بقلم الروائية أمنة برواضي
قبل الدخول إلى عالم " البكر " يلزمك التزود بمعجم من الأمثال العامية، لتعرف ما تحمله كل واحدة في طياتها من معاني.
يستهل القاص رضوان أحمد بن الشيخ المجموعة بقصة ( دَّها ودَّها )، العنوان يوحي لنا أن الأمر يتعلق بعرس مغربي في الأوساط الشعبية التي عادة ما تصدح حناجرها بهذه الأغنية علاوة على أن العريس تزوج من العروس وأخذها إلى بيته.
لكننا سنفاجئ بحفل عرس مغلف بلمسة ساخرة من الكاتب يستهلها بطريقة النصب التي احتال بها التاجر( عقرب) ليوقع والد العريس (العم علي) في ورطة يقايضه بزواج ابنه ( الطاهر) من ابنته (الشمطاء) ثمنا للخروج منها.
يسترسل القاص بعد ذلك في تصوير طقوس الزفاف، بدءا بدور تلك
( النكافة) التي تقوم بتسيير العروسين مثل دمى الكراكيز. والفرقة الموسيقية التي تنشد لهم، والتي كان لها الدور في استدعاء رجال الدرك للتدخل في الوقت المناسب قبل حدوث كارثة.
كان القاص بارعا في اختيار أسماء أسرة التاجر(عقرب) النصاب. زوجته (كُبْرا)، البنت (شمطاء). أسماء تليق بأفعالهم، ولها دلالة قوية على ما سيقدمون عليه.
في حين كان اختيار أسماء العائلة التي وقع عليها النصب؛ (العم علي) والد ( الطاهر)، البنت (فنون) خطيبة الطاهر كناية على جمالها وزوجة العم علي (طامو).
الكتابة عند القاص كانت مبنية على الموهبة والخبرة، واختياره لتوظيف الأمثال العامية وكلمات وجمل منها داخل النصوص لم يكن بمحض الصدفة أو لافتقاره إلى اللغة العربية الفصحى وأمثالها، ولكن لدورها في تبليغ الرسالة، وقوتها الدلالية.
على سبيل المثال لا الحصر:
قصة ( الكونجي):
الأستاذة أمينة برواضي |
مجموعة "البكر" مجموعة قصص قصيرة ذات ثراء سردي منغمس عميقا في الثقافة المغربية الشعبية.
تتألف المجموعة من ست قصص موزعة على 126 صفحة. وهي أول إصدار للقاص، وربما هذا كان وراء تسميتها (البكر) أي الأول.
قبل الدخول إلى عالم " البكر " يلزمك التزود بمعجم من الأمثال العامية، لتعرف ما تحمله كل واحدة في طياتها من معاني.
يستهل القاص رضوان أحمد بن الشيخ المجموعة بقصة ( دَّها ودَّها )، العنوان يوحي لنا أن الأمر يتعلق بعرس مغربي في الأوساط الشعبية التي عادة ما تصدح حناجرها بهذه الأغنية علاوة على أن العريس تزوج من العروس وأخذها إلى بيته.
لكننا سنفاجئ بحفل عرس مغلف بلمسة ساخرة من الكاتب يستهلها بطريقة النصب التي احتال بها التاجر( عقرب) ليوقع والد العريس (العم علي) في ورطة يقايضه بزواج ابنه ( الطاهر) من ابنته (الشمطاء) ثمنا للخروج منها.
يسترسل القاص بعد ذلك في تصوير طقوس الزفاف، بدءا بدور تلك
كان القاص بارعا في اختيار أسماء أسرة التاجر(عقرب) النصاب. زوجته (كُبْرا)، البنت (شمطاء). أسماء تليق بأفعالهم، ولها دلالة قوية على ما سيقدمون عليه.
في حين كان اختيار أسماء العائلة التي وقع عليها النصب؛ (العم علي) والد ( الطاهر)، البنت (فنون) خطيبة الطاهر كناية على جمالها وزوجة العم علي (طامو).
الكتابة عند القاص كانت مبنية على الموهبة والخبرة، واختياره لتوظيف الأمثال العامية وكلمات وجمل منها داخل النصوص لم يكن بمحض الصدفة أو لافتقاره إلى اللغة العربية الفصحى وأمثالها، ولكن لدورها في تبليغ الرسالة، وقوتها الدلالية.
على سبيل المثال لا الحصر:
غلاف المجموعة القصصية |
( وْرَّقْلو الْمَلاّسَة ) صفحة: 7
(إِلا تْفاهَمْنا نِكْتْبُ، باشْ إِلا دَّابْزْنا نَقْراوْا) ص: 8
(الِّي أَوَّله شرط آخره نور، والله دَارْ الغَفْلَة بين البايْعْ والشَّاري) ص: 9
( وَمْرِضْنا ما عَنْدو باسْ) ص: 11
(خاصُّو عْلى مَنْ يَخْوي لَمْزِوَدة) ص: 11
( شْرا الصْداعْ) ص: 11
( اللِّي تاتْشْطَحْ ما تا تْغَطّيشْ وْجَهْها) ص: 17
(هْبيلا وقالولْها زَغَرْتي) ص: 17
( غا بلَمْهَلْ تا يْتْكالْ بُودَنْجانْ) ص: 19
(اللَّهُمَّ الخُبْزْ البايَتْ ولا دْجاجْ اشْمايَتْ) ص: 27
...
كما لم يغفل توظيف أمثال باللغة العربية نجد على سبيل المثال:
" زاد الطين بلة " وردت مرتين في الصفحة: 9 و10
"وصل السيل الزبى" صفحة: 9
تنتهي القصة بانتصار الخير على الشر، ويخرج (عقرب) التاجر النصاب وأسرته من القبيلة ليعود لها السلم والسلام من جديد، ويحتفلوا في جو تسوده المحبة والتسامح بزفاف (الطاهر) على (فنون).
ما يميز قصص رضوان أحمد بن الشيخ تلك السخرية اللاذعة لنقد الواقع المرير، وانتصار الخير على الشر.
وهذا نجده يتكرر في جل قصص المجموعة؛ فهو يصور لنا الواقع، وفي نفس الوقت يرسم الطريق ويفسح المجال لأبطال قصصه للخروج من المأزق الذي وقعت فيه.
كما تعبر كتاباته عن الحس الإنساني لدى الكاتب، وعن غنى رصيده المعرفي واللغوي، اللغة العربية الموظفة جاءت قوية مما يؤكد أن استعماله للعامية جاء ليعطي قصصه بعدا آخر خاصة إذا عرفنا أن القاص يلتقط قصصه من ركام الحياة اليومية، ويكتب عن الطبقة الكادحة وما تتخبط فيه من بؤس.
وقد يكون تدوين مثل هذه الأمثال، وبهذه الكثافة خوف أن تطويها العولمة في مستقبل الأيام.
(إِلا تْفاهَمْنا نِكْتْبُ، باشْ إِلا دَّابْزْنا نَقْراوْا) ص: 8
(الِّي أَوَّله شرط آخره نور، والله دَارْ الغَفْلَة بين البايْعْ والشَّاري) ص: 9
( وَمْرِضْنا ما عَنْدو باسْ) ص: 11
(خاصُّو عْلى مَنْ يَخْوي لَمْزِوَدة) ص: 11
( شْرا الصْداعْ) ص: 11
( اللِّي تاتْشْطَحْ ما تا تْغَطّيشْ وْجَهْها) ص: 17
(هْبيلا وقالولْها زَغَرْتي) ص: 17
( غا بلَمْهَلْ تا يْتْكالْ بُودَنْجانْ) ص: 19
(اللَّهُمَّ الخُبْزْ البايَتْ ولا دْجاجْ اشْمايَتْ) ص: 27
...
