قراءة في رواية ( حصّاد الرّمال ) لمحمد ساري

غريبي بوعلام

الناقد غريبي بوعلام

تعود بنا الرواية إلى فترة قبيل نهاية العُشرية السّوداء، مع صدور قانون الرحمة الذي سيتحول إلى قانون الوئام المدني و المُصالحة الوطنية، غاص فيها الروائي من خلال أحداث روائية، تتمثل في نزول الأمير ( فيصل بوسكين ) من الجبل الملقب بالأفغاني، بعد إعلانه عن توبته من أعماله الاجرامية، و كيف استقبله والد ذلك العسكري الذي ذبحته جماعته، و ألقته كالقمامة على قارعة الطريق.

فكيف لذلك الوالد المسكين ( عمي السّبتي ) أن يرى قاتل ابنه حرا طليقا؟ يعيش معه في نفس القرية، يلتقي به في شوارعها، في المسجد خاصة أثناء صلاة الجمعة، وقلبه مملوء بالحزن و الأسى على فلذة كبده المغتال شر اغتيال.

يضعنا الروائي مباشرة أمام هذه المعضلة العويصة، يغمسنا في قلب الحدث، معضلة ليس من السهل حلها كما يتصور البعض، كيف نسامح لمجرم احترف و تفنّن في القتل و ضرب الرقاب باسم الدين؟ كيف لمثل هؤلاء التنعّم بحرية، و كسب مزايا ربّما لا يحلم بها المواطن البَرِئ؟ في المقابل كان يجب بل من الضروري، بل وحتمي أن يتوقف ذلك النزيف الدموي، الذي أغرق ألوف مؤلفة من الأبرياء و الضحايا. العقدة معقدة جدا و حلها مُر كالحنظل، كالغصة في الحلق، مع ذلك يجب ابتلاعها، خوفا من مغبة الانتقام الذي لو حصل سيكون نزيف أخر، و لن تنتهي المعضلة.

تتواصل أحداث الرواية إلى أن تموت والدة فيصل بوسكين و عمي السّبتي والد العسكري المُغتال، يدفنان في نفس اليوم بنفس المقبرة. فتخف عقدة القصة نوعا ما، كأنها حُلّت بسرعة، يتنفس فيصل الصعداء، يجد بعض الراحة النفسية بموت الذي رغب في قتله انتقامنا لابنه. فيجد القارئ في نفسه نوع من الارتخاء من ذلك الشد الكبير لانتباهه لأحداث الرواية المشوقة، التي لم تصل بعد إلى نصف الكتاب. تعمّد الروائي ذلك، لينقلنا إلى أفاق سردية أبعد و أعمق، يعالج القضية من زاوية أخرى، يقلّبها من جانب أخر، مُركزا على الجانب الاجتماعي، و مدى التأثير السلبي لتلك العشرية السوداء عليه، محاولا تفكيكها و تحليلها ببراعة أدبية، عسى أن يجد لها حلولا، وسط كل ذلك الدمار الباطني و الظاهري. هكذا يواصل الروائي سرده المشوق، بربطه بطريقة بديعة مع العقدة الأولى، بِبناء عقدة أخرى في الرواية تتصاعد رويدا رويدا إلى أن تتأزم، و هي نتيجة حتمية لتسلسل تلك الأحداث المحبوكة بحرفية راقية، تدل على تمكّن الروائي من أدواته الإبداعية، و حسن استعمالها بحيث تصل الى الأهداف المسطرة في ذهنه.

رواية حصاد الرمال

تتمثل تلك الأحداث في الصراع الكبير المحتدم بين فيصل بوسكين و مصطفى، الذي أخفى الأموال الطائلة التي جمعوها أثناء قيامهم بحواجز مزيفة، بعد عودة فيصل طالبه بحقه منها، فمنحه بعضها و وعده بمبالغ أخرى، هذه الأموال يعدونها في نظرهم غنائم حرب، هم أولى بها لأنهم كانوا يمارسون الجهاد في سبيل الله، في الأخير أهدى مصطفى حافلة نقل الركاب لفيصل، و لا يعلم أنها مسروقة، فتقبض عليه الشرطة و تقع عليه التهمة، في الأخير يتقابل مع مصطفى في مقر الشرطة، و يفضح كلاهما الأخر، فيزج بهما في السجن على ذمة التحقيق، و تنتهي الرواية.

