غريبي بوعلام
بركسة هي اسم الدولة الذي تدور فيه أحداث الرواية، عاصمتها بركوسة، اسم مشتق من كلمة (بركوكس ) كلمة عامية، تعني الكسكس الخشن، هي دولة متخيلة، لكن السرد الروائي يوحي أن الدولة المقصودة هي الجزائر،اشارات كثيرة تدل على ذلك، منها بعض الأحداث و التواريخ، و استعمال الكاتب في بعض حواراته اللغة العامية أو اللهجة الجزائرية.
أحداث الرواية متخيّلة في أرض متخيّلة، تروي قصة طويلة عما سيحدث في بركسة بعد أكثر من نصف قرن، سنة 2072 م، ذلك بعد نضوب الثروات الباطنية لبركسة، و جفاف أبار البترول و الغاز اللذان تعتمد عليهما سلطة بركسة الفاسدة في اقتصادها، فيثور عليها شعبها بعد وقوعها في أزمات طاحنة، فتكون هناك ثورة يطلق عليها الراوي ( حركة الخبزة )، هي حركة معارضة لتك السلطة الفاسدة التي أهلكت البلاد و العباد، بسوء تسيرها لشؤون الدولة و الرعية، باعتمادها فقط على تصدير البترول و الغاز اللذان جفا نبعهما، و عدم اعتمادها على اقتصاد زراعي و صناعي ينتجان الثروة.
حركة الخبزة أنشأها ( الطيب عامر) في البداية أرادها سلمية، لكن هناك من خرجوا عليه و حملوا السلاح للإطاحة بحاكم بركسة ( عبد السلام بلكروش ) فيتم القبض على الطيب عامر و زوجته الإيطالية فرانشيسكا و جعلهما في إقامة جبرية، فيأتي ابنهما الوحيد ( فوسطوا سليم عامر) ليبحث عنهما و يحاول اخراجهما من ذلك السجن، أما اشبوبي فهو الشخصية التي تتزعم الكفاح المسلّح ضد بلكروش رفقة جماعته المسلحة للقضاء على السلطة الفاسدة، و قد خصص الروائي جزءا كبيرا من روايته أين تحدث عن نشأته و كيف وصل إلى تلك المكانة، لهذه الرواية جزء ثاني عنوانه ( ليل القتلة ) يقص فيها الكاتب صراع اشبوبي ضد عبد السلام بلكروش، والجزء ثالث عنوانه ( حُرّاث البحر ) لهذا يمكن اعتبار هذه الرواية ثلاثية.
الرواية تاريخية سياسية و استشرافية بامتياز، ذات طابع ملحمي، حاول الروائي من خلالها أن يرى بعين خياله الخصب مستقبل بركسة ( الجزائر ) ذلك بالنظر إلى التاريخ، و استقراء الحاضر مع محاولة من خلالهما بلورة نظرة لمستقبل مبهم و غامض الأفق، كله استفهامات سوداء لجيل من أمة نصفها الأكبر كله شباب، كأن الراوي يريد أن يقول أن لا شيء سيتغيّر في المستقبل البعيد أو القريب، اذا ما بقي الحاضر كما هو الآن، اذا لم نزرع اليوم، ماذا سنحصد في الغد؟ مِن الوهم أن نحصد الجديد اذا زرعنا القديم، الروائي يحاول من خلال سرده الطويل أن يدق ناقوس الخطر، و ينبهنا للأخطار المستقبلية المحدقة بنا، التي ستكون من أسباب انكسارنا و محوا أثارنا من فوق الأرض، ذلك بعودتنا إلى الوراء بسنوات كثيرة، و قد عبّر عن ذلك بقوله ( التقدم إلى الوراء ).
اعتمد الكاتب كثيرا على خياله، من دون شك هو متأثر بذلك النوع من الأدب الاستشرافي الذي يهتم بالمستقبل، كما فعل الروائي واسيني الأعرج في روايته ( 2084 حكاية العربي الأخيرة ) و كذلك فعل الروائي صنصال بوعلام في روايته ( 2084 نهاية العالم ) و كما فعل قبلهما الروائي جورج أورويل في روايته (1984 ) التي نشرها سنة 1949.