كما لم يغفل توظيف أمثال باللغة العربية نجد على سبيل المثال:
" زاد الطين بلة " وردت مرتين في الصفحة: 9 و10
"وصل السيل الزبى" صفحة: 9
تنتهي القصة بانتصار الخير على الشر، ويخرج (عقرب) التاجر النصاب وأسرته من القبيلة ليعود لها السلم والسلام من جديد، ويحتفلوا في جو تسوده المحبة والتسامح بزفاف (الطاهر) على (فنون).
ما يميز قصص رضوان أحمد بن الشيخ تلك السخرية اللاذعة لنقد الواقع المرير، وانتصار الخير على الشر.
وهذا نجده يتكرر في جل قصص المجموعة؛ فهو يصور لنا الواقع، وفي نفس الوقت يرسم الطريق ويفسح المجال لأبطال قصصه للخروج من المأزق الذي وقعت فيه.
كما تعبر كتاباته عن الحس الإنساني لدى الكاتب، وعن غنى رصيده المعرفي واللغوي، اللغة العربية الموظفة جاءت قوية مما يؤكد أن استعماله للعامية جاء ليعطي قصصه بعدا آخر خاصة إذا عرفنا أن القاص يلتقط قصصه من ركام الحياة اليومية، ويكتب عن الطبقة الكادحة وما تتخبط فيه من بؤس.
وقد يكون تدوين مثل هذه الأمثال، وبهذه الكثافة خوف أن تطويها العولمة في مستقبل الأيام.
قصة ( الكونجي):
ثاني قصة في المجموعة عدد صفحاتها 23 وكما نعلم كونجي كلمة فرنسية بحروف عربية.
أطلق القاص خياله ليبدع لنا نصا لطيفا، عبرنا في أثره مسالك ضيقة ليصل بنا إلى أفق أرحب، ممتطيا في سفره متعة اللغة التي وظفها لنصل معه إلى مربط الفرس؛ حيث أراد لنا اكتشاف حقيقة ممارسة التجارة مستدلا على ذلك:
التجارة فيها تسعة أعشار الرزق ص 72
يستهل القصة بانتقاد لاذع من البطل للعمل في الإدارة كونه يشتغل عونا بإحدى الإدارات، ويصف الحياة بين الموظفين وما يملأها من (تبركيك) أي متابعة أحوال الآخر، و(لَحيسْ الكابة) بمعنى التّملق إلى الرؤساء.
يصور لنا كيف يسرع البطل في مغادرة مكان العمل، لما يعرفه من نفاق اجتماعي لأجل قضاء عطلته السنوية التي تصل مدتها أسبوع من الزمن في أماكن كان قد حددها من قبل.
كان متفائلا كونه يملك مبلغا محترما من المال، قضى شهورا من التقشف من أجل توفيره شأنه في ذلك شأن أي إنسان بسيط.
توقف بطلنا أمام فندق لتناول وجبة العشاء، كما فكر في قضاء ليلته هناك.
في مطعم الفندق يصادف مجموعة من اللصوص (الشّفارة) على حد تعبيره يعرف صورهم من الجرائد التي كان يحملها لرئيسه في العمل.
لكن سرعان ما يتلاشى حلم البطل عندما يفاجئ بكونه نسي محفظة نقوده في بذلة العمل لتأخذ القصة مسارا آخر، يبدأ بالهرب والتخلص من قبضة عمال الفندق الذين كانوا يطاردونه، وفراره عبر شاحنة لبيع الدلاح.
تشاء الصدفة أن تكون وجهة صاحب الشاحنة نفس وجهة البطل، بعدما حكى له قصته اقترح عليه العمل معه خلال هذا الأسبوع ليتمكن من تسديد الدين لصاحب المطعم.
وفعلا دخل معه السوق، وتعلم على يده كيف يكسب رزقه من التجارة.
لم ينس القاص أن يمرر لنا بين سطور هذه القصة فضل التجارة في كسب الرزق، وأيضا رد الدين إلى أهله حين عودته إلى الفندق، وكاد يلقي بنفسه بين أيدي من طارده سابقا من أجل إرجاع المال إلى صاحبه، وكيف أخبره المدير أن جماعة من (الشفارة) اغتنموا الفرصة تلك الليلة أثناء مطاردته وغادروا دون دفع ثمن الفاتورة. وختم بقوله: (الشفار تيبقا غا شفار). أي من يسرق مال الشعب لن يتأخر في السرقة متى أتيحت له الفرصة.
وكيف استقبل مديره في العمل وباقي الموظفين خبر استقالته، وتظاهرهم بالحزن على فراقه لولا تدخل المدير وحسم الأمر قائلا: (بارك من التبوحيط) بمعنى التظاهر بالحزن.
كما وظف في هذه القصة ما استقاه من ثقافتنا الدينية:
الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا ص 63
ما نقص مال من صدقة ص 68
القصة جاءت كغيرها من قصص المجموعة مشحونة برصيده المعرفي الذي استقاه من تجربته الغنية في الحياة، تلك التجربة التي لا ينضب نبعها.
ليرسل لنا رسالة أن من حق البسطاء من الناس أن يتمتعوا ولو بالقليل من الرخاء.
قصة السوق:
وهي القصة الرابعة في المجموعة تقع على امتداد تسع صفحات.
القصة تبدأ أحداثها عادية، البطل يرتدي بذلة وحذاء رياضيين استعدادا ليوم السوق لما يعرفه هذا الأخير من عناء التنقل من مكان إلى آخر لإقناء ما يلزمه.
لكن ما إن يصل البطل إلى باب السوق حتى يبدأ النقل الحي لإيقاع الحياة داخل فضاء السوق الأسبوعي الذي تعرفه جل المدن المغربية، وتلك المفردات المتداولة بين الباعة، وطريقة جذبهم للزبون.
استجابتْ لغة القاص لوصف كل صغيرة وكبيرة، وتفاعله معها واصفا إياها وصفا دقيقا بعين ناقدة حينا، وبنظرة ثاقبة للأشياء حينا آخر منبها القارئ المفترض لما يمكن أن يتعرض له عند قصد هذا المكان من نصب واحتيال كما حدث أثناء تأمله (للكورنة)، وهو المكان المخصص لذبح الأغنام. وهي أول ما يستقبل الزائر عند مدخل السوق مشيرا إلى أن الأمعاء رغم عدم صلاحيتها إلا أن الجزار لا يمكن أن يتخلص منها. لكنها سوف تستعمل لصنع النقانق ، التي ستكون من نصيب.(خوروطو) كلمة القصد بها حثالة القوم.
يعرج بنا إلى بائع (السفنج) والشاي، وهذا من مميزات السوق الأسبوعي لا يمكن تواجد هذا السوق من غير تلك الخيمة التي يحلو لمرتادي هذا المكان تناول فطورهم عنده.
وقد أخذ صاحبنا ثمان حبات، ولكي يبعد عنا الدهشة أشار إلى أن السوق يشبه يوم " الضالة" عند البنائين؛ وهو اليوم الذي يضعون فيه سقف البيت، بمعنى يكون يوما شاقا ويتطلب مجهودا، وقد تمتد ساعات العمل المتواصل إلى ما بعد الزوال.
قصة السوق تستقي جماليتها من واقعيتها مضيفا إليها الكاتب جمال التعبير، موظفا فيها كل الكلمات التي يمكن أن تلتقطها أذن الداخل إلى هذا المكان.
والأجمل هو تضامن الباعة ـ رغم المنافسة والمشاحنة التي تكون بينهم على مدار اليوم ـ إذا ما تجرأ أحد المارة على مس أحدهم، أو مس رزقه، وقتها تنتفي كل الصراعات ويتحولون إلى جسم واحد من أجل الثأر من الجاني.
وكيف يتحول البطل من مجرد متفرج على الحدث إلى مشارك في المطاردة من أجل القبض على اللص الذي تبعه جمهور غفير من الناس.