هكذا ترك لنا الروائي تلك النهاية بلا نهاية، فاسحا المجال للقارئ أن يتخيلها بنفسه، كيف يكون مصير مصطفى و فيصل؟ هي دعوة غير مباشرة للقارئ لمشاركة الروائي إبداعه المشوق.

الروائي محمد ساري

الالرواية متماسكة في بنائها، محبوكة جيدا في نسيجها السّردي، لا نجد فيها فراغات في القص و لا ثغرات في تتابع الحكي، حيث لم تترك القارئ يَمل من القراءة، بل تشد انتباهه الى غاية الفراغ منها لمعرفة النهاية بشغف، نلمس في الرواية تلك الحنكة العالية في كيفية التأثير على مشاعر و أفكار القارئ، و في كيفية ايصال تلك الرسائل التي حاول الروائي اقناعه بها بأسلوبه الإيحائي المميّز، دون الإكثار من الصور البيانية البلاغية، إن وجدنا بعضها أثناء القراءة، نشعر أنها أتت بطريقة عفوية دون أن يتعب الكاتب نفسه كثيرا في اللهث خلفها، كان همه الأول ايصال الفكرة للقارئ في قالب أدبي مُميّز و مؤثر، دون اللجوء إلى الزخرفة النصية.

المفارقة أو عقدة الرواية كانت قوية جدا إلى درجة الصِدام، اجتهد الروائي كثيرا في تعقيدها كي تؤثر كثيرا في القارئ، و تجعله ينفعل و يتفاعل مع أحداث الرواية، كان خطها تصاعدي إلى أن وصلت إلى ذروتها، ثم تستوي و تبقى في مسيرها العمودي، لكن سرعان ما يفاجئنا الروائي بعقدة أخرى كما أسلفت الذكر، ليسلط المزيد من الضوء على مأساة العشرية السوداء، و ما نتج عن تلك المصالحة من سلبيات رغم توقف ذلك النزيف الدموي، كان الروائي يستطرد أثناء سرده ليعود بالقارئ إلى الوراء، ليذكره ببعض تفاصيل تلك العشرية، ثم يربطها بالنتائج المتمخضة في الأخير، التي أدت الى وجوب العفو عن هؤلاء القتلة، و إلا لن تنتهي تلك المأساة التي تنخر نخاع المجتمع، الروائي لم يقل لنا وجهة نظره في تلك المصالحة الوطنية، بثّها لنا بأسلوبه الأدبي الفذ، و ترك لنا حرية الحكم عليها أو لها، دون التعرّض للجانب السياسي، تاركا اياه لأصحاب السياسة، كما تمكن من تعرية و فضح أفكار و نوايا هؤلاء القتلة، الذين حاولوا تمرير و تبرير خبثهم الباطني تحت غطاء الدين، و تلوينه بالقداسة، في عمقه لا نجد إلا الهوس الجنسي، الظمأ لسفك الدماء و جمع المزيد من الغنائم المالية أو البشرية، كما لمّح إلى قضية المختطفين الذين لم تظهر علامات موتهم أو حياتهم، دون الغفلة بالإشارة عن قضية المرأة المقهورة من طرف هؤلاء القتلة.

من خلال إبداع الأستاذ محمد ساري، تلمس جيدا مشروعه الروائي، المتمثل في الكتابة عن ظاهرة الإرهاب الإسلاموي، محاولا فهمه و تحليل دوافعه العميقة، و أسباب ذلك الإجرام باسم الدين الذي غرضه في الأصل الرحمة لكل العالم، فكيف تحوّل إلى سكاكين و خناجر و تفجير؟ نجده قد طرح كل هذا في أعماله الروائية السابقة كرواية ( الورم ) ( القلاع المتآكلة ) ( حرب القبور ) و غيرها دون أن يغفل معالجة تلك القضية أو الظاهرة في الريف و المدينة.

غريبي بوعلام / الجزائر.