أعلان الهيدر

الجمعة، 24 أغسطس 2018

القرطاس


صالح هشام

يداعب براحته المتشققة شعيرات لحيته الكثيفة، يقاوم شغب يرقة خبل وجنون تنهش دماغه، يتظاهر بالتعقل، يتسلل بين تلك المعاطف والجلابيب الكبيرة، يتخطى رقاب الناس، يقترب من أريكة الراوي، يقعى كالكلب، يبتعد عنه بعضهم هروبا من رائحته الكريهة، يفتح بالوعته ويتثاءب، يظهر سقف حنكه داكنا، وأسنانه منخورة صفراء. 
يمسك بأطراف رحى الحرب مبهورا بصولات العبد الأسود، تسيل عبرات الأبجر وهو يحمحم. يرتعب المسكين، يطوق قفاه بكلتا قبضتيه، يعتقد أنه يحتمي من سطوة الرماح، ثم يفكهما، يثق في صدر الأبجر يصد الضربات سيوفا ورماحا! يفتك العبد الأسود بأعدائه: مائة فارس يمينا، مائة صنديد يسارا، يضيء صارمه مثار النقع فوق الرؤوس، وتتهاوى سيوف الأعداء شهبا في ليل حالك! 
يبالغ في دغدغة شعيرات لحيته الشعثاء المخضبة بلون الحناء. تغرد ذبابة مشاغبة خارج السرب وتشرد، تقتحم جعبة خيشومه، تضل طريقها، وتتيه في متاهات تجويفه، يفتح عينا ويسد الأخرى، يمتص هواء أغبر ويعطس:
- آ آ تسي... آ آ تسي...آ آ تسي... آ آ آ آ تسي!
يلفظ المسكينة ملفوفة في سائل مخاطي لزج، يميل إلى صفرة فاقعة، بعود يابس يجس نبضها، يتأكد من موتها اختناقا، يقهقه عاليا، فتظهر أسنانه النخرة في خربته، يرقص رقصة القاتل على جثة القتيلة، ويحشر رأسه المسطح حشرا في قدر معدني قديم، يتقي به عواقب أحجار تنهال عليه من حين لآخر. 
يغنم العبد الأسود ألف ناقة حمراء، يملح غنيمته بسبايا عربيات جاهليات جميلات، يقطع مسيرة أربعين يوما، يجتاز صحراء الربع الخالي، يقهر رمالها العائمة كأمواج عاتية. يداعب الراوي الهواء بعصاه المسننة، يلبس عباءة العبد الأسود، ويتوهم نفسه طرفا في المعارك، فيتلذذ بالنصر ويتبرم من الهزيمة.
نحن – جيل قمش ما يحشم ما يرمش - كنا خارج بناء الحكاية. كان همنا كسر شوكة لعوينة، وتحطيم تمثاله الذي استوطنن مخاخنا الصغيرة، وزرع فينا رعبه الأسود فترة من الزمن.، فنحملق فيه، نمعن في الحملقة كأننا أمام عارضة أزياء جميلة! لعوينة لقب جدنا به عليه ذات معركة خسر فيها عينه اليمنى، ولم يكن حورس في مواجهة ست، لم يكن خصمه غير أخيه التوأم الذي لقي حتفه إثر صعقة كهربائية، وهو يسطو على أعمدة التيار عالي التوتر، فيسرق الكهرباء لإنارة مغارة يسكنانها في غابة (عين عيشة) شرق مدينة وادي زم. كنا نسبه بعوره كلما رأيناه يتسكع في أزقة المسجد العتيق، لكننا كنا نؤدي الثمن غاليا، شراسته كانت تغير مجرى الدم في عروقنا، كنا نحسب له ألف حساب، فهو قوي البنية وأحمق، كل أسباب الرهبة والخوف تتوفر فيه.
في عز وطيس الوغى، يشعر بنظراتنا كإبر تخيط جسده من رأسه إلى كاحله، فيتلافى إثارتنا بالتجاهل. يلتفت أخي نحونا، وكان لتوه أنهى قراءة رواية) ست ساعات في الجحيم (ويقهقه ساخرا: 
- ههههههاه ! انظروا ها هو لعوينة يضع قدرا فوق رأسه كأنه في ساحة القرطاس! 
تنتشر كلمة القرطاس بيننا نارا في قش يابس، وتفتح لنا باب التحرش به: 
- قرطاس ... قرطاس...قرطاس ...قرطاس !
يتظاهر بانشغاله بأحداث معارك العبد الأسود، ونبالغ في استفزازه: 
- قرطاس ... قرطاس... قرطاس ... قرطاس!
