أعلان الهيدر

الأربعاء، 10 يناير 2018

" حج مبرور "


محمود حمدون


الكاتب/ محمود حمدون

" الغرباوي " شقيّ شبّ على قطع الطريق صغيرا , ترهيب المارة , لم يرع حُرمة جيرة أو صداقة أو قرابة فكان علما في مجال السرقة بالإكراه , ولم يدّخر جهدا في المغالاة في نشاطه اليومي , فكان ينهب ويسرق بإخلاص شديدين وحرص على طقسه الإجرامي حرصه على الفرض والنافلة.


رغم شقاوته سنين طويلة جهرة وخفية لم تُفلح جهود الأهالي ولا الأمن في تعقّبه وضبطه متلبّسا مرة واحدة . هكذا عاش حياته يعيث في الأرض , حتى بلغ من العمر تلك الدرجة التي يقف علي أعتابها المرء متدبّرا ما مضى وجلا مما سيأتي , وقف برهة يلتقط أنفاسه مُّمعنا النظر للمرة الأولى في حياته كلها , همس لنفسه : ما أشد بؤسي لقد أخذتني الحياة بدوامتها الرهيبة فنسيت فروضا وواجبات ينبغي فعلها , وفي تلك الليلة شمّر عن ساعديه للمرة الأولى في حياته ليتوضأ وإن وجد صعوبة , راجيا مغفرة إن قدّم غسل الأرجل على ما علاها.

قيلت أراجيف كثيرة وإشاعات لا نعرف حقيقتها , عن أخطاء ارتكبها في صلاته للمرة الأولى وهي كلها هنّات لا تعنينا من قريب أو بعيد , فعلاقة " الغرباوي " بربّه لا دخل لنا بها ولا ينبغي.

صبيحة اليوم التالي , سرى في الأفق خبر غريبا تأكدنا من صحته بعد سويعات : أن " الغرباوي " عقد النية على الحج , سافر قبل المناسك بشهور عديدة ثم غاب فترة طويلة جدا , حتى اعتقدنا بوفاته دهسا تحت أقدام الحُجاج , رآها البعض ميتة شريفة وخاتمة سعيدة بعد رحلة شقاء, لكنها أمنيات راودتنا ,أضفنا لها ما شاء لنا من خيالات .

وقد أقيم سرادق كبير امتد من ناصية الميدان الرئيسي وصولا لدار " الغرباوي " الذي يقع بمنطقة نائية معتمة تنقطع عنها الأرجل نهارا وتخشاها الهوام ليلا , وصل" الحاج الغرباوي " في موكب كبير , يرتدي ملابس بيضاء وبيده " سبحة " طويلة سوداء اللون تبرق تحت وهج " الكهارب " المضيئة فتضفي على صاحبها جلالا مزيّفا .

على الملأ , أعلن " الغرباوي " توبته, رجانا والدموع تملأ عينيه أن نعفو عن زلاّته وأن نبدأ معا صفحة جديدة , وأعقب بصوت متهدج " إن الله غفور رحيم "
وببادرة طيبة قام مع نفر من أتباعه بهدم " عشة" تتخفي وراء داره كان يتخذها مقرا ومقاما من غروب الشمس حتى مطلعها فجر اليوم التالي , لمعاقرة الخمر وتعاطي المخدرات بأنواعها وقيل للمتاجرة ,وحصرا لغنائمه اليومية من السلب والنهب . وشيّد مكانها " زاوية " صغيرة للصلاة قائلا: لا يجوز أن يخلو شارعنا من مسجد صغير , وأردف وقد ابتلت لحيته النابتة حديثا بدموعه :لا بارك الله في كل رزق يُلهي عن صلاة .

ثم أقام بمحل مهجور يقع على أول الشارع سطا عليه في غفلة من أصحابه , مكانا لنشاطه الجديد , أثاث فاخر وحُلة يرتديها وعطر ينغمس فيه ليلا ليفوح علينا طيلة النهار , شكل لم نعرفه عنه من قبل, سمت يدّعي الطيبة و" سبحة "لا تفارق يديه تعبث بها أصابعه , ومكتب خشبي يقبع خلفه طيلة اليوم , يعقد صفقات ويقابل غرباء ويدور بينهم حديث هامس ينتهي بغياب لأيام ثم عودة .

طاف بنا " الحاج الغرباوي " بعيدا لأفق أشد غرابة نسينا خلاله ماضيه الملوّث , وأصبح ذكره علامة ورع , توالت الأيام والشهور وثراءه يزداد , نفوذه يتعزز , وتوافدت الجموع تقرّبا إليه كسبا لودّ أو سعيا وراء مصلحة , حتى يوم تجاوز كل حد حينما أعلن إمامته للصلاة محتكرا لأتباعه الصف الأول, يؤمّنا فجرا ثم يمارس بكل همة نشاطه المريب بقية نهاره .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.