تمكن الروائي من سرد روايته بالاعتماد على أحداث مضت، يوظفها في ذلك المستقبل كما يراه خياله الخصب، يوظفها بالتلميح و الاشارة، بحيث يدرك القارئ معناها بالإيحاء و الدوران حولها دون الذهاب إليها مباشرة، في أحيان أخرى بذكر تاريخ معين قريب من تلك الحادثة، و كأنه يلمح إلى أن ما حدث أو يحدث الان هو نفسه ما سيحدث في ذلك المستقبل المتخيل، لأن الأفكار هي نفسها و نفس الأشخاص و العباد، و ذريتهم هي التي ورثت السلطة أو الحكم بأساليب ملتوية مراوغة بتزوير الانتخابات و الدستور كما فعل بلكروش في ذلك الزمن، فيها اشارة إلى ما فعله الرئيس المخلوع منذ سنة، الذي عاب الدستور بقوله : كيف تمنعني من الكرسي بضع أوراق من الدستور لا تصلح إلا للاستنجاء في المرحاض، كل ذلك ليترشح لعهدة ثالثة، التي منعه منها الدستور الذي ينص على عهدتين فقط، فغيّره و جعل العهدات مفتوحة ليموت على كرسيه، لكن العاصفة الشعبية ( الحراك ) الحالية رمته في مزبلة التاريخ.
قبل اندلاع الثورة الجزائرية في 1954 كان حزب الشعب الجزائري الذي يتزعمه مصالي الحاج، ينادي بالسلمية مع فرنسا و يؤمن بالحوار الذي سيمكن الجزائر من نيل حريتها و استقلالها، لكن كان في حزبه من يرى وجوب حمل السلاح لطرد فرنسا من الجزائر، هو السبيل الوحيد للتحرر، لكن ذلك الزعيم رفض هذا الحل و أصر على السلمية و الحوار، عندها انشقت عنه جماعة و أنشأت ما يسمى ( جبهة التحرير الوطني ) التي خاضت الكفاح المسلح ضد فرنسا إلى الاستقلال، انها نفس القصة التي حدثت مع الطيب عامر الذي كان ينادي بالسلمية و الحوار للتحرر من تلك السلطة الفاسدة، لكن هناك من خرج عنه و نادى بالكفاح المسلح ( اشبوبي بولنوار ) لإسقاط نظام عبد السلام بلكروش، فخاض تلك الثورة الشرسة رفقة جماعته المسلحة، و كما فرض الرئيس الراحل ( بومدين ) اقامة جبرية على ( مصالي الحاج ) أقامها بلكروش مع الطيب عامر و زوجته، و كأن التاريخ يعيد نفسة بحذافره بأشخاص آخرين لكن بنفس الفكر و نفس القمع و الدكتاتورية، لهذا يرى الروائي المستقبل بتلك النظرة السودوية، لأن ليس هناك تغيير لا في الفكر و لا في الذهنيات، زد على ذلك جفاف أبار النفط و الغاز، و رغبة تلك السلطة الفاسدة البقاء على كرسي الحكم بنفس تلك الأفكار البالية رغم مرور أكثر من قرن على استقلال بركسة، و هناك اشارات كثيرة لبعض زعماء الثورة الجزائرية بالتلميح للاسم بحذف حرف منه و اضافة حرف أخر له، كذلك ذكر أسماء مناطق معينة و معروفة، بتغيير قليلا من اسمها الحقيقي، لأن الفضاء فضاء تخيلي فيه الكثير من التمويه مع التلميح لبعض الأحداث التي وقعت في تاريخ بركسة و ستعيد نفسها في المستقبل، هكذا تمكن الروائي من مزج الواقعية بالكثير من خياله الذي جمح به إلى المستقبل دون أن يفصله عن الواقع أو الحقيقة، و تمكن من القفز من الماضي إلى المستقبل بأسلوبه الروائي العجيب بسرد الحدث تارة، وذكر بعض التواريخ تارة أخرى، كما أشار إلى بعض سلوكات ( حركة الخبزة ) التي تشبه كثيرا ما كان يقوم به الحزب الإسلامي المنحل من قطع الرؤوس و تشويه الأجساد و غيرها، و من جهة أخرى هناك تشابه الكثير من سلوكات السلطة الفاسدة في الماضي و الحاضر و المستقبل بما كانت تقوم به فرنسا ضد الشعب البركسي، لم يذكر هذا مباشرة بل نلمسه من خلال سرده الإيحائي الذي يضمر حقائق مروعة حدثت و ستحدث.
