انزل يا محمود .. انزل يا حبيبي
خرجت نساء الحي ينظرن من النوافذ و البلكونات غير مصدقين ما يسمعون و يرون ، عباءتها التي تبدد سوادها بغيمات من تراب ، طرحتها الممزقة تتطاير أشلاؤها هنا و هناك ، تخطو الهوينى بفردة حذاء واحدة و القدم الأخرى تتقاطر منها الدماء ، تصك صدرها بيديها و كأنها تحاول انتزاع قلبها المفجوع .
هرع الجميع إليها تدثر مُحياهم ستر الحزن التي سيلت الدموع ، حاولوا تهدئة روع الأم المكلومة دون جدوى ، ربتت بعضهن بأيادي حانية على كتفيها المتهدلين و ظهرها الذي حناه الرحيل ، مسحت أخريات أدمعها بنظراتهن المشفقة . تعالت تمتمات هادرة تنعي الصبي ، تتوالى على الذاكرة مشاهد وصول النبأ المفجع إليها .
ذلك التلميذ أسفل نافذتها الصغيرة ينادي بصوت علاه الخوف و الارتباك ، ظل يردد .. يا محمود .. يا محمود . طلت الأم متسائلة عن مطلبه ، أخبرها بسقوط ابنها و عدم جدوى أي محاولة لإفاقته . لم تنتظر انتهاء حديثه ، هرعت إلى المدرسة بعد أن سترت جسدها بنفس العباءة السوداء و طرحت على رأسها غطاءً لا يتناسب مع عباءتها غير عابئة برُقي ذوقها و أناقتها كما عُهِدَ بها .
وصلت دون أن تعي كيف قطعت تلك المسافة الطويلة ، ولجت من الباب إلى بهو المدرسة حيث أرشدوها عن مكان ابنها ، تجمهر العديد من الأطفال متراصين في حلقات الدهشة ، تصلد الصبي على الأرض ، البعض يحاول افاقته و حثه على الرد و لو بحرف واحد . دلفت الأم إلى منتصف الدوائر المستعرة حزناً على زميلهم المُسجى على الأرض . حملقت في وجه طفلها ربما تعي ما يحدث ، وجهٌ شاحبٌ ، شفتان خُضبا بالزرقة الداكنة ، عينان جاحظتان ذات مُقل شاخصةً إلى السماء . ضمته إلى صدرها بيدين زلزلهما الفزع ، طبعت على ملامحه قبلات عبقها الرجاء و كأنها تريد انتزاع أنفاسها لتغرسها في رئتيه الساكنتين . أسئلة هادرة على ملامحها .. أحقا مات صغيري ذو العشر سنوات ؟ لِم اختطفه الردى دون الآخرين ؟ كم لحظة سأحياها بدونه تتخطفني فيها أشجاني و كبدي ؟ أين الملاذ لأختبئ من عواصف الحرمان ؟
انتهت الإجراءات و لم تتعد الساعة ، عادوا بالصغير متشحاً بستر الرحيل ، ذهبوا في رحلة وداع صامت تعلو الوجوه سحابات اللوعة و الأسى .
في كل يوم و في نفس الموعد تخرج الأم باحثة عن ابن قلبها ، و تعود أدراجها بعد أن تفني يومها في البحث بلا جدوى .. نائحة ً.... يا محمود .. يا فرحة عمري الضائعة .. آه يا زهرة أمل لم أفرح بينعها .
#سعادالزامك
من مجموعة #وشم_القدر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق