أعلان الهيدر

الجمعة، 17 أغسطس 2018

" كهانة "


محمود حمدون
شيخ طعن في العمر, حانوته الصغير , تلك اللمعة التي تطل من عينيه , مشيته البطيئة , إصراره على مزاولة عمله رغم رفض بنيه , بخاصة ابنه الأكبر الذي خرج على المعاش منذ سنوات بعيدة .. جميعهم أقسموا عليه بترك العمل , فيصيبهم منه رفض , رذاذ من لعنات خفيفة يلقيها لسانه دون قلبه .
أقسم أحد روّاد المقهى أن أبيه الراحل عن سبعين عاماً , كان يعمل صبياً بدكانه , قصة لم نملك نفياّ لها , 
جريدة " الأهرام " كانت قاسماً مشتركاً بيننا , كلما أعوزتني الحاجة لقراءتها صغيراً , أهرع إليه , لأجده واقفاً مبتسماً أمام حانوته الفارغ , القابع على عتبة الزمن, يمدّ يده بالصحيفة , منبّهاً كل مرة على ضرورة إرجاعها , ثم بصوت عذب يتلو عبارته الشهيرة : أقرأ " الأهرام " منذ سبعين عاماً , ربما أكثر , ثم يضحك قليلاً فيهتز جسده الضئيل .
قلت له ذات مرة: لكن الأخبار لا تتغير من عهد لآخر , فجميعها واحدة و إن تبدّلت العناوين الرئيسية .
صمت عن الرد , اكتفي بهز رأسه , فلا أدري إن كان تأكيداً لقولي أم سخرية من حديثي .!
بصبيحة أحد الأيام , رأيته يقرأ جريدته من خلف " زجاج " باب حانوته .. حيّاني , أشار إليّ , فأسرعت , ألقيت السلام , غمغم , سكت قليلاً ثم قال : أقرأ جريدة " الأهرام " صبيحة كل يوم منذ سبعين عاماً خلت , لعلي حفظت تلك الأخبار , أقرأها دون أن أنظر لوريقات الصحيفة , أعرف أخبار الغد و ما بعده دون كهانة .. لكن تبقى إجابتي عن سؤالك الأزلي , الجريدة , الزمن و أنا , دائرة لا يُعرف لها نهاية حتى تنكسر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.