لم يذكر كثيرا التيار الإسلامي إلا قليلا، ذكره بسم (جماعة نور الله) التي لم يكن لها الدور الكبير في ذلك الفضاء المتخيّل، إلا قوله أن بلكروش استعملها لضرب حركة الخبزة، بعد أن دعمها بالأموال و السلاح، هذا رغم ما أحدثه التيار الإسلامي في تاريخ بركسة و هو ما زال متمسّك بمشروعه الإسلامي الذي لم يتنازل عنه، بل يتحين الفرصة السانحة للعودة و بقوة في المستقبل البعيد أو القريب، رغم حزبه المنحل، في الرواية الثالثة ( حُراث البحر ) لم يذكر الروائي نهاية ذلك الحزب الإسلامي بعد أن قتل اشبوبي بولنوار عبد السلام بلكروش.
العنوان حاول أن يشمل الفكرة الرئيسية للرواية، بذكر كلمة ( الغربان ) و ما تحمله من إيحاء للتشاؤم و لسواد ريش الغراب؛ الروائي متشائم جدا من مستقبل بركسة، اذا لم يحدث التغيير الايجابي الان لنحصد ثماره في المستقبل، و يدعو بطريقة غير مباشرة إلى الاقتداء بدول أحدثت قفزة نوعية في نهضتها الاقتصادية في فترة وجيزة لم تتجاوز عشر سنوات، و هي لا تملك ثروات باطنية في ترابها، ذلك باعتمادها على ثروة عقول شعوبها الجبارة الخلاقة، و نلاحظ جيدا تأثر الروائي بما حدث في بعض الدول العربية مثل سوريا العراق و خاصة ليبيا ( الربيع العربي )، و كيف تدخّلت دول أجنبية للإطاحة بالرؤساء، كذلك فعلت حركة الخبزة بعد أن دعمتها دول غربية في إسقاط حكم عبد السلام بلكروش، و بعد انتصار اشبوبي و جلوسه عل كرسي الحكم، يصير دكتاتورا جديدا، يقتل الزعماء الخمسة الذين قادوا معه الثورة إلى النصر، يذكرنا هذا بمقولة: الثورة التي تأكل أولادها، التي فيها تلميح لِمَا حدث أثناء الثورة التحريرية و عند الاستقلال من تصفيات جسدية لكثير من زعماء الثورة الحقيقين، كان الروائي بارع جدا في كيفية ادراج أحداث تاريخية مفصلية من الثورة في ذلك المستقبل المتخيل بأسلوبه الإيحائي التلميحي.
ترى ماذا سيقول القارئ ( ربما لم يُولد بعد ) الذي سيقرأ هذه الرواية في ذلك المستقبل البعيد ؟ هل سيقول أن الروائي قد بالغ؟ أو كان على صواب، خاصة بعد استلاء اشبوبي بولنوار على كرسي السلطة، و بركسة محطمة من جميع النواحي و جوف التراب فارغ من الثروات الطبيعية و النظام نظام دكتاتوري قمعي، الروائي يدعوا القارئ للإجابة على السؤال باستعمال خياله كما استعمله هو.
السرد الروائي ممتع و جذاب، أسلوب المشوق يخترق بسهولة وجدان القارئ، يثير فيه شهية القراءة و الرغبة في المزيد من المطالعة بنهم، و البحث عن روايات أخرى لنفس الروائي، سرد يُحدث في الوجدان تقلبات و وخزات عاطفية تلفت انتباه القارئ، و تجعله ينتظر بشوق كبير ما سيذكره و يقصه الروائي من أحداث جديدة، تجدّد و تأجّج مشاعره و تشحن عاطفته، و قد اهتم الروائي كثيرا بلغته السردية، أعطاها حقها في التعبير الجميل و حسن الصياغة الراقية، مما يدل على تمكنه من أدواته الإبداعية الروائية و حسن استعمالها، و له باع طويل في عالم الرواية الساحر، استعمل كثيرا الوصف الجميل و مفصّل لمناظر طبيعية خلابة متخيلة و كأنها حقيقة، تنطبع على شاشة مخيلة القارئ، نجد هذا كثيرا عند بداية فصل جديد من الرواية كمقدمة لِما سيسرده من أحداث و وقائع، كما اهتم بالوصف الدقيق لبعض الأحداث التي تجعل القارئ يعيش تلك اللحظات بوجدانه و ينفعل بها و كأنها فعلا وقعت و هي محض خيال.