وحين يكتشف عدم قدرته على الجري يغير مساره إلى زقاق آخر، وهو يفكر في ضرورة ممارسة الرياضة، سمع أحدهم يردد" اقبضوا (الشفار) أي اللص، ويفاجئ بالأصابع تشير إليه، وصوب له أحدهم ضربة لم تخطئه.
تنتهي القصة بمفاجأة يخبئها القاص للقارئ ليخبره أن كل هذا كان مجرد حلم.
جاءت حبكة السرد في قصة السوق كما في غيرها من قصص المجموعة متماسكة بسلاسة إيقاعها، وتنامي أحداثها المشوقة للقارئ تدفعه دفعا للوصول إلى النهاية، وهذا يدل على قدرة القاص على خلق الحدث ومعرفته بالدروب التي يسلكها للوصول بقصته إلى ما يريد.
قصة سفر:
في قصة سفر، وهي القصة ما قبل الأخيرة في المجموعة مكونة من ثلاث صفحات.
يستهلها القاص:
ماسحا دموع (الحكرة)؛ عندما يقع عليك الظلم، أي عجز الضعيف أمام القوي وافترائه، وهذا ما أحسه بطل القصة عندما تعرض لمطاردة ـ وصفها ب(الهوليودية) ـ وهذه تستعمل للتضخيم ـ من طرف سيارة رباعية الدفع، وما تعرض له من ضرب وشتم ليفاجئنا في الأخير بصوت سائق سيارة الأجرة يخبره أنه وصل إلى المحطة الطرقية بمكناس، وأن كل ما حدث كان مجرد حلم.
قصة الطاووس:
آخر قصة في المجموعة.
يوحي العنوان كون كلمة الطاووس استعملت للمجاز، وأن المقصود به أحدهم يستعرض ريشه، ويتعالى على الآخرين خاصة لو عرفنا السخرية التي تصاحب كتاباته، لكنها قصة تعيدنا إلى زمن كان لصحن الطاووس قيمته في البيوت المغربية، وكيف سيكون هذا الصحن سببا في نشوب عراك بين الزوجين ينتهي بجريمة قتل الزوج من طرف الزوجة.
القصة قد تبدو عادية، ولكنها تتطرق إلى أشياء تدعو إلى السخرية عاشتها ولا تزال أسرنا المغربية البسيطة التي تفضل التباهي بالأشياء بدل استعمالها.
قصص المجموعة في جملتها تظهر الجانب النفسي للقاص الذي يتوق إلى عالم تسوده الفضيلة، وتكون فيه كرامة الإنسان فوق كل اعتبار يعم التآخي والتآزر بين أفراد المجتمع الواحد، وتختفي الفوارق الطبقية التي وراء ما يقع في المجتمع من تفشي الرذيلة والغش والسرقة والخيانة و...
باستثناء قصة ( كْرينْكو) وهي القصة الثالثة في المجموعة التي كنت أتمنى أن تكون رواية من الخيال العلمي لليافعين؛ لما فيها من مغامرة وأشياء بعيدة عن الواقع، كما أن عدد شخصياتها يناسب العمل الروائي، وأيضا أحداثها المتنوعة، وكثرة الأمكنة التي دارت فيها تلك الأحداث.
كخلاصة
القاص رضوان أحمد بن الشيخ توفق إلى حد بعيد في رصد الأوضاع المقلقلة التي يتخبط فيها المواطن البسيط، والتغلغل داخل كيانه الذي نخرته الخيبة وفقدان الأمل في الغد الأفضل. كما نجح في تصوير هذا الواقع مستعينا في ذلك بآلياته في الحكي، وأسلوب اختار أن تصاحبه السخرية في جل المواقف، وسيلته في ذلك لغته التي كانت أحسن سلاح، وخاصة عندما يتعلق الأمر بذلك الكم من الأمثال والجمل والكلمات العامية.
قصصه كما سلف الذكر تعالج هموم الإنسان العادي؛ الإنسان البسيط الذي يسعى من أجل كسب قوته بعرق جبينه لكنه يقع تحت وطأة الظروف التي تدخله أحداثها في متاهة لا يعرف منها مخرجا.
أسلوب المجموعة في مجمله يتسم بالسلاسة والبساطة التي تؤدي المطلوب منها إلا عندما يتعلق الأمر بما ورد من العامية التي تحتاج كما سبق الإشارة إلى ذلك في مستهل هذه الدراسة إلى قاموس لفك رموزها، نظرا لعدم شيوعها لما نعرفه من خصوصية كل منطقة وثقافتها السائدة التي تميزها عن غيرها.
للقاص قدرة فائقة على اختراق مرارة الواقع والتعبير عنه بريشة فنان يعرف كيف يخلط الألوان، ليخرج لنا عملا بديعا رغم المرارة التي تخلخل كيان الوسط المعبر عنه.
بقلم: أمنة برواضي.
أطلق القاص خياله ليبدع لنا نصا لطيفا، عبرنا في أثره مسالك ضيقة ليصل بنا إلى أفق أرحب، ممتطيا في سفره متعة اللغة التي وظفها لنصل معه إلى مربط الفرس؛ حيث أراد لنا اكتشاف حقيقة ممارسة التجارة مستدلا على ذلك:
التجارة فيها تسعة أعشار الرزق ص 72
يستهل القصة بانتقاد لاذع من البطل للعمل في الإدارة كونه يشتغل عونا بإحدى الإدارات، ويصف الحياة بين الموظفين وما يملأها من (تبركيك) أي متابعة أحوال الآخر، و(لَحيسْ الكابة) بمعنى التّملق إلى الرؤساء.
يصور لنا كيف يسرع البطل في مغادرة مكان العمل، لما يعرفه من نفاق اجتماعي لأجل قضاء عطلته السنوية التي تصل مدتها أسبوع من الزمن في أماكن كان قد حددها من قبل.
كان متفائلا كونه يملك مبلغا محترما من المال، قضى شهورا من التقشف من أجل توفيره شأنه في ذلك شأن أي إنسان بسيط.
توقف بطلنا أمام فندق لتناول وجبة العشاء، كما فكر في قضاء ليلته هناك.
في مطعم الفندق يصادف مجموعة من اللصوص (الشّفارة) على حد تعبيره يعرف صورهم من الجرائد التي كان يحملها لرئيسه في العمل.
لكن سرعان ما يتلاشى حلم البطل عندما يفاجئ بكونه نسي محفظة نقوده في بذلة العمل لتأخذ القصة مسارا آخر، يبدأ بالهرب والتخلص من قبضة عمال الفندق الذين كانوا يطاردونه، وفراره عبر شاحنة لبيع الدلاح.
تشاء الصدفة أن تكون وجهة صاحب الشاحنة نفس وجهة البطل، بعدما حكى له قصته اقترح عليه العمل معه خلال هذا الأسبوع ليتمكن من تسديد الدين لصاحب المطعم.
وفعلا دخل معه السوق، وتعلم على يده كيف يكسب رزقه من التجارة.
لم ينس القاص أن يمرر لنا بين سطور هذه القصة فضل التجارة في كسب الرزق، وأيضا رد الدين إلى أهله حين عودته إلى الفندق، وكاد يلقي بنفسه بين أيدي من طارده سابقا من أجل إرجاع المال إلى صاحبه، وكيف أخبره المدير أن جماعة من (الشفارة) اغتنموا الفرصة تلك الليلة أثناء مطاردته وغادروا دون دفع ثمن الفاتورة. وختم بقوله: (الشفار تيبقا غا شفار). أي من يسرق مال الشعب لن يتأخر في السرقة متى أتيحت له الفرصة.
وكيف استقبل مديره في العمل وباقي الموظفين خبر استقالته، وتظاهرهم بالحزن على فراقه لولا تدخل المدير وحسم الأمر قائلا: (بارك من التبوحيط) بمعنى التظاهر بالحزن.
