حاورته المبدعة: أمنة برواضي
السلام عليكم دكتور خالد التوزاني
أولا، أرحب بكم وأشكركم على تفضلكم بالموافقة على الإجابة عن أسئلتي
ليكن أول سؤال:
من هو خالد التوزاني ؟
جواب
ليس من السهولة أن يتحدّث الإنسان عن نفسه، القدماء كتبوا الفهارس والترجمات الشخصية و صنّفوا السير الذاتية، بناء على طلب الآخرين، إذ عادةً ما يُعرِّفُ المرء بنفسه، إذا طُلِبَ منه ذلك، ولا يُطلب التعريف إلا لمَنْ أنجز عملاً رآه الآخرون نافعاً ومفيداً، وإلا فإن الحق تعالى يقول: " فلا تزكّوا أنفسكم"، وهذا يعني أن تعريف الإنسان، يكون بما عمل وأنتج وبما ترك من آثار وبصمات في الحياة، وضمن هذا السياق، كنتُ دائما أقدّم نفسي بما يسّر الله إنجازه، ضمن مجالات تخصّصي، فقد كانت دراساتي في العلوم التجريبية (باكالوريا سنة 1999)، ثم علم النفس (الإجازة سنة 2006)، ثم الأدب المغربي: الفكر والإبداع (ماستر سنة 2009)، ثم أنجزتُ أطروحة بعنوان: جماليات العجيب في الكتابات الصوفية (دكتوراه سنة 2013)، وكانت دراستي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، بفاس.
ولأني ولدتُ في مدينة فاس (عام 1979) وفيها تابعتُ دراستي، ونَمَتْ مداركي، فقد استفدتُ من مؤهلات هذه المدينة العلمية،ومن ثمراتها استفادتي من عدة دورات تكوينية وتدريبية في مجالات علم النفس والتربية ومهارات تحليل الخطاب، وأصدرتُ جملة من المؤلفات منها، كتاب "أدب العجيب في الثقافتين العربية والغربية" صدر عن دار كنوز المعرفة بالأردن، وكتاب "جماليات العجيب في الكتابات الصوفية: رحلة ماء الموائد لأبي سالم العياشي أنموذجاً، صدر عن الرابطة المحمدية للعلماء بالرباط، وكتاب "الرحلة فتنة العجيب بين الكتابة والتلقي" فاز بجائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي للعام 2016 بالإمارات العربية، وكتاب "التصوف الإسلامي: نحو رؤية وسطية" صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بلبنان، وكتاب: "الرواية العجائبية في الأدب المغربي: دراسة نفسية اجتماعية" صدر عن مؤسسة مقاربات وبدعم من وزارة الثقافة بالمغرب، ثم كتاب: "التسامح بين الأديان من منظور الدبلوماسية الروحية"، وقد فاز بجائزة الشيخ المختار الكنتي بموريتانيا، وأقيم حفل توزيع الجائزة بمدينة العيون الساقية الحمراء ضمن فعاليات ملتقى عيون الأدب العربي الذي تنظمه كل سنة، جمعية النجاح للتنمية الاجتماعية، كما نلتُ جائزة أحمد مفدي للدراسات النقدية والعربية عن دراسة نقدية بعنوان: "صوفية المكان في شعر الدكتور أحمد مفدي" وهي جائزة أطلقتها حلقة الفكر المغربي بفاس، كما نلتُ جائزة الاستحقاق العلمي من مؤسسة ناجي نعمان العالمية للأدب بلبنان، عن دراسة علمية بعنوان: "ظاهرة العجيب في الأدب العربي"، وكتبتُ أزيد من مائة مقال منشور في مجلات: الوعي الإسلامي والعربي والتفاهم والرافد والكويت والفنون الشعبية وآفاق الثقافة والتراث والإمارات الثقافية والمدوّنة والرقيم وروافد وغيرها من المجلات العربية العريقة.. وبالنسبة للكتب الجماعية، فقد شاركت في تأليف أكثر من أربعين كتاباً جماعيا في مجالات النقد وأدب الرحلة والرواية والتصوف والجماليات، كما شاركتُ في عدة ندوات علمية داخل المغرب وخارجه، وشاركت في برامج تلفزيونية وإذاعية، منها البرنامج الشهير"مشارف" ياسين عدنان (القناة الأولى)، وبرنامج الناقد (القناة الثانية)، وبرنامج ثقافة بلا حدود (قناة تلي ماروك)، وبرنامج قضية في كتاب (قناة السادسة)، وقد عملتُ على تأسيس عدة مراكز علمية، كما أني عضو في الكثير من الجمعيات الثقافية ولجان التحكيم في مؤتمرات ومجلات عربية، منها: الرئيس المؤسس للمركز المغربي للاستثمار الثقافي (مساق) بفاس،عضو فخري بدار نعمان للثقافة بلبنان، وسفير النوايا الحسنة لدى الاتحاد العالمي لسفراء النوايا الحسنة، في ألمانيا. ورئيس شرفي للرابطة المحمدية للطرق الصوفية بالمملكة المغربية وخارجها.ومدير البيت الثقافي العربي في الهند لدى فاس/ المملكة المغربية.وعضو هيئة تحرير صحيفة آل مكتوم الإماراتية الثقافية. عضو الرابطة العربية للآداب والثقافة في بغداد، وعضو لجنة التحكيم الدائمة برابطة أدباء القصة الومضة،جمهورية مصر العربية. وغير ذلك من المسؤوليات الثقافية، كما أنَّ لي قناة على اليوتوب تتضمن بعض مداخلاتي العلمية ومشاركاتي في البرامج التلفزونية والإذاعية، وقد أُجريتْ معي العديد من الحوارات الفكرية والثقافية منشورة في جرائد ومجلات ومواقع إلكترونية.
وعلى الرغم من هذه المنجزات العلمية، إلا أني أعتبر نفسي طالب علم، أقرأ كل يوم، ولا أجعل يوماً يمر دون فائدة أطالعها أو معلومة أدوّنها أو فكرة أسجّلها، ومع مرور الأيام، تتراكم المعارف لتدوّن في مقال، أو كتاب، فالاستمرارية هي سر الإنتاج العلمي ونبعُ العطاء الذي لا ينضب معينه.
2 ـ سؤال:
عند تصفحي لسيرتكم الذاتية استوقفني هذا التنوع في التخصصات: باكالوريا علوم تجريبية إجازة في علم النفس. ماستر، التصوف في الأدب المغربي. دكتوراه، جماليات العجيب في الكتابات الصوفية. هل كان للنشأة والتربية دور لتستقروا بعد هذه الرحلة بين التخصصات في التصوف وما يدور في مداره؟
جواب:
على الرغم من أنَّ الإنسان ابن بيئته، وأنَّ التنشئة الوالدية قد تؤثر في توجيه الأبناء، إلا أن الاختيارات الشخصية تخضع لعوامل أكثر تعقيداً، حيث يصعب التنبؤ بميول الإنسان واتجاهاته في الحياة، ومع ذلك يمكن القول بأن نشأتي في مدينة فاس، كان لها عظيم الأثر في تنوّع اهتماماتي، وخاصة فاس الجديد، أو المدينة البيضاء، كما عُرِفت عند المرينيين، وهو الحيّ الذي ولدتُ فيه، وعشتُ فيه طفولتي، كانت أجواء فاس، التاريخية، حاضرة بقوة في شخصية الطفل الصغير، فالمناسبات الدينية والوطنية تُغيّر الإيقاع الرتيب للحياة اليومية، والتضامن الاجتماعي بين الجيران، في أقصى درجاته، وأجواء الجامع أو التعليم الأولي يطغى عليه الطابع الديني الصّرف، والمناسبات العائلية لها طقوسها، وألعاب الشارع متنوعة ولها مكانتها وأماكنها وأوقاتها، غير أن الملاحظة الأكثر غرابة، هي أن جميع الطبقات الاجتماعية تسكن الحي نفسه، الأبواب متشابهة، والاختلاف يكون في داخل البيوت، أما المشهد الخارجي فواحِدٌ، لا تكاد تعرف الفقير من الغني، وحتى أصحاب المهن والحرف يرتدون لباساً خاصاً بكل حرفة، فتذوب الفوارق الاجتماعية، وكل هذا، بالطبع كان له تأثير قوي في اندماج أبناء الحي وتقاسم الكثير من الأشياء في اللعب واللغة والعادات والأفكار.. لا يمكن لمن ينشأ في هذه الأجواء إلا أن يكون موسوعياً وعالمياً، خاصة وأن هذا الحي، حي فاس الجديد، كان بجواره حي الملاح، الذي يقطنه بعض اليهود المغاربة، وكان مكاناً مفضّلا للسياح الأجانب، وغير بعيد عن الحي، يوجد القصر الملكي العامر، المشور السعيد، كما كانت المدينة الجديدة، قريبة أيضاً، مما ساعد أبناء الحي وأنا واحد منهم على مشاهدة طقوس القصر الملكي في الزيارات الملكية وخاصة الأعياد الوطنية، وذلك عن قرب، وملاحظة عادات الأجانب المقيمين في فاس، وتنوّع المهن والحرف والبضائع والسلع، وبدون شك إن غنى هذا الوسط بكل هذه المؤثرات المتنوعة، خلق عندي رغبة قوية في الاكتشاف والبحث والتعمق في الأشياء والظواهر والأفكار.
إن انتمائي لأصول ريفية أسهم أيضاً في خلق ميول صوفية، تمازجَت مع أجواء فاس العلمية والروحية، فلم أجد صعوبة في اقتحام التصوف دارساً وباحثاً، عِلماً أني لا أنتمي أبداً لأي طريقة أو زاوية، فقد اخترتُ موقف الباحث الأكاديمي الذي يدرس الظواهر، دون التماهي معها، أو منحها فرصة استلابه، ومحو شخصيته، لديّ علاقات إنسانية طيبة مع شيوخ ومريدي الزوايا الصوفية في المغرب، تقدير متبادل واحترام تام لمجالات تدخّل كل طرف، نحن جميعاً ننتمي إلى بيت واحد اسمه المغرب، فكل التيارات الصوفية وغيرها ينبغي أن تكون في خدمة هذا البيت الذي يجمعنا وهو هذا الوطن الكبير، أي الأمة المغربية، إن الباحث أو العالِم مِلكٌ للجميع، ولا ينبغي أن يجعل علمه في خدمة فئة معينة دون غيرها، بل يجعل فادته تعم البشرية.
انطلاقاً من هذه المؤثرات والخصوصيات، أدركتُ أنَّ العلم مفتاح فهم العالم المحيط بنا، وأنَّ علم النفس في غاية الأهمية، لفهم الذات ومعرفة الآخر، وأنّ أدب الرحلة لابد منه لفهم الظواهر والموجودات، وإدراك الاختلافات، وهو ما دفعني للاهتمام بالروحانيات، بوصفها أحد أهم روافد قبول الآخر، والتواصل السليم معه، فكتبتُ في التصوف وفي الدبلوماسية الروحية، والمجال مفتوح للمزيد من التأمل.
3 – ـ سؤال :
دكتور أصدرتم عدة مؤلفات منها على سبيل المثال لا الحصر: - التسامح بين الأديان من منظور الدبلوماسية الروحية. - التصوف الإسلامي نحو رؤية وسطية. - الرواية العجائبية في الأدب المغربي دراسة نفسية. - جماليات العجيب في الكتابات الصوفية " رحلة ماء الموائد" لأبي سالم العياشي. - كتاب الرحلة وفتنة العجيب بين الكتابة والتلقي ... مؤلفات تصب في مجملها في التصوف والرحلة والعجائبي هل هو السمو بالروح عن العالم المادي ومعطياته؟ أم أن الدكتور خالد يراهن على مشروع العجائبي والرحلة والتصوف كون كتاباتكم لا تحيد عن هذه الثلاثية؟ أم أن التوجه الحالي يسير نحو العودة إلى ما هو روحي؟
جواب:
هذا التنوع في المجالات المعرفية، فرضه أولاً تنوع الحياة وتعقّدها وغِناها، لكنه تنوعٌ لا يفضي إلى التناقض، وإنما هناك خيط رفيع يجمع بين كل المجالات، إنَّ ما نراه في الحقيقة هو رأس الجبل الشامخ، بينما يقبع الجِسمُ الأكبر من المعرفة وراء العين المجرّدة، كلما عرفنا أكثر، كلما زاد إيماننا بحجم المجهول، وأدركنا ضآلتنا وصغر عقولنا، يرحل الإنسان بحثاً عن الأفضل في الحياة، ورغبة في اقتحام المجهول الذي قد يحفل بالجديد والمختلف، وهو ذلك العجيب المُعجِب والمرغوب، والمثير للاستحسان والدهشة والإعجاب، ولذلك لا يدرك اختلاف العالم إلا الرحالة، ولا يقف على جوهر الحقائق إلا مَنْ مشى بغير زاد ولا عتاد، ليعرف فضل الله عليه، فالرحلة مجهولة النهاية، الداخل إليها مولود والخارج منها مفقود، ولا يصل إلى مراده، إلا منَ أراده الله فأخذ بيده، ففي الرحلة قد تنقطع الأسباب، وتتعطل الروابط، فيحتاج الإنسان إلى صلة أخرى أقوى من المادة، وهنا يجد الرحالة نفسه في عوالم التصوف، وروحانيات الوجود، ليحقّق اطمئناناً وانتصاراً على الذات والواقع، بالخروج من ضيق العقل إلى سعة الغيب، ومن أسر المادة، إلى التحرر من كل التعلقات، ولذلك أعتقد أن الجمع بين هذه الثلاثية: الرحلة والعجيب والتصوف، يمثل كبسولة الارتقاء بالإنسان من الرؤية التقليدية التي تجعل منه إنساناً عادياً، إلى رؤية عِرفانية تخلق منه قائداً مؤثراً، وفاعلاً اجتماعياً نافعاً، علماً أنّ مفهوم الرحلة لا يرتبط بالضرورة بالجغرافيا، بل يصبح مفهوما عاماً وشاملاً، قد يراد به الرحلة في النفس، بالتنقل في الصفات وأضدادها، بترك البخل واكتساب الكرم، وترك الغرور ولزوم التواضع، ودرء الحسد بدوام الدعاء للناس بالخير، مع حفظ العين والقلب من كل تطلّع إلى ما لا تملك أو ما لا يجوز التصرّف فيه، وغير ذلك من الأضداد، التي تجعل المرء مسافراً بالقلب وإن لم يتنقّل بالبدن.
4 - سؤال:
كيف تواصلون هذا البحث المضني؛ بين الرحلة والصوفي والعجائبي؟
جواب:
بالطبع البحث العلمي ليس سهلاً، وخاصة في مجالات إنسانية وعرفانية دقيقة، تحتاج صبراً وسعة صدرٍ، واستيعاباً للاختلاف، وقراءات متعددة وشاملة، لأن هذه المعرفة المستمدة من الرحلة والتصوف وعجائب الموجودات، لا تكون من مصدر واحد، كما أنها لا تنتمي إلى ثقافة واحدة، فهي كونية النزعة، شاسعة الامتداد التاريخي والجغرافي، عابرة للأزمنة والفضاءات، يصعب الإمساك بها عبر الكتب الثقافية والجامعية، وتقتضي من أجل الوصول إلى بعضها انقطاعاً في طلب العلم، وتفرّغاً قلبيا من أجل تحسين جهاز الاستقبال، فالمعرفة هنا نوع من الإلهام، الذي يُساق إلى الإنسان رزقاً من الأرزاق، وعطاءً من العطاءات الإلهية، التي تُنال بفضل الله وليس بمجهود البشر فحسب، مع أن المرء مطالبٌ بالفناء في العِلم واستفراغ كل الجهد البشري، حتى يبقى بعلم الله ويحظى بحسن الفهم، وبالطبع مَنْ لم يكن من أهل هذا الشأن، شأن التسليم لخالقه، والتوجُّهِ بصدقٍ لعلاّم الغيوب، عليه أن يلزم القرب من العارفين وأهل الإشارة من العلماء الراسخين في العِلم، وما أكثرهم في كل زمان ومكان، غير أنَّ الطالب في حضرتهم ينبغي أن يتحلى بالأخلاق ليدرك هذه الأرزاق، إذ للعلم هيبةٌ وجلالٌ لا يُعطى للمتكبّر.
إني أواصلُ البحثَ في الرِّحلة والتصوف والعجائبي، منطلِقاً من فكرةٍ قد تبدو بسيطة، ولكنها في غاية الأهمية؛وهي أنَّ المعرفة مثل الحياة، أوسعُ مما نظنّ وأعقد مما نتخيّل وأكبر مما قد يحيط به الإنسان من قشور العلم وأوهام المعرفة، ولذلك فإن البحث، كأنفاس الجسد لا تتوقف إلا بخروج الروح، وهذا يعني أن الإنسان لا يستنشق الهواء فقط، وإنما تتسرّب نسمات المعرفة إلى شرايينه أيضاً، وهو نوع من التسبيح الذي لا يعي به المرء، ولا يدرك بعضه إلا في أقسام الإنعاش الطبي أو العناية المركّزة، بأجهزةٍ وعتاد صحيّ، حيث تصبح لنسمة الهواء قيمة، ولا يكون هواءً نافعاً إلا بما فيه من طاقة حية قادرة على إحياء الخلايا وبث الحياة في أعضاء الجسد، تلك الطاقة التي تُمثِّلُ ذرات الحياة، هي مادة الفهم؛ فالعِلمُ إنتاجٌ متاحٌ، ما أكثر خزانات العِلم في كل مكان، ولكن مادة الفهم، التي تبعث فيه الحياة، تقتضي اعترافاً بالنقص ليستحقّ الباحث المزيد، وتقتضي أيضا عطاءً، بتعليم الآخرين وإشاعة المعرفة فيستنير العقل. وخلاصة الموضوع: لابد في مواصلة البحث من أمرين هما الاعتراف بالنقص وإنفاق الموجود من معرفة، فيكون الإنسان مُوصِلاً للأمانة لا يحتفظ بشيء، بل يوصله لغيره ممن يطلبه ويحتاجه، وفي الوقت نفسه لا يدّعي امتلاك أي شيء، فارغٌ مِنْ عِنده، عامرٌ بما تفضّلَ عليه العليم، وبهذا يكون مستعدّاً للتعلّم في كل لحظة، فلا تمرّ الأنفاس دون أن يقتبس منها حياة عقل أو روح، ثم ينفقها على المحتاجين أو يذكّر بها النّاسِين، وهكذا دواليك؛ كلما أنفق واعترف بفقره، استحق الزيادة والفضل،فكان من أهل العلِم على وجه الحقيقة لا الظاهر فحسب.
5 - - سؤال:
بماذا تنصحون من يرغب في اقتحام عالم العجائبي؟ وأيّ زاد يتزوَّدُ به؟
جواب:
في الحقيقة لا أرى نفسي مؤهّلا لتقديم أيّ نصيحة، ولكن أوصي نفسي والقراء الكرام ممن يرغبون في اقتحام عالم العجائبي والسّفر في عوالم الغريب والمدهش والخارق، أن لا يرى الإنسان نفسه أبداً، فالنفس حِجابٌ، والعِلمُ أحياناً يصبح عائقاً، إذا ركِبَهُ الغرور، فمما جاء في الأثر: "ما زال الرجل يتعلم حتى إذا قال: علِمتُ، فقد جهِل"، فأوّل نصيحة هي التخلّي عن كل ادعاء بامتلاك المعرفة، والتحلّي بالتواضع، وهذا شأن الرحالة الذي يغادر منطقة المألوف ليلج عوالم العجائبي، فيرى العالم بعين الطفل الذي يندهش أمام كل شيء، ويعبّر عن حيرته وإعجابه، أمام مشهد العالَم الفسيح، إنّك عندما تغادر معرفتك (مكانك الذي تعرفه، ومكانتك التي يعرفك بها الناس) تشهد حقيقتك، وهي جَهْلك، أي الحاجة إلى المعرفة، ولذلك لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ولا يُراد بالعلم هنا، علم الأسماء والأشياء، ولكن علم دلالاتها ووظائفها وأسرارها، لأن عالم العجائبي تعجُّبٌ من المشاهد والمواقف دون معرفة أسبابها، كما أنَّ التخلي عن كل معرفة سابقة، يزيد من مفعول العجيب وأثره في النفس، ومعرفة الأسباب أيضاً قد تقود إلى مزيد من العَجَبْ، فلا يبطل العجب، بالضرورة، بمعرفة السبب، بل إنَّ معرفة السبّب قد تزيد العَجَبْ، فالمرء، مثلاً، قد يتعجّب من عسل النحل الذي فيه شفاء للناس، فإذا علِمَ أنَّ العسل من إنتاج النحلة، هذه الحشرة الصغيرة الحقيرة الضعيفة، ازداد تعجّبه وزاد استغرابه، إذ كيف لهذه الحشرة البسيطة أن تنتج للبشرية مشروباً فيه علاج الأمراض. وهذا يعني أن العالم كله موضع للتعجّب والاستغراب، ولكن سقط التعجب بكثرة الأنس والمشاهدة والألفة، فطول الرؤية والمكوث في مكان واحد أو تخصّص واحد، تفسد جمالية الدهشة، وتشوّه المشهد في أعيننا مهما كان رائعاً وجذاباً في عيون الآخرين، ولذلك نصيحتي الكبرى لمن أراد ولوج العجائبي أن يتخلّص من الثبات والاستقرار، بمغادرة مكان الألفة والاعتياد، وأن يرمي نفسه في يمّ البحث عن المجهول، وعلى الأقل تجديد رؤيتنا للعالم، ولا يمكن ذلك إلا بالخروج من نفق النفس ووهم امتلاك المعرفة.
6 - - سؤال:
أستاذي الفاضل بالنسبة لكاتب الرواية العجائبية، هل لا بد أن يكون قد جال الكثير من بلاد المعمور، وتعرف على الطرائف والحكايات..أم يكفيه أن يكون قد ألمَّ بها من الكتب؟ وأيهما أصدق في نقل الصورة؟
جواب:
إنَّ كاتب الرواية العجائبية مثل غيره من الأدباء، يحتاج إلى خيال واسع، وقدرة على اختراق حواجز الواقع، باستنطاق الكائنات، والموجودات، بما فيها اللغة، وجعلها تتحرّك أمامه، وتبدع هي الأخرى. على الكاتب الذي اختار أدب العجيب، أن يكتَسِب القدرة على التواصل مع العوالم الخفية، وأن يُحْسِنَ الإنصات إليها، وبدون شك هذه القدرة مثل غيرها من قدرات الإنسان التي يولد بها، ويمتلك الاستعداد الفطري لإتقانها، ولكن الخبرة الاجتماعية إما تعزّزها وتنمّيها أو تحدّ من تأثيرها وفعاليتها، فتزيد أو تنقص تبعاً للتحفيز والنشاط الذي يوليه لهذه القدرة؛ فهناك من الأدباء مَنْ جمع بين السفر والتنقل في البلدان، وبين مطالعة الكتب التراثية والأساطير وعجائب الأمم والثقافات، وزاد على ذلك بدراسة علم النفس وممارسة التأمل والتدبر في الكون، مما أسهم بشكل واضح في نضج التجربة الإبداعية لهؤلاء الكُتّاب، فكانت أعمالهم الأدبية والفنية محل إعجاب القراء والنقاد،وهذا التكوين الموسوعي والمتنوع في ثقافة الكاتب يفيد كثيراً في إثراء رؤيته الإبداعية وتوسيع أفق اشتغاله ضمن مجال إبداعي يحتاج إلى أقصى طاقة في توظيف الخيال، ولذلك نجد بعض الكُتّاب العالميين، قد نجحوا في إبداعاتهم بسبب كثرة تجوالهم وتنوع قراءاتهم، ووقوفهم على المشاهد العجيبة؛ سواء في الميدان أو في الفكر من خلال القراءة، فيجد الناظر في منجزهم الأدبي صدى تلك العوالم العجائبية التي تزخر بها الثقافات الإنسانية والجغرافيات المتباينة، ومثلُ هذا الكاتب إذا كتب النص العجائبي جاء مغرقاً في الدهشة والغرابة، وخلق التردد في نفسية القارئ، وحفّز النقد.
7 - - سؤال:
بصفتكم ناقداً كيف ترون الرواية العجائبية في المغرب الآن؟ وهل يمكن القول إن للنقد دور في توجيه الكتابة إلى العجائبي؟ أم أن ما يحصده هذا النوع من جوائز وراء هذا التوجيه؟ وهل يمكن القول إن المستقبل للرواية العجائبية؟
جواب:
تعرف الرواية العجائبية في المغرب ازدهاراً ملحوظاً، على غرار باقي أنماط الرواية العربية، ويكفي الاطلاع على قائمة الإصدارات الجديدة، في المغرب لمعرفة تنوع أشكال الكتابة الروائية، ومن الواضح أن العجائبي يحظى بأهمية قصوى، لأسباب متعددة، لم يكن النقد إلا أحد وجوهها فقط، فمن المعروف أنَّ الكاتب وفق المنظور العجائبي، يستطيع أن يتناول أكثر الظواهر تعقيداً في الوجود، كما يستطيع أن يقتحم مناطق المسكوت عنه، والمحرّم السياسي، دون أي خوف أو تردد، لأن مكونات العجائبي تمنح الكثير من الحرية في البوح والتعبير،وتستطيع ستر المواقف وإخفائها وراء الشخصيات العجيبة مثل الجن والشياطين والغيلان، ومجمل التحولات والتشوهات التي تصيب بعض القوى الفاعلة في الروائية، فالرواية العجائبية تؤدي وظائف عديدة، وقد فصّلتُ القول فيها في كتابي النقدي، الموسوم بـ : "الرواية العجائبية في الأدب المغربي: دراسة نفسية اجتماعية"، الذي صدر ضمن بدعم من وزارة الثقافة المغربية، ونشر مؤسسة مقاربات، حيث ذكرتُ في هذا الكتاب ثلاث وظائف للعجائبي، منها الوظيفة الاحتجاجية، أو الحاجة إلى اللاصمت، وهو السبب الأكثر شيوعاً والذي يجعل الكُتّاب والأدباء، يقبلون على كتابة الرواية العجائبية.
تعبّر الرواية العجائبية عن الحاجة إلى اللاصمت، حيث قد يختار السارد الاختباء وراء الخارق، ينطق بملء الصوت، ويخرق حاجز الصَّمت، محتجّا على واقعٍ صاخب لا يريد أن يهدأ أو يتعقَّل، فالمبدع في لحظة غضب أبيض، لم يقل شيئا، لم يحتجّ، لم يفضح الواقع الصّعب، وإنما الجِنّية هي التي نطقت أو الغول أو الشيطان أو الحيوان، وكأن لسان حال الكاتب/السارد صاحب الرواية العجائبية يقول: "حاسبوا الجِنّية، ابحثوا عنها لتحاكموها، أنا لم أقل شيئا، إنما أكتبُ رواية، والرواية مجرد خيال، مجرد كلام لا يطالعه إلا القلة ممن لا يجدون شغلا"، وهو التعليق الذي ورد في رواية "وريخا" للروائي المغربي عزيز أمعي، هكذا تؤدي الرواية وظيفة احتجاجية، لنقْلِ مأساة واقع معين، حافل بالتطلعات نحو عيش أفضل، فيتم تمرير الانتقادات دون أي حرج من المحاسبة أو المساءلة أو العقاب، وإنما من خلال التعبير بلسان الكائنات العجيبة، وبأسلوب يميلُ إلى السخرية، التي تحقّق بلاغتي الإمتاع والإقناع، فعلى الرغم من أن الرواية العجائبية تبدو مغرقة في الغرابة وموغلة في الخيال الخلاق، إلا أنَّ لها منطقها الخاص الذي يجعل المتلقي يصدّق أحداثها على الأقل زمن القراءة.
وبالنظر للطابع الذي يميّز الرواية العجائبية، فإن النقد يمكن أن يضيء الكثير من خصوصيات هذا النمط من الإبداع، فهي حافلة بالتأويل وقابلة للقراءات المتعدّدة، وهذا الانفتاح يسهم في إثراء النقاش النقدي، وأيضا يستفيد منه الكاتب.
أما دور الجوائز العالمية في الإبداع الروائي، فمن المؤكد أنها قد أسهمت في وفرة الإنتاج الأدبي في مجال الرواية عموماً بكل أنماطها، وليس فقط العجائبي منها، حيث يتم ترشيح آلاف العناوين في جائزة كتارا كل سنة، وهذه نهضة حقيقية في إبداع الرواية حتى اعتبرت الجنس الأدبي الأكثر إقبالا من لدن الكتاب والقراء والنقاد أيضاً، إلى الحد الذي فاق ما يُكتب في الشعر ونقده.
في بعض الدول التي تعرف قيوداً في حرية التعبير فإنَّ الرواية العجائبية تزدهر وتنمو،هذا لا شك فيه، ولكن وجود الرواية العجائبية في بلاد أخرى، يحقّق وظائف جمالية وفنية، كما يعبّر عن قضايا فلسفية، ووجودية، ورؤى تربوية، الشيء الذي يُسهم في تنشيط الحياة الفكرية والثقافية بشكل عام، ينقل المعاني من التداول المعتاد إلى أفق تأويلي غير مُعاد، وإنما يتشكّل مع توالي القراءات وتكرار النقد، فينعكس هذا النشاط الإبداعي والقرائي في تنمية الخيال، ومن المؤكد أن قوة الخيال مُقدِّمَة للتطور في مجالات أخرى صناعية وتقنية، كل شيء يبدأ في المخ البشري، وخاصة الفصّ المتعلّق بالخيال والعواطف، وهو الذي يقوّيه الأدب والفنون والأديان، وإيماناً بأهمية هذا الجانب من عمل الدماغ، فإنَّ الرواية العجائبية، وأيضا معها رِواية الخيال العلمي، هما المستقبل في الرواية في العالم المتقدم، بينما في العالم النامي هناك أولويات أخرى تتعلق بالهوية واللغة والتنمية والتاريخ والتراث، وهي أيضاً مجالات تُسهِمُ في التعبير عنها، الرواية العجائبية المرتكزة على توظيف الأسطورة والخرافة..
8 - - سؤال:
لقد بصمتم النقد في المغرب والوطن العربي ببصمة خاصة، هل لكم أن تحدثونا عن هذا التميّز؟
جواب:
إنَّ الباحث عموماً ينبغي أن يجد منطقة خاصة به، يبدع فيها، ويجدّد آلياته ووسائله باستمرار، فيكون رائدا في مجاله الخاص، ويحظى بموقع متميّز فيه، سواء اختار الإبداع أو النقد، وهو ما حاولتُ القيام به عندما اخترتُ ثلاثية: العجيب والرحلة والتصوف، فيكون النص الرحلي عجيبا وصوفيا، ويكون النص الشعري صوفيا وعجيبا ورحليا أيضاً، ويكون النص روائيا وصوفيا ورحلياً، وهكذا في سائر الأجناس الأدبية والأشكال الثقافية، الشيء الذي يؤكد وجود رؤية فكرية ومنهجية مؤطرة للنقد، وليس مجرد تحليل دون أي خلفية نظرية وتأصيلية مُقْنِعَة، ولعل سرّ هذا النجاح، يعود إلى البحوث الجامعية التي أنجزتها، وخاصة البحث الذي نلت به شهادة الدكتوراه، وأيضا بحث الماستر، فهما لم يخرجا عن هذه الثلاثية، فقد كان البحث في أدب الرحلة، لرَحّالة متصوّف، وكان التركيز منصبّاً على رصد جماليات العجيب في رحلته، وبالطبع لم يكن العمل سهلا أبداً، فقد استغرق مني عدة سنوات، من القراءات المكثّفة والعميقة، والواسعة ضمن مجالات معرفية متباينة، خاصة وأن الموضوع، كان لي فيه عشقٌ خاص، وحُبٌّ جارف، جعلني أشتغل في الأطروحة يوميا عدة ساعات دون كلل أو ملل، وهذه حالة لا تُتاح إلا لمن يعشق موضوع بحثه،كما تطلبت مني الكتابة عدة شهور من التحرير والمراجعات، إلى جانب الاستشارات المتعددة التي قمت بها، فاستفدت من خبرات الأساتذة الرواد، الذين استمرت علاقتي بهم بعد المناقشة، وإلى اليوم، علماً أن النجاح في مقدور أي باحث، لكن التحدي الحقيقي هو كيف يحافظ على التميّز، هنا يكمن حجم العمل اليومي الذي على الباحث أن يداوم عليه، من خلال متابعة الجديد، واستمرار التكوين، وتطوير أدواته.
إن تميّز الباحث يعني الشعور بالمسؤولية تجاه ما يحمله من معرفة وقيم، نظرية وعملية، توجّه اختياراته الكبرى، وموضوعات اشتغاله، ضمن رؤية تعكس جوانب الهوية والبيئة المحلية والأفق الفكري والجمالي، الذي يُنتظر منه، مع الالتزام والإحساس بالواجب، إذ لا يعيش الناقد أو الباحث في برج معزول عن قضايا مجتمعه، وإنما يقتضي الانخراط التام والكلي في عمق الاهتمامات المحلية والوطنية والعالمية أيضاً، بهذا يحقق الباحث وجوده، ويحافظ في الآن نفسه على سلامة مساره من كل انحراف أو زيغ عن الطريق الذي رسمها منذ البداية، فمن أشرقت بدايته أشرقت نهايته.
لقد ركَّزتُ في حديثي عن جوانب التميّز في أعمالي الفكرية والنقدية، على طريقة التفكير وأسلوب الاشتغال، دون الغوص في النتائج العلمية التي توصلت إليها في مؤلفاتي ومقالاتي العلمية، فتلك تشهد بها مختلف الجوائز التي نلتها، في أكثر من جنس أدبي، وفي أكثر من دولة، وطنيا وعربيا، لكن قُرّاء هذا الحوار، من الباحثين وطلاب الجامعات يحتاجون اليوم إلى من يساعدهم في تعديل طريقة التفكير واختيار خطة العمل، أما النتائج فتأتي في الأخير تحصيل حاصل لمسار حافل بالعمل المستمر والدائم، إنَّ الكُتُب اليوم متوفرة، والمعرفة متاحة على أوسع نطاق عبر وسائل التواصل المعاصرة، ولكن الإشكال يمكن في طريقة الاستفادة منها، وكيفية القراءة، لأن الأسلوب التقليدي في التعامل مع الكتاب والمعرفة لم يعد يجدي نفعاً، ولابد للباحث إذا أراد التميّز من تعديل الكثير من قناعاته وتمثلاته وتطوير طريقة اشتغاله.
9 - - سؤال:
هل يمكن القول إنَّ العوامل السياسية ساهمت في توجيه رؤيتكم النقدية؟ وهل كتابكم: "التسامح بين الأديان من منظور الدبلوماسية الروحية" يمكن اعتباره نتيجة لذلك؟
جواب:
في الواقع، إنَّ الحديث عن تأثير العوامل السياسية في توجيه اهتمام باحث معين، قد يُفهمُ منها انتماء هذا الباحث لجهة حزبية ما، وفي حالتي الشخصية لا أنتمي إلى أي حزب أو تيار معين، منذ البدء اخترتُ أن أكون باحثا مستقلا ومنفتحاً، يقرأ للجميع وفي كل التخصصات، يحاور الأفكار ويناقش العقليات ويحلّل الذهنيات، دون أي تأثير من أي جهة، أو محاولة للتقرب من جهة ما، العلمُ والمعرفة أولاً وأخيراً، ومن وظائف العلوم فهمُ الظواهر، واستنطاق الواقع، لرصد المشكلات، وتشخيص المعضلات، تمهيداً لاقتراح الحلول، وهو ما أقوم به، عبر خطوات المنهج العلمي المتعارف عليه بين الباحثين: ألاحظ الظواهر الأكثر تأثيراً في الواقع، وأضع الفرضيات، ثم أختبرها لأصل إلى الأسباب والنتائج، ثم أقوم بتحليل المعطيات إحصائيا ودلاليا،لأخرج في الأخير بحلول وتوصيات، وقد أصل إلى قواعد ومعادلات تصلح للتعميم. وتتم تلك الإجراءات المنهجية دون أي تطرّف أو انتقاء، هناك أمانة علمية موجّهة لعملي البحثي، وهناك روحٌ وطنية مؤطرة، وإيمان بالثوابت الدينية والوطنية الجامعة للأمة المغربية، وإحساس بالمسؤولية التاريخية والإنسانية.إنني أعتقد أن الباحث أو العالِم يجب أن يقول كلمته في قضايا عصره ومجتمعه، وأن لا يصمت عن المغالطات، أو يصفّق للتفاهات، شريطة أن يكون قوله حكيماً ومعزّزا بالدليل والبرهان وبالبيان والتفصيل، فلا يُضيِّق واسعاً، ولا يعطي لموضوع ما أكثر من حجمه، ولا يجادل في المباح، وإنما يراعي الاختلاف،بل يبذل جهده لفهم وجهة نظر المخالفين، هناك دائما حقيقة ما، في مكان ما، تقتضي للوصول إليها صبراً ونفساً طويلاً، وقد لا يصل الإنسان إلى بعض الحقائق إلا على ألسنة مخالفيه، فلا تكون آذانه صماء، وينكر الحق بعد إذ جاءه، ولذلك أُدرِكُ هذه العوامل المؤثرة في وجهة نظر الباحثين، والتي إما تؤسِّس العمل الإنساني المشترك، أو تبني الجدار العازل، عندما تختار الانزواء أو الانسحاب.لا بد من مواجهة الواقع، والتفكير في المشكلات المطروحة، بجرأة وعقلانية، وبحكمة وصبر، وإبداع وتأصيل، مع الثبات على المبادئ والقيم، وحفظ مقامات الناس، وهذه رسالة العَالِم الباحث.
ولعل هذه الرؤية هي التي وجّهَت كتابي الموسوم بــ "التسامح بين الأديان من منظور الدبلوماسية الروحية"، الذي انطلقت فيه من المشترك الروحي الإنساني، محاولاً البحث عن منطقة أمنٍ أو كلمةٍ سواءٍ، يجتمع الناس حولها، بغض النظر عن دياناتهم وثقافاتهم، فموضوع الحوار بين الأديان فرض نفسه في العقود الأخيرة، مع تنامي ظاهرة التطرف الديني، فكان لابد لي من الإدلاء بوجهة نظري، والتي لا تسمح المقالات المختصرة بتفصيل القول فيها، فاحتاج الموضوع إلى تأليف كتاب مستقل، وهذه هي طريقة العلماء القدماء، في تناول المشكلات أو الجواب عن أسئلة الطلاب، كانوا يقدّمون الإجابات على شكل الكتب والمجلدات، فيتقدم العلم وتزدهر المعرفة، ولكن في وقتنا الحاضر، البعض يدلي برأيه عبر جمل قصيرة،أو فقرات متناثرة، ينشرها في مواقع التواصل الاجتماعي،لا تزيد الموضوع إلا تشتيتاً وتضييعاً، وقد تشْغَلُ الناسَ وتفتحُ أبواب التأويل والرّدود التي لا تقدّم شيئاً، وإنما تؤخر التفكير العميق وتؤجّل البحث الجاد، في حين يُعبِّرُ العلماء في الأمم الأخرى بتأليف الكتب وإبداع المشاريع الفكرية التي تتصدى للظواهر المدروسة، فتستوفي كل المباحث والمطالب العلمية من كل جهات الموضوع، ويكون للبحث تطبيقات مفيدة، وآثار واضحة في الواقع.
إنَّ رؤيتي النقدية لم تكن متأثرةً بأيّ سياسة، كما لا تستجيبُ لأيّ صيحةٍ، بل هي سياسةٌ نقديةٌ في حد ذاتها،قابلة للتداول والاستثمار، لها تأثيراتها، وتطبيقاتها،ولعل من الباحثين الذين يطّلعون على ما أكتب، يجدون الكثير من الرؤى المُلهِمة لهم في مشاريع بحوثهم، واتجاهات اهتمامهم، وهو ما يفسر الإقبال على كتابي: التسامح بين الأديان من منظور الدبلوماسية الروحية، والذي نال جائزة الشيخ المختار الكنتي في أبريل 2019، وحاليا ستصدر له ترجمة إلى الإنجليزية والفرنسية، كما أني بصدد إعداد جزء آخر يكمّل موضوع الكتاب ويتعلق أساساً برصد آثار زيارة بابا الفاتيكان للدول الإسلامية، وأيضا تفاعل المنطقة العربية وخاصة التيارات الصوفية والدينية مع جائحة كورونا (كوفيد 19).
10 – سؤال:
دكتور ما هي المواصفات التي يجب توفرها في العمل الإبداعي ليجد صداه عند النقاد؟
جواب:
إنَّ العمل الإبداعي ليكون مؤثراً في الواقع، ويجدُ صدىً لدى القراء والنقاد، ينبغي أن يخضع لجملة من المواصفات، يمكن تلخيصها في نقاطٍ ثلاث: أولاً أن يكون عملا خالصاً، لا يشبه عملا سابقاً، أي منتوجاً أصيلاً، تظهر فيه شخصية المبدع، ويُبهِرُ القراء بلغته وموضوعه ومحتواه، وبالطبع مثل هذه الأعمال تحظى بأولوية القراءة، وتنال التقدير، فهي تتحدث عن نفسها بنفسها، ولا يحتاج المبدع إلى أيّ تدخل للتوضيح أو التشويق للقراءة والتحفيز، عمله يؤدي هذه المهمة.
ثانيا، أن يكون عملا يطرح أسئلة حقيقية، فالأسئلة أحياناً هي الأجوبة، وكلما كان السؤال سليماً كلما كانت الإجابة صائبة، لأن مشكلتنا اليوم تكمن في الأسئلة الخاطئة، والتي ينتج عنها بالضرورة أجوبة خاطئة، فيضيع الجهد ويتشتت الانتباه ويغيب التركيز على الأهم، ويجد المرء نفسه غارقاً في جزئيات وتفاصيل بعيدة عن العمق والجوهر والأساس.
ثم ثالثا، أن تكون صياغة العمل الإبداعي بلغة إبداعية أنيقة وجميلة، فاليوم انحسار القراءة، في بعض أسبابه الخفيّة غياب النصوص الجميلة التي تأسر اهتمام المتلقي وتستحوذ على انتباهه، وتدفعه للقراءة، لكن النصوص الجافة أو العقيمة، لا تلد إلا نفوراً من الكِتاب، فكلما كان الأسلوب اللغوي جذاباً ورائعاً كلما استطاع أن يعزف بذكاء على أنغام الإمتاع والإقناع، وينقل المتلقي من واقع القبح إلى عالم الجمال، فيُحَسِّنَ ذوقه ويربي لديه الإحساس بالتنظيم الجميل، وهنا سيؤدي الأدب دوره كاملا في التربية، وفي التعليم وفي صناعة واقع جديد.
تلك بعض المواصفات العامة، التي أراها تمثل جوهر العمل الإبداعي و روحه التي لو جرّدته منها، أصبح مجرد جثة هامدة لا حياة فيها.
أما المعايير الأخرى التي تُحسّن جودة العمل الأدبي فتبقى من باب الزينة والفضل الذي يزيد النص أناقة، غير أن التفريط في روح العمل الإبداعي يُخرِجُ نصوصاً ميتةً، فلا يتمكن النقد من إحيائها، ولا يقدر القارئ على إتمام قراءتها، والحديث عنها قد تغلب عليه المجاملات فقط، فهي نصوص مشوّهة، ما دامت لا تحمل في طياتها قلباً ينبض بالحياة، وسرعان ما تُطوى وتُنسى.إننا نجد بعض النصوص تُقرأ وتعاد قراءتها مراراً على الرغم من مرور سنوات أو قرون على إنتاجها، ومع ذلك بقيت حية يتداولها الناس، فهي روائع أدبية صارت عالمية، بما تحمله من نزعة إنسانية عميقة، وما تطرحه من أسئلة دقيقة، وصيغت بأسلوب لغوي بديع، سهل وجميل، وكأنها معزوفة موسيقية خالدة، عابرة للأزمنة والثقافات واللغات.
11 - - سؤال:
ما هو تقييمكم للحركة الثقافية المغربية؟
جواب:
تعرفُ الحركة الثقافية في المغرب تطوراً متزايداً، ونهضة فكرية وإبداعية لا يمكن إنكارها،والحديث عن بعض مظاهرها يمكن أن يتم من خلال زاويتين: الأولى مكانة المثقفين المغاربة، والثانية جهود الدولة المغربية في الاستثمار الثقافي.
أما مكانة المثقفين المغاربة، فهم يحتلون موقعاً رفيعاً ضمن مفكري ومبدعي العالم، شهد لهم بالكفاءة العديد من المؤسسات العلمية خارج المغرب، ومن تجليات هذا الاعتراف حصول بعض الكُتّاب والأدباء المغاربة على جوائز عالمية، ووصول مؤلفاتهم إلى القوائم القصيرة في بعض الجوائز الأخرى، إلى جانب الكتابة بأكثر من لغة، وفي مجالات مختلفة، وأيضاً عضوية لجان التحكيم في مجلات ومؤتمرات، والإقبال على الكتاب المغربي في جميع معارض الكتاب الدولي.
وبالنسبة لجهود الدولة المغربية في الاستثمار الثقافي، نلحظ تزايد الاهتمام بالحياة الفكرية والثقافية من خلال دعم وزارة الثقافة للنشر والكتاب، وإحياء بعض المجلات المغربية الرائدة مثل "المناهل"، وإحداث مجلات جديدة مثل "اقرأ"، ودعم مبادرات تشجيع القراءة والمسابقات الثقافية والجوائز، وتنظيم مجموعة من الندوات والمؤتمرات، واللقاءات الدراسية، وتنظيم معارض جهوية للكتاب إلى جانب تعزيز البنية الثقافية التحتية بمواصفات الجودة العالمية؛ مثل بناء بعض المسارح الكبرى والمتاحف وقاعات العروض والمؤتمرات ومراكز الاستقبال، في عدد من المدن المغربية، فضلا عن إنشاء المكتبات ودُور الثقافة والشباب، وعقد شراكات للتبادل الثقافي مع عدد من الدول والمؤسسات، وغير ذلك من الجهود، التي تروم تنشيط الحركة الفكرية والأدبية في المغرب وتثمين المنتج الثقافي المغربي.
ويُضاف إلى هذه الحصيلة، ما يبذله جلالة الملك محمد السادس نصره الله، من جهود كبيرة في ترسيخ أعراف جديدة في العمل الثقافي، وخاصة الدبلوماسية الموازية الثقافية والتي شهدت ازدهاراً، بفضل المبادرات الملكية، وخاصة تأسيس جلالته لعدد من المؤسسات الأكاديمية والعلمية والتواصلية والاستشارية، والتي يدخل ضمن اختصاصاتها تنمية البحث العلمي ببلادنا، وتحسين أنماط التواصل الثقافي وطنياً ودولياً، فكان من نتائجها إصدار عدد هائل من المؤلفات العلمية والثقافية رفيعة المستوى، قد أسهمت في الارتقاء بجودة المنشورات المغربية، إلى جانب مبادرات جلالته في تكريم العلماء والمثقفين والأدباء، وإطلاق بعض الجوائز، وغير ذلك من الجهود الملكية السامية في إغناء وتنشيط الحياة الثقافية المغربية.
هناك أيضا جهود الجامعات المغربية، في الارتقاء بمعايير البحث العلمي والثقافي، فقد تزايد عدد المختبرات العلمية، ووحدات التكوين والبحث، وارتفع الإنتاج العلمي للباحثين والأكاديميين المغاربة، مما بوّأ الجامعة المغربية مكانة مرموقة بين الجامعات العالمية.
وأخيراً، لابد من الاعتراف أيضاً ببعض المبادرات الفردية التي يقوم بها العديد من الأدباء والعلماء المغاربة، وخاصة تأسيس الجمعيات الثقافية، وخلق الأندية الفكرية والمقاهي الأدبية،وإطلاق بعض المجلات، وأيضا إصدار الكتب، وطبعها على نفقة خاصة ودون أي دعم، وأيضا توظيف علاقاتهم العلمية مع بعض المؤسسات الثقافية العالمية الرائدة في النشر والتوزيع، من أجل طبع بعض المؤلفات والكتب الجماعية، الشيء الذي انعكس إيجاباً على الحياة الثقافية في المغرب، وخارجه.
إن الحركة الثقافية في المغرب، على الرغم من الحصيلة المشرّفة، والجهود القيمة التي تُبذل، إلا أنها جهود تحتاج للمزيد من الدعم والاهتمام والتقدير، وخاصة الاستثمار في الثقافة، الذي مازال في بداياته، ويحتاج للكثير من العمل المتواصل، سواء من خلال التنظير له أو التأسيس القانوني، في أفق خلق اقتصاد ثقافي تضامني، مواطن ومستدام، يُحقّق الاكتفاء الذاتي من المنتج الثقافي في مختلف أبعاده وتجلياته ومستوياته، وأيضا يُوجَّهُ للتسويق والتصدير، ويكون مصدراً من مصادر إغناء ليس الهوية الوطنية فحسب، ولكن أيضا إغناء الخزينة العامة للمملكة بموارد مالية إضافية.
12 - - سؤال:
قد يكون هناك سؤال أو أكثر تودون الخوض فيه والإجابة عنه، ولكنني لم أتطرق له، أرجو أن تضعوا السؤال وتتفضلوا بالإجابة عنه؟ شكرا لكم أستاذي الفاضل، وفقكم الله في مسيرتكم.
جواب:
لعل السؤال الذي كنتُ أتوقّعه أو أنتظره، هو حول أعمالي الثقافية القادمة، فقد تحدّثتُ عن المُنجَز، وبقي المأمول والمنتَظَر، هناك مقولة تتواتر بين المثقفين، مفادها أنَّ أفضل أعمالهم تلك التي لم تُنجَز بعدُ، وهي مقولة تعكس عدم الرضا عن المُنجَز، وتعني أن الطموح ينبغي أن يكون أكبر، والأمل أوسع، في إنتاج ما يفيد أكثر، وما يشكّل نقطة تحوّل أقوى في مسار الكاتب والقارئ أيضاً، هناك دائما حلمٌ عند الكاتب أن يبدع عملا يحقّق البقاء لمدة أطول، فالكتب والمؤلفات التي تصدر كل يوم كثيرة، ولكن بعض العناوين هي التي تحظى بالانتشار والإقبال، وتجد لدى القراء صدىً واسعاً، فيُعاد طباعتها مرات عديدة، وقد تتجاوز الاستفادة منها قرونا طويلا، مَنْ يستطيعُ اليوم أن يقفز على مقدمة ابن خلدون؟ أو حتى بعض الروائع العالمية، في الثقافات الأخرى؟ إنه لا أحد يستطيع إنكار أهمية بعض الكتب في بناء ثقافة الإنسان، في كل زمان ومكان، هي أعمالٌ خالدة، لأنها تؤسس للجديد، وشكّل تأليفها نقطة تحوّل في بعض العلوم، واتسمت بجرأة، وسبقٍ علمي، وخلقت نقاشاً، بما تضمّنته من أسئلة، ومن احتمالات، وبعضها دفع المؤلف ثمن جرأته وخرقه للمألوف، من دمه وحريته، إن الكتابة والتأليف وفق هذا المنظور، مغامرة حقيقية، إذ لا يعرفُ الكاتبُ أثرَ عمله، ومدى تأثيره، أو تكون معرفته محدودة جداً، لأنَّ بعض الأعمال العلمية والأدبية لا تُعرَفُ قيمتها إلا بعد رحيل المؤلف، أو بعد قرون من الزمن، وكأن كاتبها عاش في عصر سابق لأوانه، أو أنه كتب لجيل غير جيله، وهذا يعني أنَّ الاعتراف غالباً ما يأتي في وقت متأخر، أو بعد فوات الأوان، ولكن العلمَ ينفع حيثما أثمر وأينع، وهذه الفكرة هي عزاء المؤلف، ويعني ذلك أيضاً أن الأولوية، أو واجب الوقت، هو العملُ وليس النتيجة، ولذلك عندما يسألني البعض عن أعمالي القادمة، فأنا لا أنكر قيمة ما كتبتُ من مؤلفات سابقة، وأعتقد أن الاطلاع عليها مفيد في اكتشاف ما تحفل به من أسئلة، تلك الأسئلة هي ما أواصلُ الاشتغال به، في ما سيأتي من أعمال، ما صِلةُ الإنسان بالرحلة؟ ما الرحلة التي ينبغي أن يقوم بها قبل فوات الأوان؟ ما الأخلاق المُؤسِّسَة للهوية الإنسانية؟ وغير ذلك من التساؤلات التي لا تنتهي.
إنَّ مؤلفاتي القادمة، لن تكون غير محاولات أخرى لإعادة صياغة الأسئلة الكبرى، التي طرحها الإنسان منذ وُجِد على أرض البسيطة، ولكن، هل يعني ذلك: ليس في الإمكان أبدع مما كان، لو صدقَتْ هذه المقولة لما تغيّر العالَمُ، ولما تكرّرت المحاولات، فكل إنسان يولد يمثل أملاً جديداً للفهم.
حاورته المبدعة: أمنة برواضي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق