بالتالي مشاركته محنة الكتابة الإبداعية التي ربما يمكنها أن تكون كعلاج بالبوح أو هي ليست كذلك، و طوال السرد الروائي نجد بعض المساءلات عن الكتابة الإبداعية و الجدوى و الهدف منها، هذا السؤال الذي أرّق أهل الإبداع من زمن بعيد، يعيد طرحه الآن، كما سبق للروائي طرح موضوع جودى الكتابة الإبداعية و مدى تأثيرها في تغيير الفرد في بعض أعماله الروائية السابقة، و في كل محاولة يقلّب الموضوع على كل جوانبه، أو يراه من زاوية أخرى لم يتطرق لها من قبل.

في الرواية مساءلات أخرى وجودية عن جدوى وجود الإنسان في هذه الحياة، ماذا يفعل فوق هذا الكوكب؟ كأنه وُجِد ليعاني من البلاء والتلوث بالسواد و الدليل قصة بطل هذه الرواية، يتساءل عن علاقته بخالقه الذي يشعر و كأنه تركه لوحده مهملا و فريسة سهلة بين أنياب الهَم و الغم، إلى أن رسخت في جوفه تلك النظرة السودوية القاتمة، و تعمّد الروائي عدم الجواب، لأنه لو أجاب ستنتهي الأسئلة التي لا يريد لها أن تنتهي، لأن النهاية عبارة عن ركود للفكر و جمود للعاطفة، يظهر هنا جانب من فكر الروائي و نظرته التساؤلية الاستفهامية للحياة و الوجود، و هي نظرة لا تخلو من نظرة فلسفية حاول توظيفها بأسلوبه الأدبي الراقي و هي مبثوثة في ثنايا السرد.

كما عاد الكاتب مرة أخرى إلى موضوع الموت، محور كثير إبداعاته الروائية، أو قتل أبطال روايته و كأن الورق الأبيض صار ساحة قتالية من كثرة تكرا ر قتله لهم في رواياته السابقة، خاصة في الرواية التي سبقت هذه الرواية التي كرّسها لفكرة الحياة بالقتل و الموت.

----------

غريبي بوعلام / الجزائر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.