تسري ضحكات مقيتة ساخرة بيننا، تخلخل تركيز المستمعين، تهد فوق رؤوسهم بناء الحكاية، يشعر الراوي أنه سيتلف رأس الخيط، فيهددنا بالطرد من الحلقة. يسود الصمت، يبتلع الراوي فوضى حروفه المتنافرة، يسهل مرورها في حلقه بجرعة أو جرعتين من ماء بارد، ويشفع ذلك بكحة أو كحتين، وهو يرمم تسلسل أحداث كادت تضيع منه.
يعيد أخي الكرة، ويبالغ في التحرش بلعوينة: 
- قرطاس ... قرطاس... قرطاس ... قرطاس !
يشعر أن السيل بجرأة يتسلق منحدر الجبل وأنه واصل الزبى لا محالة، فيرد عليه بغضب شديد: 
- يضرب أمك للقلب ... يضرب أمك للقلب ... من فمك لقلبك ! 
يستنتج أن القدر المعدني فوق رأسه رأس بلائه، يخلعه ويضعه تحت مؤخرته، تتموج أشعة شمس الأصيل فوق صلعته، يصيح أخي وهو يخبط الأرض بقدميه، في ضحك هستيري غير مبال بتأفف وتضجر عشاق العنترية:
- وا لقرع بارو ... بارو ... جباذ لخرى بظفارو.... 
يثور الراوي في وجوهنا، فتهوى النعال على ظهورنا كقطرات المطر. نتسلل كالفئران بين جلابيب عريضة تسد كل المنافذ، وتتفلنا الحلقة كعلكة تحت وابل من اللعنات والشتائم، فنسابق الريح للإفلات بجلودنا، يستجمع لعوينة فتات قوته، يقتفى أثرنا، يريد أن يلحق بنا الأذى انتقاما منا، وتمتصنا شقوق الأزقة الضيقة. يدور حول نفسه كالخذروف، ويقسم برأس أخيه التوأم أن يدق أعناقنا كالدجاج. يسند ظهره إلى الحائط، وينزلق نحو الأرض، يلهث ككلب مسعور. تخبو عبارات الاستفزاز وتضعف، ويبتعد أخي: 
- القرطاس... القرطا!... القرط.... القر......!
فيرد بصوت مبحوح منهوك لا يتجاوز شفتيه:
- يضرب أمك للقلب... من فمك لقلبك!
ثمة خربة قديمة قابعة هناك في رأس الدرب، يعثر ولد الحداد في أتربتها على جسم غريب منقوش كظهر سلحفاة في حجم بيضة النعامة، نتحلق حوله، يقلبه بين يديه مشدوها، لم يسبق لنا ان رأينا لعبة مثل هذه، مازالت مطلية بلون أخضر داكن. في غفلة منا يلتف علينا لعوينة من زقاق مغلق، يلوذ رفاقي بالفرار، فأقع في مصيدة زاوية ضيقة، يحاصرني ويسد علي كل المنافذ، أتمسك بالحائط كالمصلوب، يقف أمامي كمارد ضخم، يجتاحني بلل أحس به ساخنا بين فخذي، ويستقر في حذائي. يلصق عينيه بالأرض، يدور حول نفسه دورة كاملة كالإعصار، ويسدد لي ركلة مباشرة في فم المعدة، ويعالجني بلكمة قوية على الصدغ، أفقد توازني وأسقط أرضا أتلوى كالحية من الألم، يستدير بسرعة وتبتلعه أزقة المسجد العتيق... ألملم عظامي نائحا كالثكلى، ألعق جراحي كذئب جريح. قبل أن أتجاوز عتبة الباب يصرخ والدي في وجهي:
- ما بك يا ولد ؟ هل فعلتها كعادتك؟ فحالك لا يسر لا عدوا ولا حبيباّ! 
أقاوم غصة تتكور في حلقي وتأبى الصعود أو النزول:
- ركلني القرطاس في فم المعدة يا أبي فانقطعت أنفاسي ! 
يضحك أبي ملء شدقيه، يكاد يستلقي على قفاه ويقول ساخرا: 
- حصل خير يا ولدي ! ها أنت ما زلت حيا ترزق، فقد صدمك قطار سريع وبدون مكابح!
فجأة تلف أمي نفسها بإزارها المطرز، تحزمه على خصرها بإحكام، تغطي رأسها وتطلق ساقيها للريح حافية القدمين، تبغي خربة رأس الدرب وهي تنوح وتولول!
يصيح أبي في وجهها مندهشا:
- ما بك يا مجنونة ؟ ماذا وقع؟ هل جننت أم أصابك مس؟ 
- ولد الحداد ... ولد الحداد... ولد الحداد ! 
- ما به هذا المنحوس غراب الشؤم يا مجنونة؟
- ولد الحداد يا رجل .... بووووم.... عين وخمسة أصابع في شربة ماء، لعنة اللعينة فرنسا!
وتتبخر كقطرة ماء في متاهات دروب المسجد العتيق، تعدو.... تعدو كالمجنون.


الاحد ١٨\١٠\٢٠١٥

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.