كما وظف في هذه القصة ما استقاه من ثقافتنا الدينية:
الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا ص 63
ما نقص مال من صدقة ص 68
القصة جاءت كغيرها من قصص المجموعة مشحونة برصيده المعرفي الذي استقاه من تجربته الغنية في الحياة، تلك التجربة التي لا ينضب نبعها.
ليرسل لنا رسالة أن من حق البسطاء من الناس أن يتمتعوا ولو بالقليل من الرخاء.
قصة السوق:
وهي القصة الرابعة في المجموعة تقع على امتداد تسع صفحات.
القصة تبدأ أحداثها عادية، البطل يرتدي بذلة وحذاء رياضيين استعدادا ليوم السوق لما يعرفه هذا الأخير من عناء التنقل من مكان إلى آخر لإقناء ما يلزمه.
لكن ما إن يصل البطل إلى باب السوق حتى يبدأ النقل الحي لإيقاع الحياة داخل فضاء السوق الأسبوعي الذي تعرفه جل المدن المغربية، وتلك المفردات المتداولة بين الباعة، وطريقة جذبهم للزبون.
استجابتْ لغة القاص لوصف كل صغيرة وكبيرة، وتفاعله معها واصفا إياها وصفا دقيقا بعين ناقدة حينا، وبنظرة ثاقبة للأشياء حينا آخر منبها القارئ المفترض لما يمكن أن يتعرض له عند قصد هذا المكان من نصب واحتيال كما حدث أثناء تأمله (للكورنة)، وهو المكان المخصص لذبح الأغنام. وهي أول ما يستقبل الزائر عند مدخل السوق مشيرا إلى أن الأمعاء رغم عدم صلاحيتها إلا أن الجزار لا يمكن أن يتخلص منها. لكنها سوف تستعمل لصنع النقانق ، التي ستكون من نصيب.(خوروطو) كلمة القصد بها حثالة القوم.
يعرج بنا إلى بائع (السفنج) والشاي، وهذا من مميزات السوق الأسبوعي لا يمكن تواجد هذا السوق من غير تلك الخيمة التي يحلو لمرتادي هذا المكان تناول فطورهم عنده.
وقد أخذ صاحبنا ثمان حبات، ولكي يبعد عنا الدهشة أشار إلى أن السوق يشبه يوم " الضالة" عند البنائين؛ وهو اليوم الذي يضعون فيه سقف البيت، بمعنى يكون يوما شاقا ويتطلب مجهودا، وقد تمتد ساعات العمل المتواصل إلى ما بعد الزوال.
قصة السوق تستقي جماليتها من واقعيتها مضيفا إليها الكاتب جمال التعبير، موظفا فيها كل الكلمات التي يمكن أن تلتقطها أذن الداخل إلى هذا المكان.
والأجمل هو تضامن الباعة ـ رغم المنافسة والمشاحنة التي تكون بينهم على مدار اليوم ـ إذا ما تجرأ أحد المارة على مس أحدهم، أو مس رزقه، وقتها تنتفي كل الصراعات ويتحولون إلى جسم واحد من أجل الثأر من الجاني.
وكيف يتحول البطل من مجرد متفرج على الحدث إلى مشارك في المطاردة من أجل القبض على اللص الذي تبعه جمهور غفير من الناس.
وحين يكتشف عدم قدرته على الجري يغير مساره إلى زقاق آخر، وهو يفكر في ضرورة ممارسة الرياضة، سمع أحدهم يردد" اقبضوا (الشفار) أي اللص، ويفاجئ بالأصابع تشير إليه، وصوب له أحدهم ضربة لم تخطئه.
تنتهي القصة بمفاجأة يخبئها القاص للقارئ ليخبره أن كل هذا كان مجرد حلم.
جاءت حبكة السرد في قصة السوق كما في غيرها من قصص المجموعة متماسكة بسلاسة إيقاعها، وتنامي أحداثها المشوقة للقارئ تدفعه دفعا للوصول إلى النهاية، وهذا يدل على قدرة القاص على خلق الحدث ومعرفته بالدروب التي يسلكها للوصول بقصته إلى ما يريد.