ما يلفت كثيرا انتباه القارئ، هي تلك التشبيهات الجميلة التي استعملها الروائي بكثير من الذكاء في حسن صياغتها، تشبيه طويل نسبيا، يصيغه في جملة أو جملتين و ذلك باللعب على أركان التشبيه المعروفة ( وجه الشبه، المشبه، المشبه به ) دون حذف أداة التشبيه، الجميل أنه استعملها كثيرا في سرده و نوّعها و جعل لها صياغات مختلفة عن التشبيهات المعروفة، بل هناك تشبيهات لم نقرأها من قبل .
كما استعمل بعض الكلمات من اللهجة الجزائرية، خاصة في الحوار، و لم يكثر منها، كي لا يفسد جمال الرواية، و خوفا من أن لا يدرك معانيها من سيقرأ هذه الرواية من عرب المشرق، و استعمل كلمة ( أرقاز ) أو( أرقازية ) كررها مرات قليلة، و هي كلمة قبائلية تعني الرجل، ليضفي على الرواية البُعد الأمازيغي لبركسة، و جعل في أسفل بعض صفحات الرواية هوامش شرح فيها بعض تلك الكلمات العامية.
في الثلاثية أحداث كثيرة، ذكرت بعضها، و أترك للقارئ متعة قراءتها و الغوص في معانيها الخفية و استكشاف الرسائل الخفية التي تحملها.
----------
غريبي بوعلام / الجزائر.
بركسة هي اسم الدولة الذي تدور فيه أحداث الرواية، عاصمتها بركوسة، اسم مشتق من كلمة (بركوكس ) كلمة عامية، تعني الكسكس الخشن، هي دولة متخيلة، لكن السرد الروائي يوحي أن الدولة المقصودة هي الجزائر،اشارات كثيرة تدل على ذلك، منها بعض الأحداث و التواريخ، و استعمال الكاتب في بعض حواراته اللغة العامية أو اللهجة الجزائرية.
أحداث الرواية متخيّلة في أرض متخيّلة، تروي قصة طويلة عما سيحدث في بركسة بعد أكثر من نصف قرن، سنة 2072 م، ذلك بعد نضوب الثروات الباطنية لبركسة، و جفاف أبار البترول و الغاز اللذان تعتمد عليهما سلطة بركسة الفاسدة في اقتصادها، فيثور عليها شعبها بعد وقوعها في أزمات طاحنة، فتكون هناك ثورة يطلق عليها الراوي ( حركة الخبزة )، هي حركة معارضة لتك السلطة الفاسدة التي أهلكت البلاد و العباد، بسوء تسيرها لشؤون الدولة و الرعية، باعتمادها فقط على تصدير البترول و الغاز اللذان جفا نبعهما، و عدم اعتمادها على اقتصاد زراعي و صناعي ينتجان الثروة.
حركة الخبزة أنشأها ( الطيب عامر) في البداية أرادها سلمية، لكن هناك من خرجوا عليه و حملوا السلاح للإطاحة بحاكم بركسة ( عبد السلام بلكروش ) فيتم القبض على الطيب عامر و زوجته الإيطالية فرانشيسكا و جعلهما في إقامة جبرية، فيأتي ابنهما الوحيد ( فوسطوا سليم عامر) ليبحث عنهما و يحاول اخراجهما من ذلك السجن، أما اشبوبي فهو الشخصية التي تتزعم الكفاح المسلّح ضد بلكروش رفقة جماعته المسلحة للقضاء على السلطة الفاسدة، و قد خصص الروائي جزءا كبيرا من روايته أين تحدث عن نشأته و كيف وصل إلى تلك المكانة، لهذه الرواية جزء ثاني عنوانه ( ليل القتلة ) يقص فيها الكاتب صراع اشبوبي ضد عبد السلام بلكروش، والجزء ثالث عنوانه ( حُرّاث البحر ) لهذا يمكن اعتبار هذه الرواية ثلاثية.
الرواية تاريخية سياسية و استشرافية بامتياز، ذات طابع ملحمي، حاول الروائي من خلالها أن يرى بعين خياله الخصب مستقبل بركسة ( الجزائر ) ذلك بالنظر إلى التاريخ، و استقراء الحاضر مع محاولة من خلالهما بلورة نظرة لمستقبل مبهم و غامض الأفق، كله استفهامات سوداء لجيل من أمة نصفها الأكبر كله شباب، كأن الراوي يريد أن يقول أن لا شيء سيتغيّر في المستقبل البعيد أو القريب، اذا ما بقي الحاضر كما هو الآن، اذا لم نزرع اليوم، ماذا سنحصد في الغد؟ مِن الوهم أن نحصد الجديد اذا زرعنا القديم، الروائي يحاول من خلال سرده الطويل أن يدق ناقوس الخطر، و ينبهنا للأخطار المستقبلية المحدقة بنا، التي ستكون من أسباب انكسارنا و محوا أثارنا من فوق الأرض، ذلك بعودتنا إلى الوراء بسنوات كثيرة، و قد عبّر عن ذلك بقوله ( التقدم إلى الوراء ).
اعتمد الكاتب كثيرا على خياله، من دون شك هو متأثر بذلك النوع من الأدب الاستشرافي الذي يهتم بالمستقبل، كما فعل الروائي واسيني الأعرج في روايته ( 2084 حكاية العربي الأخيرة ) و كذلك فعل الروائي صنصال بوعلام في روايته ( 2084 نهاية العالم ) و كما فعل قبلهما الروائي جورج أورويل في روايته (1984 ) التي نشرها سنة 1949.
تمكن الروائي من سرد روايته بالاعتماد على أحداث مضت، يوظفها في ذلك المستقبل كما يراه خياله الخصب، يوظفها بالتلميح و الاشارة، بحيث يدرك القارئ معناها بالإيحاء و الدوران حولها دون الذهاب إليها مباشرة، في أحيان أخرى بذكر تاريخ معين قريب من تلك الحادثة، و كأنه يلمح إلى أن ما حدث أو يحدث الان هو نفسه ما سيحدث في ذلك المستقبل المتخيل، لأن الأفكار هي نفسها و نفس الأشخاص و العباد، و ذريتهم هي التي ورثت السلطة أو الحكم بأساليب ملتوية مراوغة بتزوير الانتخابات و الدستور كما فعل بلكروش في ذلك الزمن، فيها اشارة إلى ما فعله الرئيس المخلوع منذ سنة، الذي عاب الدستور بقوله : كيف تمنعني من الكرسي بضع أوراق من الدستور لا تصلح إلا للاستنجاء في المرحاض، كل ذلك ليترشح لعهدة ثالثة، التي منعه منها الدستور الذي ينص على عهدتين فقط، فغيّره و جعل العهدات مفتوحة ليموت على كرسيه، لكن العاصفة الشعبية ( الحراك ) الحالية رمته في مزبلة التاريخ.
قبل اندلاع الثورة الجزائرية في 1954 كان حزب الشعب الجزائري الذي يتزعمه مصالي الحاج، ينادي بالسلمية مع فرنسا و يؤمن بالحوار الذي سيمكن الجزائر من نيل حريتها و استقلالها، لكن كان في حزبه من يرى وجوب حمل السلاح لطرد فرنسا من الجزائر، هو السبيل الوحيد للتحرر، لكن ذلك الزعيم رفض هذا الحل و أصر على السلمية و الحوار، عندها انشقت عنه جماعة و أنشأت ما يسمى ( جبهة التحرير الوطني ) التي خاضت الكفاح المسلح ضد فرنسا إلى الاستقلال، انها نفس القصة التي حدثت مع الطيب عامر الذي كان ينادي بالسلمية و الحوار للتحرر من تلك السلطة الفاسدة، لكن هناك من خرج عنه و نادى بالكفاح المسلح ( اشبوبي بولنوار ) لإسقاط نظام عبد السلام بلكروش، فخاض تلك الثورة الشرسة رفقة جماعته المسلحة، و كما فرض الرئيس الراحل ( بومدين ) اقامة جبرية على ( مصالي الحاج ) أقامها بلكروش مع الطيب عامر و زوجته، و كأن التاريخ يعيد نفسة بحذافره بأشخاص آخرين لكن بنفس الفكر و نفس القمع و الدكتاتورية، لهذا يرى الروائي المستقبل بتلك النظرة السودوية، لأن ليس هناك تغيير لا في الفكر و لا في الذهنيات، زد على ذلك جفاف أبار النفط و الغاز، و رغبة تلك السلطة الفاسدة البقاء على كرسي الحكم بنفس تلك الأفكار البالية رغم مرور أكثر من قرن على استقلال بركسة، و هناك اشارات كثيرة لبعض زعماء الثورة الجزائرية بالتلميح للاسم بحذف حرف منه و اضافة حرف أخر له، كذلك ذكر أسماء مناطق معينة و معروفة، بتغيير قليلا من اسمها الحقيقي، لأن الفضاء فضاء تخيلي فيه الكثير من التمويه مع التلميح لبعض الأحداث التي وقعت في تاريخ بركسة و ستعيد نفسها في المستقبل، هكذا تمكن الروائي من مزج الواقعية بالكثير من خياله الذي جمح به إلى المستقبل دون أن يفصله عن الواقع أو الحقيقة، و تمكن من القفز من الماضي إلى المستقبل بأسلوبه الروائي العجيب بسرد الحدث تارة، وذكر بعض التواريخ تارة أخرى، كما أشار إلى بعض سلوكات ( حركة الخبزة ) التي تشبه كثيرا ما كان يقوم به الحزب الإسلامي المنحل من قطع الرؤوس و تشويه الأجساد و غيرها، و من جهة أخرى هناك تشابه الكثير من سلوكات السلطة الفاسدة في الماضي و الحاضر و المستقبل بما كانت تقوم به فرنسا ضد الشعب البركسي، لم يذكر هذا مباشرة بل نلمسه من خلال سرده الإيحائي الذي يضمر حقائق مروعة حدثت و ستحدث.
لم يذكر كثيرا التيار الإسلامي إلا قليلا، ذكره بسم (جماعة نور الله) التي لم يكن لها الدور الكبير في ذلك الفضاء المتخيّل، إلا قوله أن بلكروش استعملها لضرب حركة الخبزة، بعد أن دعمها بالأموال و السلاح، هذا رغم ما أحدثه التيار الإسلامي في تاريخ بركسة و هو ما زال متمسّك بمشروعه الإسلامي الذي لم يتنازل عنه، بل يتحين الفرصة السانحة للعودة و بقوة في المستقبل البعيد أو القريب، رغم حزبه المنحل، في الرواية الثالثة ( حُراث البحر ) لم يذكر الروائي نهاية ذلك الحزب الإسلامي بعد أن قتل اشبوبي بولنوار عبد السلام بلكروش.
العنوان حاول أن يشمل الفكرة الرئيسية للرواية، بذكر كلمة ( الغربان ) و ما تحمله من إيحاء للتشاؤم و لسواد ريش الغراب؛ الروائي متشائم جدا من مستقبل بركسة، اذا لم يحدث التغيير الايجابي الان لنحصد ثماره في المستقبل، و يدعو بطريقة غير مباشرة إلى الاقتداء بدول أحدثت قفزة نوعية في نهضتها الاقتصادية في فترة وجيزة لم تتجاوز عشر سنوات، و هي لا تملك ثروات باطنية في ترابها، ذلك باعتمادها على ثروة عقول شعوبها الجبارة الخلاقة، و نلاحظ جيدا تأثر الروائي بما حدث في بعض الدول العربية مثل سوريا العراق و خاصة ليبيا ( الربيع العربي )، و كيف تدخّلت دول أجنبية للإطاحة بالرؤساء، كذلك فعلت حركة الخبزة بعد أن دعمتها دول غربية في إسقاط حكم عبد السلام بلكروش، و بعد انتصار اشبوبي و جلوسه عل كرسي الحكم، يصير دكتاتورا جديدا، يقتل الزعماء الخمسة الذين قادوا معه الثورة إلى النصر، يذكرنا هذا بمقولة: الثورة التي تأكل أولادها، التي فيها تلميح لِمَا حدث أثناء الثورة التحريرية و عند الاستقلال من تصفيات جسدية لكثير من زعماء الثورة الحقيقين، كان الروائي بارع جدا في كيفية ادراج أحداث تاريخية مفصلية من الثورة في ذلك المستقبل المتخيل بأسلوبه الإيحائي التلميحي.
ترى ماذا سيقول القارئ ( ربما لم يُولد بعد ) الذي سيقرأ هذه الرواية في ذلك المستقبل البعيد ؟ هل سيقول أن الروائي قد بالغ؟ أو كان على صواب، خاصة بعد استلاء اشبوبي بولنوار على كرسي السلطة، و بركسة محطمة من جميع النواحي و جوف التراب فارغ من الثروات الطبيعية و النظام نظام دكتاتوري قمعي، الروائي يدعوا القارئ للإجابة على السؤال باستعمال خياله كما استعمله هو.
السرد الروائي ممتع و جذاب، أسلوب المشوق يخترق بسهولة وجدان القارئ، يثير فيه شهية القراءة و الرغبة في المزيد من المطالعة بنهم، و البحث عن روايات أخرى لنفس الروائي، سرد يُحدث في الوجدان تقلبات و وخزات عاطفية تلفت انتباه القارئ، و تجعله ينتظر بشوق كبير ما سيذكره و يقصه الروائي من أحداث جديدة، تجدّد و تأجّج مشاعره و تشحن عاطفته، و قد اهتم الروائي كثيرا بلغته السردية، أعطاها حقها في التعبير الجميل و حسن الصياغة الراقية، مما يدل على تمكنه من أدواته الإبداعية الروائية و حسن استعمالها، و له باع طويل في عالم الرواية الساحر، استعمل كثيرا الوصف الجميل و مفصّل لمناظر طبيعية خلابة متخيلة و كأنها حقيقة، تنطبع على شاشة مخيلة القارئ، نجد هذا كثيرا عند بداية فصل جديد من الرواية كمقدمة لِما سيسرده من أحداث و وقائع، كما اهتم بالوصف الدقيق لبعض الأحداث التي تجعل القارئ يعيش تلك اللحظات بوجدانه و ينفعل بها و كأنها فعلا وقعت و هي محض خيال.
ما يلفت كثيرا انتباه القارئ، هي تلك التشبيهات الجميلة التي استعملها الروائي بكثير من الذكاء في حسن صياغتها، تشبيه طويل نسبيا، يصيغه في جملة أو جملتين و ذلك باللعب على أركان التشبيه المعروفة ( وجه الشبه، المشبه، المشبه به ) دون حذف أداة التشبيه، الجميل أنه استعملها كثيرا في سرده و نوّعها و جعل لها صياغات مختلفة عن التشبيهات المعروفة، بل هناك تشبيهات لم نقرأها من قبل .
كما استعمل بعض الكلمات من اللهجة الجزائرية، خاصة في الحوار، و لم يكثر منها، كي لا يفسد جمال الرواية، و خوفا من أن لا يدرك معانيها من سيقرأ هذه الرواية من عرب المشرق، و استعمل كلمة ( أرقاز ) أو( أرقازية ) كررها مرات قليلة، و هي كلمة قبائلية تعني الرجل، ليضفي على الرواية البُعد الأمازيغي لبركسة، و جعل في أسفل بعض صفحات الرواية هوامش شرح فيها بعض تلك الكلمات العامية.
في الثلاثية أحداث كثيرة، ذكرت بعضها، و أترك للقارئ متعة قراءتها و الغوص في معانيها الخفية و استكشاف الرسائل الخفية التي تحملها.
----------
غريبي بوعلام / الجزائر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق