ما قبل السّرد:
لقد تأخر ظهور القصّة القصيرة جداً في السّرديات
الجزائرية، مقارنة بدول أخرى عربية: كمصر، و سورية، و العراق، و المغرب و تونس... حيث
أقيمت لها مهرجانات، و ملتقيات، و ظهر الكثير من المجموعات، التي احتفت بها معارض الكتاب،
و واجهات المكتبات، و أجريت حولها بحوث و دراسات جامعية ...
أمّا في الجزائر فـتأخرُ الظّهور، يعود بالدّرجة
الأولى للمؤسسات الجامعية التي لم تهتم بهذا الجنس، أو توليه عناية ما. والأمر نفسه
يكاد ينطبق على القصّة القصيرة. وقد انصرف مجالُ البحوث والرّسائل الجامعية في نطاق
السّرديات، إلى الرواية.
الشيء الذي أثّر على الجو الثقافي العام. فأحجمت دور النّشر
على أن تتبنى القصّة القصيرة جداً، كما كان شأنُها آنفاً مع القصّة القصيرة و الشّعر.الشّيء
الذي انعكسَ على النّقد، فانشغل بالرّواية بشكل ملحوظ .
و في جو من التّقاعس والإهمال أبت
أقلامٌ سردية إلاّ أن تكتبَ القصّة القصيرة، و القصيرة جداً، كاختيار، و هواية... و
هم في ذلك قلة، نذكر منهم "محمد الصالح حرز الله، عزّ الدين جلاوجي ، عبد الرزاق
بوكبة، الخير شوّار، علاوة كوسة، وافية بن مسعود، خالد ساحلي، سعيد موفقي، حسناء بروش،
محمد رابحي، لامية بلخضر، عيسى شريط، نبيل دحماني، بختي ضيف الله المعتز بالله...و
لهذا الأخير ظهرت عدّة نصوص قصيرة جداً، على صفحات المواقع الإلكترونية و مواقع التّواصل
الاجتماعي، لاقت استحسان المُهتمين بهذا الجنس. فارتأى أنْ يجمَعها في مجموعة قصصية
تحت عنوان : " صور ودبابيس على جدار هشّ"
حاول القاص، أن يستجيب لمكونات النّص القصير
جداً. بما يتطلبه من لغة مكثفة، و إيجاز غير مُخل، و ترميز يسمح بطرق مجالات من التّأويل،
و عناية باللّفظ واختياره، و الجملة و صياغتها، و الفكرة و عمق دلالتها: النّفسية ،
و الاجتماعية، و السّياسية بأسلوب مشبع بالسّخرية الواخزة، و الانزياح البليغ، بعيداً
عن القوالب الجاهزة، متحاشياً فائض الكلام،
مُهتماً بفائض المَعنى، الشّيء الذي أتاح للنّص تعدداً دلالياً (Polysémiie) باختلاف القراءات ، و وجهات النّظر...و الأمر يَعود بالدّرجة الأولى
إلى أنّ نصوص المجموعة في مُعظمها تتبنّى الخطابَ الإيمائي. و البنية الاسْتعارية.
وعلى الرّغم من أنّ أغلبَ النّصوص خالية من الرّبط و أدواته،
إمعاناً في الإيجاز، والتّركيز فإنّ تركيبَ النّصوص، لا يُشعر بانفصال، أو تنافر، أو
عدم اتّساق...بل على العكس من ذلك، هناك دائماً،
وصلة مَعنوية، و اتّصال دَلالي... كما لو أنّ النّصوص خضَعتْ لرسم تخطيطيّ، أو هندسة
قبلية. أو استراتيجية مُعينة. مع أنّها على العكس من ذلك، تبدو عفوية، تلقائية، دون
تصنّع أو كلفة..الشّيء الذي حقّق انْسجاماً داخلياً، في إطار وحدة معجمية إيحائية،
صوتية، صَرفية .. تثير الذّهن، و تبعث على الخَيال و التّخييل (Fiction) في إطار النّظرية التّأويلية التّداولية المَعرفية... التي تعتبرُ
التّخييل منْ مَظاهر التّواصل.
و لذلك فنصوص مجموعة " صور و دبابيس على جدار هش
" هي ـ فعلا ـ صور. في حاجة إلى تأمّل، و إلى مُتلقٍ يَعشقُ عُمق الدّلالة، و
مرمي الفائدة، و مَواطن التّبئير الدّلالي...
فمسألة التّعامل مع بعض النّصوص، أشبه بالكَشطِ و التّنقيب، أو الإركيولوجيا.
ليس لأنّ النّصوص غامضة، أو تتسم بالإبهام ... و لكنْ لأنّها تغري بالغَوص، و البَحث
عمّا في العمق من دُرر المَعنى، و إشراقات المغزى..و ذلك من خلال البُنى التّركيبية
القصصية ذات التّجلّي الدّلالي،الذي يتنافى و السّرد التقريري، والكتابة المعيارية،
التي تنحصر فيها الدّلالة في المنطوق المباشر للنص، فتُصبح أحادية المَعنى، حتّى لكأنّهُ
يَنطبق عليها المُصطلح الأصولي :( قطعية الدّلالة).
و من تمّ جاءت النّصوص في مجموعة
" صور و دبابيس على جدار هشّ " للقاص بختي ضيف الله ، كثيرة الحذف و الإضمار
(L’ellipse). و ذاك من خصائص القصّة القصيرة
جداً. فالنّصوص تحترم ذكاء المُتلقي، فلا تسرد ما يمكن أنْ يُستشفّ من السّياق ، ولا
تَحكي ما يمكن اسْتنباطه، أو ما هو في الثقافة و الفكر الجمعي.
كما أنّها تضمر أشياءَ، قد تغيب عن فهم المتلقي و إدراكه
، و لكن ما وظّفه القاص من سرد استباقي/استشرافي، و سرد استرجاعي (Récit rétrosspectif) و التّمثلات، و التّصورات
و الرَّمز، و البعد الإيقوني في إطاره السوسيو
ثقافي...كلّ ذلك وغيره يُغري المتلقي بالكشف عن مُضمرات النّص، فتتحقق مُتعة
القراءة.
لقد اعتمدتِ النّصوص الجمل القصيرة، المُختصرة،
الموجزة، و لكنّها كالحقول المُلغمة إذ لا يمكن اجتيازها إلا بِحذر، وتحسّسٍ...فقد
تنفجر بمعنى يخترق أفقَ توقع المُتلقي، فهي جملٌ وظيفية، لبناء قصَصيّ، من أجل تحقيق
أسلوبٍ مُجنّح، يُحلّق بعيداً بخيال المُتلقي خارج تخوم النّص. و كأنّ القاص يَستلهم
قولة فيثاغورس (لا تقلْ القليلَ بكلمات كَثيرة بلْ الكَثير بِكلماتٍ قَليلة.)
مجموعة " صور و دبابيس على جدار هشّ
" للقاص بختي ضيف الله ،علامة مضيئة في مجال القصّ القصير جداً في الجَزائر، تنبئ
الذي مازالَ يرتابُ في إبداع هذا الجِنس ، و في وجوده، و كتّابه في الجزائر...أنّ هناك
منَ الإبداعِ ما يَستَحقُّ المُتابَعة، و النقد ، كباقي الأجناس الأدبية الأخرى. و
ألاّ يبقى قلم النّقد ينتظر الكم و تعاظمه. بلْ عليه الاعتناء بالنّوع و تميّزه . فعلى ضوئه، و نهجه، تَسمو الكتابةُ القصَصية و تَتطور ...
فَهنيئا للقاص بختي ضيف الله، بهذهِ المَجموعة
المتميّزة، الزّاخِرة فنّياً، و دَلالياً .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق