أعلان الهيدر

الجمعة، 5 فبراير 2021

الرئيسية متاهة السرد في رواية "على خط النار" للكاتب: رحو شرقي

متاهة السرد في رواية "على خط النار" للكاتب: رحو شرقي


بقلم الأستاذ : عبد السلام المامون /المغرب



1- المتاهة: 

اكتفى السارد في البداية إلى الإلماع إلى النوع الذي يتناوله عبر سير متنه؛ وقد يبدو للمتفحص أن الانتماء النصي سيكون عبر متاهة التاريخ، واستلهام وقائع رصينة لحقبة تاريخية معينة هامة يحاول ربط الحاضر بالماضي. وهذا هو جوهر "المتاهة". 

فالتصريح ظاهر كما يلي:(...كتبت هذه الرواية..أحداثها الدائرة في زمن قريب عشته بكل ألم، ولا زالت ندوبه تعيد نفسها متى شاءت.. الكثير من أبناء جيلي وجلدتي عايشوا هذه الوقائع..). 

لكن السارد ولج عوالم غير المصرح بها، ضمن متاهة قد تستند على أحداث تاريخية لاستشراف مستقبل غير الماضي وغير الحاضر؛ ولا تتحيز لبلد ما؛ فالتاريخ في الرواية لم يعد ثابتا وساكنا كما في روايات تاريخية فارطة، بل اتخذ وجهة جديدة ولافتة تتجاوز حدود الزمان والمكان. 

فـــ(ليلة الفاتح من يناير، وفي مثل هذا اليوم من كل عام، تقف سائر الشعوب عند حواف شطآنها...)، فالوقوف هنا وقوف رمزي يقوم على تغيير ماهية التاريخ، والاستفادة من الأحداث الجارية، لتمرير عدة مفاهيم قد لا يمنحها قيمة معينة ما دامت صادرة من فئات ساهمت في زرع الحزن والألم. كما الزمان هنا زمن يتجدد كل لحظة وحين بتجدد حواف الشطآن.. 


الموعد مع القدر ،كان موعدا لتغيّر المواقف، موقف الصمت؛ وهو ما لا يخدم التاريخ في شيء، ولا يصوره الزمن، ولا بد والحالة هذه من الإعلان عن موقف والخروج من حالة الصمت.( دخلت الممرضة تسأل عن أهل المصاب... التزمت الصمت... فتشت أحشاء معطفه...تراءى لي كتاب بخط سامق... أنا أهله) ص8. 

فلكي تلج التاريخ من بابه الواسع، عليك الانتقال من باب الصمت إلى باب التعبير عن موقف مغاير، يسجل توجُّها جديدا يتَّكأ على الإعلان عن هوية وانتماء لطبقة لم يتح لها التاريخ التعبير عن موقفها الحقيقي (أنا أهله)..هذا ما تتيحه رواية"على خط النار"من أفق تعبيري وتأويلي في آن معا؛ فقد أخذت الرواية بعموم التاريخ لا بخصوص الحدث؛ مستعيرا في ذلك القاعدة الأصولية ومحورها في هذا الشأن؛ فالتاريخ ملك مشترك بين جميع الشعوب، أما الحدث فقد أتى السارد على ذكره مرات قليلة في ثنايا المتن وهو "جَزْأَرَة" الوضع في حقبة ما..هذه الكونية منبتها النص نفسه (هو ليس شاميا ولا مغربيا،شعره أسود ولونه أحمر، يميل إلى الاسمرار.ليس نصرانيا، ولا يهوديا، ولا إسلامويا، لكنه يعبد الله بكل الأديان السماوية..)ص8 

مبنية على اختلاف الحدث ووحدة التاريخ الذي جاء في الرواية كخلفية لسرد مواقف ورؤى الأبطال(1). 

تلك كانت المتاهة أو غابة امبرتو إيكو التي "تتداخل دروبها، وحتى إذا كانت الغابة لا تتخللها الدروب، فسيكون في مقدور أي كان أن يرسم لنفسه مسارا والذهاب يمين تلك الشجرة التي صادفها أو يسارها"(2). 

2- وسط المتاهة: 

في المتاهة بيّنا أن النص انْبَنى على رؤية مغايرة للتاريخ، رؤية منتقدة وفاحصة لوعي مرحلة ما غير محددة،تشجب الماضي والحاضر معا، وتتطلع إلى مستقبل كوني بعد دخول الكهل في غيبوبة وهذيانه باقتضاب؛ والذي عادة ما تكون بداياته سريعة؛ أليس ذلك عصيانا ورفضا للماضي والحاضر في أفق إعادة النظر فيهما؟ ذلك ما سنتناوله،باقتضاب كذلك، من خلال عدة مفاهيم واردة بالرواية. 

v الحرب: 

يمهد السارد للحرب لا باعتبارها ضرورة إنسانية لخلق توازن للقوى، ولكن اللجوء إليها باعتبارها وصفة أو معادل لضعف بعض النفوس المريضة والأيادي الآثمة.. ومن تم فالواجب يقتضي الاستجابة لنداء الوطن الذي( يحتضر ولن يقتضي الرجوع إلى الوراء، هكذا كما تعلمنا سابقا في مدرسة الرجال آنذاك)ص13. 

فالحرب اقتضت الدفاع عن المظلومين والمقهورين الذين داستهم أيادٍ غاشمة وأقزام مشوهة، لا تميز بين الجمال والجماد.واتخاذ موقف من تلك المآسي والآلام التي تكبَّدها أبرياء والانحياز إلى جانبهم؛وإن كانت تلك مغامرة؛عوض تكرار تلك الصورة النمطية التي عهدناها للبطولات الحربية؛( تجدني أبحث عن أعذار، كي لا أشعرهم بابتعادي عنهم. وعادت الآذان والأعين تتلصص أكثر من الأيدي لا أرى إلا أناسا يمتهنون حرفة الحقد والكراهية، لصناعة الموت الشنيع...)ص18. 

وتكمن قوة السارد في وصفه الدقيق للحالات النفسية للأبطال، وما كابدوه من لوعة الفراق والتخلي عن الأحلام( أظن أن الحرب لن تدع مكانا للذكريات الجميلة، وتشتهي قبضتها على السعادة ولا تعلم أن الحب لا يعلو هامته إلا خالق هذه الأكوان) ص31. في أفق انبعاث وطن خالٍ من الخيبات وتكرارها؛قائم على الحب والتفاني في خدمة الآخر حيث لا سادة ولا عبيد (ص 29). آلا يمكن تحقيق ذلك؟ 

نجد في رواية "على خط النار" مقاربة أخرى لمفهوم الحرب، قائمة على تشارك بطولة الرواية، أو هي بطل واحد (رفيق، جمال، يوسف وسالم)، تجمعهم نفس الرؤية والحنين المشترك لأفكار تصون الكرامة الإنسانية من مساومات آكلي نتائج الحروب والثورات..وتشجب الزَّلات الفادحة التي توقعنا في سوء التقدير. 

v السلام: 

المعركة الحقيقة هي زراعة السلام، وهي أصعب معركة تُخاض على مستوى النص،(فعندما تنتهي الحرب، لا ريب من انتصار الفوضى على الهمجية)ص41. 

السلام قيمة مركبة من النوايا الحسنة والجاهزية الفعلية لبناء سلام حقيقي، وليس تلك الطقوس الرسمية المصاحبة لانتهاء الحرب؛(لأن الجميع يريدون صناعة نظام بشري يحترمه الجميع)ص42.أو تلك المعاهدات الممهورة بإمضاءات، تُخرق عند أول اختلاف؛ نحن نريد سلاما من الداخل نابعا من قلب يحب الجميع،(نحن الآن في ساحة واسعة من الجراح، حاول أن تختار كيف تتألم؟)ص42. 

في تتبعه لتحقيق سلام حقيقي، يرى السارد أن تجاوز الآلام، إرادة جماعية قائمة على الاستفادة من أخطاء الماضي(...فالطفل لا يتعلم المشي إلا بعد السقوط)ص56.وأن نهاية الحرب تعني خوض معركة أخرى سردية في هذا المقام:(على خط النار)، تُمجد السلام المتفق عليه، وليس تقديس التوقيعات السياسية الخالية من إرادة متوافق عليها؛ فرمزية ساعي البريد في أتون الحرب، رمزية يجب التأكيد عليها هنا، وأن الرسائل الواردة بالمتن لها قيمة رمزية وجمالية كذلك ، إذ تحمل "ممارسات ثقافية للسلام" ووسيط يقدم قيم جماعية مغلَّفة بالتمنيات..(عزيزتي الغالية،سأغادر لأن العلم الأبيض لم يستقر مكانه فقد نُكس اللحظة. وحين تصلك رسالتي فأنا في انتظار إشارتك.هل وصلت؟)ص64. (أدعو الله أن نلتقي على وطن نزرع فيه السلام،فالأرض عطشى بالجحافل ويد بطشة...هل وصلت الرسالة؟ ) ص85. 

سؤال يضعك أمام إشارات مختزلة وضمنية لوضع يحتاج فعلا لإرادة قوية للتغيير،(اليوم نعيش على العراء بدون وطن،أصدقاء الأمس أصبحوا أعداءً.فما هو ذنبنا؟)ص85 

هل كانت تلك أسئلة موجهة لقيادات امتهنت استعذاب الدماء وبث التفرقة للاستفادة من الوضع؟ وهل الدخول في الغيبوبة (اللعينة التي أفقدتك حاضرك)ص51،استشراف لمستقبل غير الحاضر المزري والمتعرج؛ فهل وصلت الرسالة؟ 

3- الخروج من المتاهة: 

وسط المتاهة أسئلة وجودية كثيرة، تشخص حياة أبطال يدركون خوضهم حربا بالوكالة، حربا من أجل تحرير ما بقي من شعب يتلظى من عنجهية أناس (سيكون مصير البلد بخير من دونهم)ص128. 

أبطال الرواية:(رفيق، يوسف، جمال وسالم)،أسماء لها رمزيتها ودلالتها في المتن، وما اختيار السارد لها إلا لتأثيرها على سير الأحداث في النص؛ والتأكيد من عدم إيراده أسماء ذات حمولة تاريخية أو الاهتمام بشخصيات لافتة ثقافيا؛أي بمعنى آخر كيف أنتج السارد من هذه الأسماء ذات المرجع الفردي حمولات ذات رؤى تاريخية؟ 

فأسماء الأبطال الواردة بالرواية، هي أسماء "ذكورية" أولا وغير فاعلة خارج النص، أي ليست ذات مرجع ثقافي أو تاريخي(3)، ولكن السارد استطاع أن يعيد لها وزنها الحقيقي بميزان المشاركة الفعالة في الأحداث، وحمل هموم طبقة أخرى تحاول النجاة من(مخططات ثعلبية)ص121.يسعون (هم الواردة بكثافة بالرواية) إلى خوض حرب أخرى على مستوى تغيير (خرائط أفكارنا). ،"إنها علامات تنشط ذاكرة القارئ.بعبارة أخرى،إنها شخصيات للتبشير، فهي تقوم بنشر أو تأويل الأمارات..."(3)؛ 

لم يحمل الأبطال رؤى مختلفة تتسم بالمعارضة، أي معارضة بعضهم البعض؛ وإنما خلق وحدة على المستوى الفكري لبناء أرضية موحدة ومواجهة أفكار تخريبية أولا،( يؤسفني كثيرا كيف نضيع الوقت، وتنتابني أسئلة عديدة. هل فشلنا في استثمار أنفسنا ولم نستشرف واقعنا؟ !)ص125؛ وللتشهير بكل من يغتنم فرص (الحرب/ السلام) لصالحهم ثانيا...،(أنا جمال يوسف، ورفيق المحبة التي تقتل خيبتكم وتطرد الخيانة... أنا سالم طالما يبحث عن السلام لتنحني له الرؤوس والاعتذار الذي تحمله إليكم نعالي...)ص143. 

والإشارة إلى الذكورية سابقا ليست ترفاً في حياض النص، وإنما جاءت في مقابل شخصيات نسائية مساهمة في بناء دلالته، ومساهمة في تأثيث فضائـــ(ـه) المعرفي(والعبارة لفيليب هامون)؛كما أن السارد استطاع أن ينصفها وأن يرفع من قيمتها الرمزية،وأن البلد ليست بلدا للرجال فقط؛ بخلاف "حنان الشيخ" على لسان الراوية في:"مسك الغزال"،قائلة:" لأن هذا البلد للرجال، رجال أينما كانوا على اختلاف أشكالهم في الأسواق أراهم، أعينهم تصيب كل امرأة تمر بأعينهم المغموسة في سحابة مياه عكرة"(4). 

إنهما( زينب وسليمة)، اللتان ابتليتا بالحب والحرب، في زمن البحث عن أمل، وفي زمن التساؤل عمن يدير هذه الحرب اللعينة، النساء أم الرجال؟ص 104. 

فلا يسعى السارد إلى تنميط المرأة وتهميشها، بل جعلها مشاركة وفاعلة في المتن السردي و يطمح إلى تغيير النظرة السائدة عنها ثقافيا؛( لكن عندما تنتهي الحرب، يظهر زعماء جدد، وينسب للرجل نصر عظيم؛ حينها لن ينكر أحد أن المرأة هي من أنجبت هذا، وهذا الانتصار. فنسب ميلاد النصر لرحم الأنوثة أما على الوجه الآخر فَيَدً تصنع الخراب، لمن هذه اليد؟ !)ص 104. 

فالمرأة في رواية"على خط النار" يمكن أن تكون إشارة ذات بعدين: ماهي عليه في الأصل (رحم الأنوثة)، وتجاوز الأصل في تمظهراته الزمنية ( المرأة هي من أنجبت هذا، وهذا الانتصار).. 

إنها عملية اقتصاد لغوي، استخدمها السارد، والتي تسمح لتضمين معلومات غالبا ما يكون على القارئ فك شفراتها. 

4- خاتمة المتاهة: 

لن نخرج من المتاهة فالنص مفتوح على عدة احتمالات، (يا ترى من سيحمل الرسالة ومعها تلك الصورة..) ص 152؛ احتمالات يتحملها القارئ وحده لفك نسيج المسكوت عنه؛" يعني عدم الظهور على السطح، وفي مستوى العبارة، ولكن هذا المسكوت عنه هو الذي يجب تحقيقه في مستوى تحقق المضمون بالضبظ، وهكذا فإن النص هو الأكثر تمظهرا من كل رسالة اخرى لأنه يتطلب حركات متآزرة حية وواعية من طرف القارئ"(5). 


                                                                                                      عبدالسلام المامون 



المراجع والهوامش: 

· رواية على خط النار.رحو شرقي. دار الخيال للنشر والترجمة.ط1/2020 

1) انظر بهذا الخصوص: الرواية والتاريخ دراسات في تخييل المرجعي.ص73.د.محمد القاضي.دار المعرفة للنشر.ط1/2008 

2) 6 نزهات في غابة السرد.أمبرتو إيكو. تر.سعيد بنكَراد.ص 20/24.المركز الثقافي العربي.ط1/2005 

3) انظر: سيميولوجية الشخصيات الروائية.فيليب هامون.تر.سعيد بنكَراد.ص35...دار الحوار.ط1/2013 

4) مسك الغزال.حنان الشيخ.ص21.دار الآداب بيروت.ط1/1988 

5) القارئ النموذجي.أمبرتو إيكو.تر: أحمد بوحسن. ضمن كتاب طرائق تحليل السرد الأدبي.م.اتحاد كتاب المغرب.ط1/1992

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.