أعلان الهيدر

الخميس، 17 أكتوبر 2019

الرئيسية قراءة في رواية ( هلوسة جبريل) للروائي الجزائري أنور رحماني .

قراءة في رواية ( هلوسة جبريل) للروائي الجزائري أنور رحماني .

غريبي بوعلام


قبل أن أخوض في مناقشة وتحليل أحداث هذه الرواية، يحب أن اسرد أحداثها باختصار شديد، ليتمكن القارئ من متابعة القراءة التي سأكتب.

(ماريا ) بطلة الرواية الرئيسية، ترعرعت و كبرت في قرية نائية معروفة جدا بمحافظتها الشديدة على الأعراف و التقاليد و تمسكها بالدين و التزامها الكبير بتعاليمه إلى حد النخاع، حدث مرة أن يتم اغتصابها من طرف صديق والدها و جاره في نفس الوقت، اغتصبها و حملت منه، و عندما علمت أنها حامل و هي في سن المراهقة ( 15 سنة )، أدركت هول المصيبة التي أوقعها فيها ذلك الرجل، خاصة أن والدتها دائما توصيها عن عفتها، شرفها، غشاء بكارتها، فما كان منها إلا أن توقفت عن الدراسة بحجة الذهاب إلى بيت جدها الوحيد و الأعمى لتقوم برعايته، و هي ذريعة فقط للهروب من البيت كي لا يفتضح أمرها أمام والديها و يدركون أنها حامل، انتهت فترة الحمل، وضعت حملها تحت الشجرة في الوادي، ثم تركته و عادت إلى بيت جدها الأعمى و لا أحد يعلم بقصتها، و من شدة حزنها و ألمها و حرقتها الداخلية، قتلت الرجل الذي كان السبب في حملها و عذابها النفسي الكبير.

خطبها أحد شباب القرية وتزوجها و لم تخبره بقصتها المؤلمة، و عندما اكتشف أنها غير عذراء في الليلة الأولى، طلقها في تلك الليلة، لتعود إلى بيت والدها، أين عانت الجحيم الأكبر مع أبيها من ضرب و تعذيب بعد أن دنست شرف العائلة في أوحال القذارة، بعدها تمكنت من الهرب إلى الجزائر العاصمة بمساعدة واحد من الشباب الذين كانت تلعب معهم و هم صغار.

في العاصمة عملت كعاملة تنظيف في إحدى العمارات، و قد حدث لها مشاكل كثيرة مع سكان تلك العمارة، و قد أغرم بها أحد الجيران و هو طبيب، لكنها لم تبالي به و لا بحبه الصادق، و في الأخير انتحر.

بعدها تعرفت على ذلك الشاب الملتحي وتزوجتهم، هو مثليّ، يعشق ممارسة الجنس مع الرجال، وهو صاحب ثروة طائلة، وفي الأخير يتم قتله من طرف الذي كان يغتصبه، بعدها ترث ماريا كل ثروته الكبيرة وأملاكه الكثيرة وتصير ثرية جدا.

ثم يتم تعارفها على اثنين من الشباب وهما مثليين، يمارسان الجنس بينهما، و تصل بها الحوادث إلى أن تمارس الجنس معهما كل واحد لوحده، ثم مارست الجنس معهما و هما يمارسانه، فكان ذلك الثلاثي الجنسي، و في الأخير تكتشف أن أحد هؤلاء الشباب هو ابنها الذي وضعته تحت الشجرة و تركته خوفا من الفضائح، لكنها لم تكتشف ذلك إلا بعد أن تزوجته و حبلت منه و وضعت مولودها الجديد.

من ناحية الأسلوب، الرواية موفقة إلى حدا بعيد، أحسن الروائي السرد القصصي بطريقة سلسة غير متكلفة، الكلمات متسمة بالبساطة، هدف الروائي كان أن يوري ما يريد قوله من غير لف و لا دوران لهذا لم يكلف نفسه كثيرا في البحث عن ألفاظ غريبة أو غير مستعملة كثيرا، و تمكن من جعل القارئ ينجذب إلى الرواية و يتفاعل مع أبطالها و أحداثها الكثيرة و لا يترك الرواية إلى نهايتها، تمكن من شد انتباه القارئ و اثارت مشاعره بالسلب و الإيجاب، وهذا جعل الرواية تتسم بكثير من التشويق لمعرفة الأحداث التي سيرويها الكاتب بأسلوبه الجذاب، كما هناك بعض مقاطع من الرواية تجعل القارئ ينفر منها لا بسبب الأسلوب، بل بسبب بعض الأفكار الغريبة جدا و التي لم يتعود عليها القارئ العربي بصفة عامة ( سأعود إلى هذه النقطة أثناء هذه القراءة) .

اتسمت الر واية بكثير من التماسك في السرد القصصي، و تسلسل الأحداث في زمانها و مكانها، تدل على تمكن الروائي من أدواته الإبداعية السردية، و لا نستثني إلا بعض الثغرات السردية التي وقع فيها ربما سهوا حيث جعلت السرد و كأن به فراغات في القص، جعل بعض أحداث الرواية كأنها مبتورة، كان من المفروض على الروائي أن ينتبه لها، كمثال على ذلك الشخص الذي قتلته بطلة الرواية بعد أن اغتصبها لم يحدثنا الروائي على ما حدث بعد هذه الجريمة، و لم يشر لها حتى و لو بكلمتين، و كما هو معروف عند حدوث جريمة القتل، تقع هناك ضجة كبيرة خاصة أن مكان حدوثها قرية نائية معروفة بانغلاقها، و من جهة أخرى بعد وقوع الجريمة يكون هناك تحقيق كبير من طرف الأمن، كذلك بعد اكتشاف ماريا أنها حامل،و ذهابها إلى بيت جدها الأعمى للاختفاء هناك بحجة خدمته، و لا يكتشف أنها حامل، كيف تمر مدة 9 أشهر و ينتفخ بطنها و لا ينتبه أحد لذلك لا والدها و لا والدتها، و قد أخبرنا الروائي أنها كانت تختفي عند زيارة والدتها لها، لكن سلوك ماريا غير كافي و غير مقنع كي لا تدرك والدتها بحملها، زد على ذلك أنها وضعت حملها لوحدها دون مساعدة أحد تحت الشجرة في الوادي و سمته (مسيح) ثم تركته خوفا من افتضاح أمرها؛ نلاحظ كأن الكاتب يشبه بطلة الرواية بمريم عليها السلام، حيث منحها نفس الاسم لها ولولدها ( مسيح ) و تشابه كذلك في مكان الوضع، تحت الشجرة، ربما الروائي يريد أن يقنعنا بأن ماريا عذراء مثل مريم عليها السلام، رغم كل ما حصل لها من اغتصاب و حمل غير شرعي، لأن ماريا تم اغتصابها وهي صغيرة، و لم ترض بذلك فهي مظلومة، كما هناك ثغرة أخرى في السرد و تتمثل في ذلك الشاب الذي ساعد ماريا على الهرب إلى العاصمة، الذي أقحمه الكاتب دون أن يقدم له سببا على ظهوره المفاجئ في الرواية إلا قوله أنه صديق الطفولة المبكرة.

فيما يخص أفكار هذه الرواية، كالعادة تحتوي على الثلاثي المعروف في الروايات العربية، و هو الجنس، الدين، السياسة، فيما يخص السياسة فلا نكاد نجدها في هذه الرواية إلا بعض الاشارات الخفيفة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ربما لأن الروائي رأى عدم الجدوى من ذلك، أو ربما من قوة تركيزه الشديد على فكرة الجنس و الدين في سرده الروائي.

و إذا عدنا إلى موضوع الجنس نجده قد أخذ حصة الأسد من الرواية و الحيز الأكبر منها، بداية من اغتصاب بطلة الرواية ماريا من طرف ذلك الكهل، و قبلها نرى كيف كانت والدة البطلة تشدد في وصياها المتكررة لطفلتها على شرفها و عذريتها و غشاء بكارتها، ليظهر لنا الروائي مدى سيطرة هذه النظرة و استبدادها لعقلية و فكر أهل القرى و الأرياف، و نرى كذلك كيف يحاول نسف هذه العقلية المتحجرة في نظره، حاول تهديمها بكل ما أوتي من قوة البيان و كسر ذلك الطابو الذي يكاد يقدس الشرف و حصره في غشاء عند الأنثى الذي لا تكاد تراه العين المجردة، لكن رغم ما كسّر أو حاول كسره لم يتمكن في نظري بأن بأتينا بالبديل الذي يصلح ما كسر و يعالج ما بتر، حيث بعد هروب ماريا من بيت والدها بعد كل حصل لها ، عاشت هناك مغامرات غرامية و جنسية أقل ما يقال عنها أنها انحرافات جنسية خطيرة و خطيرة جدا، و لم تعد تعترف بالمشاعر النبيلة و لا العاطفة الراقية خاصة الحب، و يتجلى هذا في ذلك الطبيب الذي أُغرم بماريا و أحبها حُبا كبيرا لكن ماريا لم تعره أي اهتمام، كانت تتكبر عليه و تزدريه إلى درجة الاحتقار رغم كل ما قدمه لها من هدايا و قرابين، تهرب منه و تطعنه في الصميم و كأنها تنتقم من الرجال أو من الرجل الذي اغتصبها و سبب لها كل تلك المشاكل العويصة التي خربت لها حياتها، و وصل الأمر بذلك الطبيب إلى الانتحار، و نرى هنا كيف سيطرت على ماريا تلك الحالة النفسية المدمرة على مسار حياتها الخاصة والاجتماعية، لم تعد تعترف بكل ما هو عاطفي و انساني بعد انتحارهما في جوفها و انتحار حلمها الوردي في سن المراهقة المبكرة.

تمر أحداث الرواية، و تتعرف ماريا على ذلك الشاب الملتحي المتديّن، و صاحب الثروة الطائلة و الممتلكات الكبرى، في البداية تتكبر عليه و تجتنبه لكنها لا تلبث أن تذعن له بعد أن قدم لها الأموال و عرفت أنه يملك الكثير منها، و هو صاحب شخصية مثليّة و معروف بميله الشديد لجنس الذكور، و قد أخفى ذلك عن عائلته المعروف عندها بتدينه و تقواه و ورعه و عبادته، فلم يرغب في الزواج بسبب مثليّه، بل تزوج بماريا ليرضي والدته و لا يشك أحد أنه مثليّ، و هذا بعد أن غيّر كل أصل و فصل ماريا بتزوير أوراقها الثبوتية، حتى أنه أحضر رجلا ليس والدها و قدمه على أنه والدها في عقد زواجهما،و الغريب في الأمر أنه أخبر ماريا بكل هذه القصة و بانحرافه الجنسي و رضيت به زوجا، و واصل ممارسته الجنسية مع الذكور بعلم ماريا، ومرة حضرت ورأت كيف يمارسونه عليه بطرق مختلفة و هو يتلذذ إلى حد النشوة الكبرى ربما لن يجدها مع الأنثى، و هنا اشارة قوية إلى الانحراف الجنسي الخطير المعروف في علم النفس بالمازوشية و هي الشعور باللذة القوية و التمتع أثناء و بعد التعذيب الجسدي عن طرق ممارسة الجنس بالعنف من طرف أخر بطريقة عنيفة، و سادي المشتقة من السادية التي تعني التمتع و الشعور بالنشوة الجنسية من طرف الذي يمارس الجنس بعنف، فالمازوشي هنا هو زوج ماريا المعروف بتدينه، و السادي هو الذي يمارس عليه الجنس و هذا زيادة على مثليتهما، و نرى هنا كيف يلتقي السادي مع المازوشي لأن كلاهما يستمتع، و قد تصل السادية من قوتها إلى قتل الذي مارس عليه التعذيب( المازوشي ) و هذا ما حدث لزوج ماريا صاحب التقوى في أعين الناس، حيث وُجِد ميتا بعد عملية اغتصاب، و يعتبر هذا من أقصى درجات السادية، بعد هذه الحادثة ورثت ماريا كل أمواله الطائلة و صارت ثرية جدا، و الغريب في الأمر مات الزوج و أهله لا يعرفون كل ما به من انحرافات جنسية خطيرة، و في هذا تلميح إلى النفاق الذي يتميّز به بعض الذين يدعون التديّن الكبير، و قبل موته حدث لماريا أن حضرت و شاهدت كيف يغتصبون زوجها، فدعا الذي كان يغتصبه إلى اغتصاب ماريا أمام عينيه، و قد شعر بالمزيد من المتعة الجنسية أمام هذا المشهد، هكذا تم اغتصاب ماريا للمرة الثانية بأمره و رضاه التام.

أما المغامرة الجنسية الثالثة لماريا فتتمثل في تعرّفها على شابين مثليّين لكن لا سادية و لا مازوشية عندهما، هما شابان يحبان بعضهما البعض حبا كبيرا إلى درجة الميل الجنسي و ممارسة الجنس من حين لأخر خاصة في فترات الشوق،تعرفت عليهما و اكتشفت انحرافهما الجنسي، و بعد بعض المواعيد المتكررة مارست الجنس مع الأول ثم مع الثاني، و قد أخفت عن الثاني ما فعلته مع الأول، و أخفت عن الأول ما فعلته مع الثاني، و عند اكتشافهما ما أخفته عنهما و اطلاعها عليهما و هما يمارسان ذلك الشذوذ الجنسي، تعرت و دخلت معهما في علاقة جنسية كطرف ثالث في العملية، و قد وصف الروائي هذا المشهد بكثير من الدقة و التفصيل كما وصف من قبل تلك العمليات الجنسية بتفصيل فاضح جدا و كأننا نشاهد مشهد ( إروتيكي ) على الشاشة، و أعتقد أن الروائي تعمد ذلك، ليوصل لنا رسالة من خلال تلك المشاهد العارية، مدى الضربة القاسية إلي أخذتها ماريا من صباها المبكر و مدي تأثيرها الشديد على حياتها الخاصة و في المجتمع.

و تتواصل أحداث الرواية، و يموت أحد هؤلاء الشباب، لتتزوج بالثاني الذي تكبره بسنوات كثيرة، فتحمل منه و تنجب مولودا، و بعد اجراء تحاليل طبية تكتشف أن زوجها هو ابنها الذي وضعته تحت الشجرة بعد اغتصابها الأول، و هي في قريتها النائية و تنتهي الرواية بهذه النهاية التي لم ينتظرها القارئ، هذه النهاية التي قادنا إليها الروائي بالتدريج ليدهشنا بها إلى درجة الصدمة، بعد أن دار بالقارئ تلك الدورة الكاملة ليعود به إلى نقطة البداية إلى الحدث الرئيسي للرواية، ابنها الذي كانت متيقنة أنه لم يمت و كان أملها كبير أن تجده.

حاول الكاتب من خلال هذا السرد الطويل، أن يُظهر لنا الموت المعنوي الذي عانت منه بطلة الرواية من بدايتها إلى نهايتها، رغم تمتعها الكبير بالأموال التي ورثتها، و لو لم تفر من قريتها لقتلها والدها بعد اكتشافه ما حدث لها، لهذا فضّل الروائي أن يجعل البطلة تفر من قريتها ليروي لنا ما حدث لها من مغامرات،و تمكن من فتح أبواب واسعة من السرد القصصي، لأنها لو بقيت بقريتها كانت تموت البطلة بقتلها و تنتهي القصة.

رغم تلك الأفكار التي من المؤكد لا يتقبلها الكثير من القراء، وربما ستشعرهم ببعض التقزز والنفور من الرواية كما أسلفت الذكر في بداية هذه القراءة حين قلت أن بعض أحداث الرواية ستنفّر البعض رغم أسلوبها الأدبي الجميل، و لسنا ندري بالضبط ما يريد الروائي من خلال الكتابة عن تلك الانحرافات الجنسية، هل هي للضرورة السردية القصصية؟ أم هي دعوة غير مباشرة إلى تلك الممارسات؟ و هي في نظره ثورة على ذلك الجمود الفكري و الطابوهات الصلبة التي أراد أن يكسرها بقلمه المتسم بكثير من الجرأة الأدبية، كأن الروائي هنا يعري مجتمعنا و يذهب إلى أعماقه لينثره على السطح، و يرى ضرورة الحديث عن هذه الانحرافات الجنسية الخطيرة التي تنخرنا في الأعماق و في السر، و من جهة أخرى الكاتب يريد أن يخلخل مجتمعنا النائم في نظره، و يهزه هزا شديدا بحيث يسقط ما علق به من سبات الجهل، لهذا صدمه و ضربه في العمق من خلال تلك المشاهد التي من المؤكد يراها الكثير منا أنها مخلة بالحياء و غير أخلاقية و تضرب الفضيلة في الصميم، لكن الروائي هنا يهدم و لم يبني و لم يمنحنا البناء الذي يجب أن بني به مجتمعنا، أو ربما ترك للقارئ حرية البناء التي يريدها على قدر اسيعابه للموضوع و القضية .

لسنا ضد توظيف الجنس في فن الرواية بما يخدم السرد القصصي، لكن في نظري الجنس لا يكون هو الهدف الرئيسي من الرواية التي هدفها اثارة الشهوات و تركها مشتعلة بحيث تسقطنا في أوحال الإباحية، و تنتج لنا ذلك الأدب الإيروتيكي المعروف عند الغرب.

في النقطة الثالثة من الثالوث الروائي المتمثل في الدين، فقد أسهب فيه الروائي بكثير من الجرأة الأدبية حيث أظهر لنا وجهة نظره للدين و لله بوضوح لا غبار عليه، و ذلك من خلال سرد الأحداث و تحريكه لأبطال روايته بأن يجعل على ألسنتهم أفكاره عن الله و الدين، فنراه يحمل الله مسؤولية ما وصلت إليه ماريا من معاناة قاسية التي كانت تنخرها إلى الأعماق، و سبب ذلك في نظر الروائي القضاء و القدر الذي كتبه الخالق لها، فهو يرى أن الله فرض على ماريا ما حدث لها، و يجب أن تعيشه و تحياه و لن تحيد عنه مهما فعلت و حاولت،و قد ظلمها ظلما شديدا لأنه كتب عليها كل ما حدث لها، و ذهب إلى أن صوّر الله بأنه سيناريست أو روائي لا يحسن كتابة قدر عباده الذين خلق ، حيث خلقهم ليعذبهم في هذه الدنيا و لا شغل له إلا هذا العمل، و ذهب إلى أبعد من ذلك حين وصف الله بالنقص و بأقبح الصفات إلى ربما لا ترد على ذهن الإنسان،ذم الذات الإلهية و وصفها بالأنانية و حب تعذيب عباده و التمتع هو يراهم يتعذبون، و نفى عن الله كل صفات الحسن و الكمال و العدل، و نلمس ذلك فيما حدث لماريا من تمزقات داخلية التي ينسبها إلى الله و كلما حدث لها يفرحها و يخفف عنها ينفيه عن الله، و يقول ذلك على لسان شخوص الرواية، كمثال عن ذلك حين ورثت ماريا تركة زوجها و كل يملك فرحها بذلك.

لكن ترى ما سبب هذه الرؤية المنحطة لله و للدين؟ في رأيي السبب راجع ( حسب نظرة الروائي) إلى هذا الدين الذي جاء ليهين المرأة، و يسحق قيمتها كإنسانة لها عقل و روح و جسد، في نظره المرأة ما هي وسيلة لإشباع شهوات الرجل و أن الله هو من أراد ذلك من خلال التعاليم الدينية الموجودة في الكتاب المنزّل، لهذا نرى و كأن الروائي يرد على الخالق بأقبح رد من خلال هذا السرد الروائي، و هو يمقت هذا الدين الذي جاء من عند الله، لهذا هو يبغض هذا الإله، و السؤال المطروح الان هل هذه النظرة التي يحاول أن يقنعنا بها صحيحة كل الصحة؟ و وصل به الأمر إلى وصف الرجل بالإله في ظلمه الشديد للمرأة، و جعل الرجل في نفس مستوى الله في الظلم و الاستعباد.

في رأيي الروائي أغفل دور المجتمع في صنع الظلم بين أفراده، و أغفل أو تغافل عن دور عقل الإنسان في صناعة الشر بفكره و يبدو نسبته إلى الله، تغافل عن تلك العادات و التقاليد الجاهلة التي صنعها الإنسان عبر الزمان، إلى أن صارت عقائد لا يمكن نقدها، زد على ذلك ألبسوها لباس الدين و زينوها بحلة القداسة التي تمنع العقل من مناقشتها و نقدها و لا حتى التحاور فيها، و الفطرة السليمة و الفكر السليم لا يقبلان أبدا نسبة الظلم للخالق مهما اختلفت الأديان و وجهات نظرها، فالظلم الواقع في مجتمعاتنا المتخلفة سببه الجهل المطبق و عدم أخذنا بأسباب التغيير و النهوض من جديد، فالإنسان هو قَبِل بذلك و رضي به، فوصل إلى الحضيض و ليس الله هو من أوصله إلى ذلك الدرك الأسفل من الانحطاط،، فكيف لهذا الروائي أن غفل أو تغافل عن هذا الجانب المهم جدا، كان من الأجدر بالروائي أن يوجه تحليله الروائي إلى هذا الجانب و يلوح أو يقترح عن كيفية البناء الجديد، و النهوض باستعمال العقل و العقلانية، و يرسم لنا الخطوط العريضة للبناء التجديدي بأسلوبه الروائي الجميل، بدل أن يهدم فقط و يحمّل الخالق أسباب تدهورنا و انحطاطنا الاجتماعي، الروائي في عمله هذا كمن يهرب إلى الأمام، و لا يحمّل الظالم الحقيقي مسؤوليته، فقد أثار المشكل ، هدم الصنم و أخلط الأوراق و لم يتمكن من البناء النهضوي، أو ربما ترك ذلك للقارئ بعد أن زلزل قيمه و عقيدته، و هذا رأيي من أسباب نفور بعض القراء عن هذا العمل الأدبي رغم جمال أسلوبه في السرد الروائي، كما أرجح أن هذا الكاتب لا يؤمن بكل ما هو ثابت في المجتمع، يرى أن كل ما فيه قابل للنقد و التجريح و الهدم من الأساس، بمعنى أن الثابت الوحيد عنده هو المتغيّر، بل حتى تغيير المتغيّر و هكذا.

كما يمكن أن يكون الروائي قد تأثر جدا بما حدث في العشرية السوداء الجزائرية من تقتيل و ذبح باسم الدين من طرف الجماعات الاسلامية المنحرفة، فتيقن أن الدين ليس إلا للدماء و سبي النساء و جعلهن وليمة لغرائز الرجال الطاغية، فأنكر هذا الدين، و ألحد و تطاول على الله الذي بعث لنا هذا الدين، فكان ردة فعله أن كتب هذا العمل الروائي ليفرغ ما في جوفه من نظرات قاسية و جروح لم تندمل، و هنا نلاحظ ذلك الصراع القوي المحتدم بين الفكر و الجهل، بين القلم و الرصاص ، بين القلم و السكين، هذا الصراع الموجود منذ بداية الخليقة على كوكب الأرض، و صفحات التاريخ مملوءة به، لكن رغم كل ذلك، الدين ليس هذا، لهذا وجب اعادة النظر في الخطاب الديني المعاصر، و توجيهه الوجه الصحيحة.

و من جهة أخرى لا أستبعد أن يتم تكفير هذا الروائي من طرف جماعات دينية متطرفة خاصة بعد أن يطلعوا على ما وصف به الخالق من نقص و ذم و ظلم، و يتهمونه بالردة، مع ذلك أقول هذه ليست حجة لمنع هذه الرواية من الظهور، فمن أعجبته الرواية يقرأها، و من لم تعجبه يتركها، و لا ننس أن هناك النقد الأدبي لإظهار محاسن و مساوئ الرواية، و نقد الأفكار مهما كان انحرافها و اعوجاجها، فلا خوف من مثل هذه الروايات ما دام هناك حق الرد، و العمل الإبداعي مهما كان جنسه الأدبي اذا تم منعه سيزداد الاقبال عليه، فيصير ذلك المنع عبارة عن دعاية له، و نحن في زمن الكتاب الالكتروني فيمكن تحميل العمل الأدبي الممنوع من النت.

كما نلمس في الرواية تأثر الروائي بالواقعية السحرية المعروفة في أدب أمريكا اللاتينية، و قد ذكر بعض أسماء الأدباء الذين أبدعوا فيها، على سبيل المثال غابريال غارسيا ماركيز و غيره، واعترف في أخر الرواية أن الهلوسات التي كانت تنتاب ماريا من حين لآخر كانت من غابريال الروائي الكولومبي، و ( جبريل ) الموجودة في عنوان الرواية هو غابريال اسم ذلك الروائي و ليس جبريل الملاك المعروف.

كما دعى الروائي أو لمح إلى ضرورة التقارب والتآخي بين الديانات السماوية الثلاثة المعروفة، ولاحظت بعض التعبيرات او التراكيب اللغوية المشابهة لتعبيرات القرآن الكريم، هذا دليل تأثر الروائي ببلاغته وصياغاته.


غريبي بوعلام / الجزائر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.