غريبي بوعلام
كتاب صغير الحجم، من ستين صفحة، يحتوي على ثلاثة عشرة قصة قصيرة، يعتبر الإصدار الثاني للقاصة بعد مجموعتها الأولى ( مزاج مبهم ) .
كتاب صغير الحجم، من ستين صفحة، يحتوي على ثلاثة عشرة قصة قصيرة، يعتبر الإصدار الثاني للقاصة بعد مجموعتها الأولى ( مزاج مبهم ) .
عادة القاص يأخذ عنوان كِتابه من احدى قصص مجموعته. القاصة لم تفعل ذلك، رغبة في الاختلاف أو كإشارة ابداعية. جعلت العنوان على شكل صورة بلاغية موحية جدا، تحمل ظاهر و باطن كوسيلة لجذب القارئ لمجموعتها. هي نوافذ موصدة، تمنع ولوج دفء و نور الشّمس إلى الأعماق، فتحتها كلماتها ليتسربا إلى أعماق القارئ، لتأخذ وجدانه في سياحة أدبية و متعة روحية رغم مذاق العلقم. عبّرت عنها بكلمة ( الخجل ) مع كل ما تحمله من إيحاء، يمكن تفسيرها بما تتميّز به المرأة عادة لطبيعتها الأنثوية، و ما يخفيه المجتمع أو ربما تشمل حتى الرجل. أميل أكثر إلى الطرح الأول، لأن صاحبة المجموعة قاصة، تركت تجربة من وجعها الخفي، و هي ربما لا تدري بتسربه إلى أوراقها، بَصمتها الداخلية مبثوثة في سردها سواء بطريقة عفوية أو ارادية.
كتبت القاصة في مواضيع ربما لم تخطر على بال القارئ، فكرة بسيطة و مشاعر عفوية لا نوليها أهمية عادة، سجلتها و تخيّلت لها حدث و عقدة و أضفت عليها من خزان أعماقها، جعلتها حية نابضة في ذهن القارئ، يندهش قائلا في نفسه: كل هذه الشحنة العاطفية في أمر يكاد يكون لا شيئ، كل هذا يدل على مدى تمكن القاصة من أدواتها الإبداعية القصصية، و حسن استعمالها لتصل إلى عمق القارئ بوخزه أو مداعبته بحرير كلماتها، نجد هذا خاصة في قصتها الأولى ( دخلاء ).
تستعمل الرمزية بوقعها الجميل و المجاز بأثره الرائع، استعملتهما في قصتها ( نوابض )، و هي تصف كيف سقط الرئيس المخلوع، من خلال أحداث وقعت في قسم للدراسة، و كيف رمزت لذلك الأستاذ ( الرئيس ) و هو يستعمل النابض ليرمي خارج القسم كل الطلبة الذين يخالفونه الرأي. عنوان نوابض فيه إيحاء قوي جدا على ما حدث، و يحدث في مجتمعنا بين السلطة و شعبها.
من أهم ما يلفت انتباه القارئ قدرة القاصة على إلهامه لكتابة قصة أخرى، خاصة اذا كان صاحب قلم و موهبة، تشحذ أدواتها الإبداعية تهجم بها عليه فيستسلم لقصصها. مباشرة من بداية القصة تجعله في قلب الحدث، بين رحى العقدة، فينفعل بها و يتفاعل وجدانيا معها، فيصير كالأسير إلى نهاية القصة و يزداد اندماجه بذلك الوصف الجذاب، كأن الحدث أمام عينيه يتفرج عليه، كل هذا يُظهر لنا براعة الكاتبة في كيفية التأثير على القارئ و تحريك عاطفته و هز فكره.
التشبيه حاضر في بعض قصصها، استعملته بطريقة ذكية، ليجنبها السرد الزائد، و يقرّب من ذهن القارئ ما تريد قوله بطريقة فيها كثير من الأدبية، جعلته في مقاطع سردية قصيرة مؤثرة بصياغة بليغة و كأنها تحفة فنية مصورة بريشة فنان. تعمّدت ذلك لمزيد من التأثير، و وقوف القارئ عندها و إعادة قراءتها، نلمس هذا خاصة في قصة ( اقتربي ) و ( طيفه ) ...
بعض قصصها القصيرة أقرب إلى القصة القصيرة جدا، لقصرها النسبي، و لتأثر القاصة بها ( لأنها كتبتها ) ونظرا لِم تتسم به القصة القصيرة جدا من تكثيف و اختزال و قلة الكلمات، كأنها تحاول العودة إلى فن القصة القصيرة، التي بدأت الكتابة فيها قبل القصة القصيرة جدا. و نظرا لأن القصة القصيرة جدا ظهرت بعد القصة القصيرة، و تحاول أن تجد لها مكانة مرموقة في عالم الإبداع القصصي. للقاصة حنين يجذبها إلى القصة القصيرة، لأن من المؤكد بدايتها الأدبية كانت بها، من جهة أخرى تريد التنويع في إبداعها القصصي، و لأن بعض المواضيع التي تريد الكتابة فيها لا يمكن أن يحتويها قالب القصة القصيرة جدا، نظرا لاحتوائها على أكثر من حدث، لهذا في رأيي عادت إلى القصة القصيرة لتجد راحتها و حريتها في إبداعها القصصي، لهذا نجدها تحاول أن تطيل في سردها القصصي لتتحرر من الكثيف الشديد الذي سيطر على قلمها. مع العلم أن القصة القصيرة في حاجة لتكثيف لكن ليس شديدا كالذي نجده في القصة القصيرة جدا، و نجد في بعض مقاطع قصصها النَفس الطويل في الكتابة والسرد، و لا استبعد أن القاصة ستجرب الكتابة في الرواية، ربما لها تجربة فيها ستنشرها مستقبلا.
قصة ( كمد ) بدايتها كانت كالخاطرة، لكن سرعان ما تقلب القاصة طريقة كتابتها، لتغوينا من جديد بشهية سردها. الجميل و المؤثر هي تلك الطريقة العجيبة، في الانتقال من ذلك الخاطر إلى فن القص الذي جعل القارئ يشعر بنقلة غير منتظرة، لتحدث فيه ذلك الانقلاب في عمقه، و تشعل فيه تلك الدهشة الجميلة، ليواصل القراءة بنهم.
قصة ( موت النزقيلة ) موضوعها عن ما عانته المرأة بصفة خاصة من الإرهاب الأعمى، الذي لا يرى في الأنثى إلا آلة لإشباع نزواته المكبوتة، و عليها أن تنصاع لذلك، و إلا مصيرها سيكون الموت المحتم، كل هذا باسم الدين. نرى موقف القاصة المعارض بشدة من خلال سردها، تدق ناقوس الخطر لإعادة النظر في ذلك الفكر الرجعي المتطرف، الذي ألبسوه حلة القداسة، كان بإمكان القاصة التوسع أكثر في هذا الموضوع، أو تضيف قصة أخرى لمجموعتها عن مأساة المرأة، خاصة أنها أقرب إلى بنات جنسها.
القاصة تحمل في أعماقها هاجس الإبداع، تحاول بكل ما لديها من جهد و حنكة إبداعية، أن تأتي بالجديد المدهش الصادم لوجدان و فكر القارئ، في جوفها قلق أدبي تحاول تسكينه بجرعات متتالية من حبر قلمها المتدفق، تجتهد في صياغات أدبية راقية دون الوقوع في تقليد الآخر، نلحظ هذا في مقاطع من قصصها، مقاطع تدعوك للوقوف عندها لاستكشاف معناها و مبناها بالقراءة و إعادة القراءة.
غريبي بوعلام / الجزائر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق