أعلان الهيدر

الجمعة، 26 أبريل 2019

رحيل...

بثينة بن عيسى

رحل أهل تلك الدار الواسعة التي كانت عامرة في زمن من الأزمان، واحدا بعد الآخر، عاما بعد عام، وقد سلكوا سبلا متفرعة إلى بقاع متفرقة، وديار جديدة الملامح، متباعدة المسافة، باردة المعشر، لا تضم بين قيعانها سوى الوحشة التي أرسلت سلاسل قيودها على الجدران فلم تزل تجرها إليها حتى ألقت بها أسيرة تحت قدميها، والظلمة التي أطلقت العنان لأثيرها القاتم ليتعارك وسط حلبة الموت حتى أسقط كل روح من أرواح عبادها، والنفور الذي نفث سيجارته على الوجوه حتى أحال نورها إلى سواد حالك....

غابت شمس المائدة المستديرة التي يجتمع حولها أولئك، فتراقص تراب الهجر في حلبتها، تناثر غباره على الوجوه الشاحبة فزادها شحوبا، حتى استحالت إلى صحراء مقفرة، تتسابق على مضمارها أشياء مقززة، تثقب فجوات عميقة فيها وتمتص دماء الحياة فيها بشراهة عجيبة، حتى أردتها شبحا من أشباح الظلام، وريح كثيفة تهب على أرض أخرى فتنشر سوادا يفوق سوادها، وتنثر حبات الأسى على كل بقعة تمر بها فتُزرع داخل كل جوف خالي من النور، فتسقيها مياه الهجران، لتنبت أشواك الانكسار متشحة بورد ندي حزين، تتقاطر حبات مخضلة على أديمها وأخرى تكاد تتصلب بين فياض الروح وكبرياء النفس، لتبقى تكابد عناء الرحيل والبقاء، تصارع ذاتها صراعا هو أشد عليها من الحياة التي تتنفس دخانها..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.