غريبي بوعلام
العنوان ( NOS FRERES INATTENDUS) هو عنوان هذه الرواية المترجمة من الفرنسية بقلم الأستاذة نهلة بيضون، و لا ندري بالضبط لماذا لم تترجم كلمة ( INATTENDUS ) إلى ( غير المنتظرين ) خاصة أنها تؤدي المعنى الدقيق، ربما جعلت كلمة ( الغرباء ) لأن في الرواية جماعة غريبة سيكون لها دور كبير و فعّال في أحداثها.
الرواية عبارة عن صيغة تخيلية عميقة لكتاب ( غرق الحضارات ) الذي ألفه أمين معلوف من قبل، كتاب فكري تحليلي، يحلل الأحداث التي تزلزل العالم من الجذور، العالم الذي يسير في اتجاهات مقلقة و مضطربة، مؤكد ستؤدي به إلى الغرق الحتمي.
ورد في الرواية صيغة غرق الحضارات، الرواية تحمل الجانب الأخر، يكاد يكون العكس الذي يتخيّل عالما لا يغرق، بلا انهيار، يتخيل عالما يُنقذ في آخر لحظة، يحمل لهذه الحضارة نفسا جديدا من التفاؤل، و بصيصا كبيرا من الأمل، هي الفكرة الرئيسية التي طوّرها الرّوائي في روايته.
أصدقاء أمبيدوكليس الذين أتوا لإنقاذ حضارتنا بطريقة ما، بشكل معين. تدور أحداث الرواية في جزيرة بالمحيط الأطلسي، اسمها أنطاكيا، يعيش فيها شخص كندي في عزلة اسمه أَلك، رسّام كاريكاتوري، يبيع رسوماته للصحافة، يعتقد أنه لوحده، لكنه يكتشف فجأة أن هناك شخصية أخرى تعيش في تلك الجزيرة، هي الروائية ( إِيف سان جيل ) صاحبة رواية (المستقبل لم يعد يسكن في هذا العنوان )، ذكرت فيها تلك الجماعة، التي ستنقذ العالم من حرب نووية وشيكة، لهذا كانت تلك الجماعة تعمل على حمايتها خاصة من طرف ( أغاممنون ) واحد من تلك الجماعة.
هكذا تنشأ بين ( ألك) و ( سان جيل ) علاقة خاصة و مركبة، تبدأ عندما ذات ليلة تنقطع كل أدوات التواصل الاجتماعي، من هاتف و النت و التلفاز حتى الراديو، حينها يعتقد الجميع أن الحرب النووية قد اندلعت، و النهاية قريبة جدا، لكن الحقيقة ليست كذلك، لأن ذلك الانقطاع المفاجئ لكل وسائل التواصل كان عبر كل دول العالم، لتجنب انفجار حرب نووية عالمية ستدمر البشرية، كان من طرف تلك الجماعة المنقذة، التي تدخّلت في الوقت المناسب، حين همّت الولايات المتحدة الأمريكية، بتفجير قاعدة عسكرية نووية من بقايا الإتحاد السوفياتي السابق في منطقة القوقاز، التي همّ قائدها بدوره على إرسال رؤوس نووية لعدة مدن محددة بدقة في العالم.
هكذا يكون تفجيرا واحدا أحسن من عدة تفجيرات نووية لتقليل الخسائر. فأحدثت تلك الجماعة المنقذة كل ذلك الانقطاع غبر كل وسائل التواصل من كل الكرة الأرضية، بفضله لم تحدث تلك التفجيرات النووية المدمرة، لعدم تمكن القائد بإصدار أوامر بالتفجير من كلا الطرفين، هكذا صار كل العالم تحت قبضة تلك الجماعة السرية غير المنتظرة، واضطر رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الرضوخ لأمرها و الانقياد لها.
تمكن أَلك من التواصل مع صديقه ( مورو )، بعد عودة وسائل الاتصال، مورو مستشار رئيس الولايات المتحدة، كان كلاهما يحاول التعرّف على هذه الجماعة المنقذة، بعد أن قص مورو بالتفصيل ما حدث بين الرئيس و قائد تلك الجمعية الخفية من حوار، أخبره أَلك أنه سيتباحث في الأمر مع صديقه الملاّح ( أغاممنون )، تحاور معه و اعترف أنه واحد من تلك الجماعة السرية، لكن لم يعرّفه كليا عنها، رغم كل ما فعله معه لمزيد من المعلومات، في تواصل آخر مع مورو، يطلعه على تلك المعلومات الخاصة بتلك الجماعة المتدخلة.
هكذا يعرّفنا الروائي بهؤلاء الإخوة الغرباء، الذين تعود أفكارهم إلى نخبة من فلاسفة اليونان القديمة، الذين عاشوا قبل ميلاد المسيح بقرون، لكن مع الأسف لم تتمكن حضارتهم من التعمير طويلا، دامت أقل من قرن، تخيلها الروائي كأنها تعود إلى زماننا هذا بأفكارها المبدعة، لتنقذ البشرية من هلاك محتم، و قد تمكنت من ذلك. نلاحظ مدى تأثر الروائي بالفكر اليوناني القديم، المتميّز بكثير من العقلانية و الانسانية، التي تكاد تنقرض في زماننا هذا، يرى فيها العلاج الوافي لمعضلات مشاكل البشرية حاليا.
تتواصل أحداث الرواية، فيحدث تسرب إشعاع خطير، يكون سببا في مرض و موت الكثير من البشر، و لا يجدوا العلاج إلاّ على أيادي فِكر تلك الجماعة، فيتم شفاء الكثير منهم ليس فقط من ذلك الإشعاع بل من أمراض أخرى، لم يجد لها الطب الحالي علاجا لها، منها السرطان بكل أنواعه، مع احتمال احتوائهم لحالات تفشي أمراض معدية، مع أن جائحة كورونا لم تظهر بعد حين كتابة هذه الرواية. و يتم شفاء رئيس الولايات المتحدة من السرطان الذي كاد يودي بحاته. فيحدث خلاف كبير بين الناس بين مؤيد لتلك الجماعة التي لم تعد سرية، و أخرين يرفضون بقاءها، لتعرب عن مدى رغبة الولايات المتحدة في مواصلة فرض سيطرتها و هيمنتها على كل العالم، لإثبات ذلك، يحرق المستشفى العائم في أحد موانئ الجزيرة، الذي تم فيه علاج الكثير من الأمراض المستعصية، تواصل الرواية سرد أحداث أخرى لا يسع المجال لذكرها كلها.
الروائي أمين معلوف |
رواية ذات طابع تخيلي إستشرافي للمستقبل، يورده الروائي بصيغة تفاؤلية للإنسانية جمعاء دون استثناء، بِغض النظر عن جنس و لون و أصل و دين هؤلاء البشر، المهم هو إنسانية الانسان التي تنحدر نحو الحضيض.
نلمس جيدا نزعة الروائي الانسانية التي لا غبار عليها، و مدى رغيته الملحة في حضارة، تعمل على السمو بإنسانية الإنسان لا بتدميرها، لهذا نراه أختار شخصيات راقية، أصحاب فكر سامي و أقلام جميلة، كشخصية الروائية سان جيل، الفنان الرسّام أَلك، و الفكر اليوناني القديم الذي تمنى لو توارثته الأجيال سرا، ليصلنا ليكون كالدواء للداء، الذي ينخر الإنسانية في الأعماق، إلى أن تخيله فعلا في زماننا هذا في تلك الجماعة بأسماء فلاسفة اليونان القدماء.
يدعوا الروائي القارئ إلى أن يتخيّل معه عالمنا الحالي بلا وسائل الاتصال، سواء بانقطاعها، أو بعد حدوث حرب نووية و انقطاع كلي للكهرباء عبر كوكب مدمر كليا، الروائي ينبه و يدق أجراس الخطر من الأخطار الكبيرة التي ستقضي على البشرية جمعاء، و عودتها إلى بدائيتها الأولى.
غريبي بوعلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق