أعلان الهيدر

الاثنين، 5 فبراير 2018

الخبر واللاخبر


نقلا عن جريدة الجمهورية
السعيد بوطاجين

عادة ما لا تقدم وسائل الإعلام في الأنظمة الشمولية والمتخلفة، المقروءة والمسموعة والمرئية، أخبارا بالمعنى الحقيقي للكلمة، إنما تسعى إلى تكريس مواضيع إنشائية متعارف عليها، وليست ذات علاقة فعلية بالخبر، كما هو متواتر في الأعراف الدولية التي تأخذ في الحسبان ما كان جديدا يستحق الذكر، وما يدخل في باب الإضاءات التي تخدم الهامش.

يقول بعضهم: إن قولك عضّ كلب رجلا ليس خبرا، إنما الخبر في قولك: عضّ رجل كلبا. لا قيمة للجملة الأولى كمعلومة لأنها مشتركة بين الناس، إضافة إلى إمكانية حصولها باستمرار، دون أن تكون حدثا يستدعي الاهتمام، في حين أن الثانية مفارقة للمعيار، استثنائية ولافتة، وهي التي ستجلب انتباه المتلقي لأنها تقدم له ما يجهله. ثمة فرق بين قولنا: ألقى الشاعر قصيدة شعر، وقولنا: ألقى الشاعر قنبلة.

أمّا إن عدنا إلى نشرات الأخبار، في أغلب القنوات، فإنّ ما يميزها هو تركيزها المستمر على ملفوظات ومقاطع إنشائية ومقدمات لا تفيد المتلقي. ولنفترض صحفيا يقدم "خبرا" من هذا النوع :" أيتها الأخوات أيها الإخوة، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. غادر فخامة رئيس الجمهورية السيد فلان العاصمة الفلانية متوجها إلى مدينة ع في زيارة عمل وتفقد، وقد استقبل من طرف المواطنين والسلطات المحلية استقبالا مميزا رفعت فيه الأعلام الوطنية المصحوبة بالتهاليل والزغاريد والتصفيقات، ومنحت له باقة ورد، ثمّ اجتمع برؤساء الدوائر والبلديات، كما قام بعد ذلك بتدشين سكنات اجتماعية في إطار استكمال مشروع كذا، ثمّ اختتم فخامة رئيس الجمهورية السيد فلان زيارته التي استغرقت يوما كاملا...".

أوردت هذا النموذج المهيمن للتدليل على ما كان ذا قيمة اعتبارية، وما كان ضربا من الجعجعة اللفظية التي يمكننا تجاوزها لأنها لا تنمحي من أذهاننا مباشرة بعد قراءتها. هناك جملة نووية واحدة قد تدخل في باب الخبر: ذهاب الرئيس إلى مدينة ع. أمّا ما تبقى من المقطع فيمكن مساءلته من البداية إلى النهاية، وعلى عدة أصعدة: الرؤية والتموقع والموضوعية والذاتية والاقتصاد والدلالة والتكرار والإطناب والمعنى.

يحيل المطلع:" أيتها الأخوات أيها الإخوة" إلى قالب نقلي لا يفيد المعلومة الحيادية، إضافة إلى قيامه على صيغة معيارية، ومن ثمّ إمكانية تعويضه باستهلال لا يحمل أيّة ذاتية بإمكانها توجيه المستمع نحو مصدر ما، أو التأثير عليه من الناحية العاطفية: إن صيغة أيتها السيدات أيها السادة هي أقرب صيغة افتتاحية، في حين تبدو الأولى قريبة من الخطابات العاطفية، ونوعا من التخندق الذي لا يبني على موضوعية في تمرير الخبر.

إن ملفوظ السلام عليكم ورحمته الله تعالى وبركاته لا ينتمي، بدوره، إلى ما يمكن أن يكون تحية متفتحة على مختلف التوجهات، إنما هو امتداد للافتتاحية، وتمطيط لها، وتدليل على الانتماء المحدد قبلا، أو على قناعات فكرية وعقائدية معينة، مع أنّ عبارة السلام عليكم كافية للإحالة على المرجع الذي نؤسس عليه في انتقاء المطلع، من حيث إنها مختلفة عن مساء الخير. تحتاج هذه الصيغة إلى اختزال، دون المساس بجوهرها ودلالاتها المسكوت عنها، إن كان الباث يرغب فعلا في التأكيد على قناعاته القبلية التي قد لا تفيد الآخر، ولا تعنيه، لا كشكل ولا كمضمون، ولا كإحالة دالة على انتماء عيني.

أما قولنا "غادر فخامة رئيس الجمهورية السيد فلان العاصمة الفلانية" ففيه تأكيد مجاني. ذلك أننا نكرر: فخامة، السيد، الرئيس، إضافة إلى الاسم: هناك أربعة تحديدات للفاعل نفسه، وهي تنويعات على الأصل ذاته من حيث إنها لا تضيف شيئا، سواء بالزيادة أو بالنقصان، لذا أمكننا اختزالها في كلمة واحدة، مع القفز على لفظة الجمهورية لأنها بديهية، ذلك أن لفظ الرئيس يحيل عليها، كما يحيل السلطان إلى السلطنة، وليس إلى الجمهورية أو المملكة أو الإمارة أو الإمبراطورية. إضافة إلى ذلك فإنّ ذكر العاصمة غير ضروري للمعنى. العاصمة وحدها كافية للإحالة على المدينة، في حين يأتي التحديد كنوع من تفسير الماء بالماء. الشيء ذاته فيما يخص: "في زيارة عمل وتفقد"، ذلك أن الزيارة في حدّ ذاتها تحمل مجموعة من الأفعال المضمرة، أي تحصيل حاصل، ما عدا إن كانت سياحية، أو خارجة عن إطار العمل.

كما أنّ متوالية: "وقد استقبل من طرف المواطنين والسلطات المحلية استقبالا مميزا رفعت فيه الأعلام الوطنية المصحوبة بالتهليل والزغاريد والتصفيقات" لا تدلّ على أي استثناء دال لأنها متواترة، أو كثيرة التداول، ومعنى ذلك أنها لا تدخل في باب الخبر الذي يفترض تقديم ما لم يكن معلوما، أو ما لا يمكن توقعه. أمّا الخبر الفعلي فيمكن أن يرد كالأتي: استقبل بالحجارة والبكاء والأهازيج المسيئة لشخصه. في حين أنّ المعيار القبلي، الوارد في النشرة، يظلّ مجرّد تنميق لا يسهم سوى في تمطيط الجزئيات إلى حدها الأقصى، دون أن تحمل أخبارا حقيقية.

في حين أنّ قولنا:"ومنحت له باقة ورد" لا يفيد سوى العادة، مع أن العادة منافية للخبر الذي يتعارض مع المألوف، وقد يمنح له أيضا كأس حليب وبعض التمر أو اللبن أو الخبز المحلي، إلى غير ذلك من الوحدات المتحولة التي يمكن أن تدخل في اللعب الاستبدالي الذي لا حصر له، لكنه غير ذي جدوى، مع ذلك فبمقدورنا تحويل هذه الجملة إلى خبر تحتيّ مهمّ في حالة تعويض باقة الورد بما يمكن أن يشدّ المستمع إليه، بشيء مفارق للقاعدة، على الرغم من أنّ كل ذلك لا يخدم الخبر، بقدر ما يخدم بعض التفاصيل الإنشائية التي يمكن تجاوزها، دون أن يطرأ أي تغيير على الجملة النووية، مع استثناءات ممكنة قد تحلّ محلّ الخبر القاعدي، كأن نقول مثلا: ومنحت له باقة من الشوك، أو من العفيون المهرّب.


في حين تبدو جملة:"اجتمع برؤساء الدوائر والبلديات" جملة ذات علاقة سببية بالزيارة، منطقية وبديهية، وهي جزء مضمن في الفعل المركزي الذي يشترط قيامه على أفعال جزئية تمنحه مغزى. ستمنح هذه الإمكانية إمكانات أخرى قابلة لأن تكون مكملة، أو بنيات صغرى، أو أفعالا واصفة، كأن يجتمع مع شيوخ العشائر، ورؤساء الأحزاب والجمعيات، ورؤساء النوادي الرياضية والقادة العسكريين والجمركيين، إلى غير ذلك من الاحتمالات.

"كما قام بتدشين سكنات اجتماعية في إطار استكمال مشروع كذا". تنتمي هذه الجملة، بدورها، إلى مجموع الأفعال الجزئية التي تشكل فعل الزيارة كحدث محوري، لكنها ليست ضرورية لأنها تدخل في باب المعاودة المكرسة، إذ بمقدورنا أن نضيف لها سلسلة من الجمل المشابهة: تدشين حديقة تسلية، مركز تجاري، مستوصف، مدرسة، قاعة حفلات، إلى غير ذلك من المرافق المعهودة. أمّا الخبر فيكون كالتالي: تدشين محطة نووية لإطلاق الصواريخ، لأن ذلك مفاجئ، وقد يدخل في باب الإنشاء إن تكرر مرارا، أو غدا ممارسة طبيعية تحدث دائما.

" ثمّ اختتم فخامة رئيس الجمهورية السيد فلان زيارته التي دامت يوما كاملا". يمكننا اختزال هذه الجملة إلى حدها الأدنى تفاديا للتكرار: ثم اختتم زيارته التي دامت يوما، وذلك بالقفز على: فخامة، رئيس الجمهورية، السيد، فلان، كاملا، لأن كاملا مضمنة في اليوم، ولأنّ الكلمات الأخرى وردت سابقا، وهي لا تسهم في تقوية الدلالة بإعادة التأكيد على طبيعة الفاعل: مركزه، وظيفته، اسمه...إلخ. ما عدا إن كان منتج الخطاب، أو كاتبه، ينوي التركيز على التفصيل، دون الجوهر: أي الخبر الذي يحتاج إليه القارئ والمستمع.

تحتاج الصور المرفقة، بدورها، إلى قراءة متفحصة تختزل ما كان حشوا، أو تضخيما للخبر وتبديها له، وللنشرة ومدة تقديمها، دون أن تكون ضرورية للخبر كإضاءة للمجهول والمخصوص، وليس للمعلوم والعام، ومن ذلك الجزئيات البديهية: الذهاب إلى المطار، المرافقة، القاعة الشرفية، ركوب الطائرة، وصولها، الاستقبال الجماهيري المتواتر، السير، التوقف، المصافحة، دخول قاعة الاجتماعات، وما إلى ذلك من التفاصيل التي ألفها المشاهد في كلّ النشرات، ما يجعلها طبيعية، معروفة، أي بعيدة عن الخبر الذي يحتاج إليه. كما يمكن، في كثير من السياقات، التقليل من التعليقات لأنها لن تقول ما تستطيع الصورة قوله، ولأنها تدخل في باب التموقع والتأويل، مع ما يحمله التموقع من ذاتية تقضي على موضوعية الخبر والصورة. الخبر لا ينبني على التكرار المستمر، بل على الاستثناء الدال.

القراءة من المصدر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.