قصة سفر:
في قصة سفر، وهي القصة ما قبل الأخيرة في المجموعة مكونة من ثلاث صفحات.
يستهلها القاص:
ماسحا دموع (الحكرة)؛ عندما يقع عليك الظلم، أي عجز الضعيف أمام القوي وافترائه، وهذا ما أحسه بطل القصة عندما تعرض لمطاردة ـ وصفها ب(الهوليودية) ـ وهذه تستعمل للتضخيم ـ من طرف سيارة رباعية الدفع، وما تعرض له من ضرب وشتم ليفاجئنا في الأخير بصوت سائق سيارة الأجرة يخبره أنه وصل إلى المحطة الطرقية بمكناس، وأن كل ما حدث كان مجرد حلم.
قصة الطاووس:
آخر قصة في المجموعة.
يوحي العنوان كون كلمة الطاووس استعملت للمجاز، وأن المقصود به أحدهم يستعرض ريشه، ويتعالى على الآخرين خاصة لو عرفنا السخرية التي تصاحب كتاباته، لكنها قصة تعيدنا إلى زمن كان لصحن الطاووس قيمته في البيوت المغربية، وكيف سيكون هذا الصحن سببا في نشوب عراك بين الزوجين ينتهي بجريمة قتل الزوج من طرف الزوجة.
القصة قد تبدو عادية، ولكنها تتطرق إلى أشياء تدعو إلى السخرية عاشتها ولا تزال أسرنا المغربية البسيطة التي تفضل التباهي بالأشياء بدل استعمالها.
قصص المجموعة في جملتها تظهر الجانب النفسي للقاص الذي يتوق إلى عالم تسوده الفضيلة، وتكون فيه كرامة الإنسان فوق كل اعتبار يعم التآخي والتآزر بين أفراد المجتمع الواحد، وتختفي الفوارق الطبقية التي وراء ما يقع في المجتمع من تفشي الرذيلة والغش والسرقة والخيانة و...
باستثناء قصة ( كْرينْكو) وهي القصة الثالثة في المجموعة التي كنت أتمنى أن تكون رواية من الخيال العلمي لليافعين؛ لما فيها من مغامرة وأشياء بعيدة عن الواقع، كما أن عدد شخصياتها يناسب العمل الروائي، وأيضا أحداثها المتنوعة، وكثرة الأمكنة التي دارت فيها تلك الأحداث.
كخلاصة
القاص رضوان أحمد بن الشيخ توفق إلى حد بعيد في رصد الأوضاع المقلقلة التي يتخبط فيها المواطن البسيط، والتغلغل داخل كيانه الذي نخرته الخيبة وفقدان الأمل في الغد الأفضل. كما نجح في تصوير هذا الواقع مستعينا في ذلك بآلياته في الحكي، وأسلوب اختار أن تصاحبه السخرية في جل المواقف، وسيلته في ذلك لغته التي كانت أحسن سلاح، وخاصة عندما يتعلق الأمر بذلك الكم من الأمثال والجمل والكلمات العامية.
قصصه كما سلف الذكر تعالج هموم الإنسان العادي؛ الإنسان البسيط الذي يسعى من أجل كسب قوته بعرق جبينه لكنه يقع تحت وطأة الظروف التي تدخله أحداثها في متاهة لا يعرف منها مخرجا.
أسلوب المجموعة في مجمله يتسم بالسلاسة والبساطة التي تؤدي المطلوب منها إلا عندما يتعلق الأمر بما ورد من العامية التي تحتاج كما سبق الإشارة إلى ذلك في مستهل هذه الدراسة إلى قاموس لفك رموزها، نظرا لعدم شيوعها لما نعرفه من خصوصية كل منطقة وثقافتها السائدة التي تميزها عن غيرها.
للقاص قدرة فائقة على اختراق مرارة الواقع والتعبير عنه بريشة فنان يعرف كيف يخلط الألوان، ليخرج لنا عملا بديعا رغم المرارة التي تخلخل كيان الوسط المعبر عنه.
بقلم: أمنة برواضي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق