حمد حاجي
المطلقة، تلك ( المرأة ذات الثوب الأسود) والتي واعدتها عند الشاطئ، تتأبط معطفها، حاملة حقيبة جلدية كبالونة صفراء قديمة. أراقبها من بعيد ..
ما إن فتح سائق الحافلة الباب حتى نطَّت أمام طفلها .. وسارت في الممشى المؤدي الى المرفإ البعيد..
تتلوى في مشيتها , فيرتج جسدها الغجري وتدلف وتلج باحةََ أمام باب المركب التجاري، يتبعها ذلك الطفل الشقي ..
الصمت يشيع في الأرجاء ، وليست ثمة حركة قط .. أبواب المحلات ونوافذها مشرعة مثل ألسنة جائعة تحدق بالمارين .
على نحوٍ مباغت تٌمزّق أستارَ الصمت صرخةُ الطفل وهو يتمرَّغ أرضا:
- " أريد بالونا.. بالونة زرقاء !"
ترجع إليه، ترفعه بقوة، تكاد تخلع ذراعه، وتنتصب به كالأبنوسة البيضاء..
أقترب منهما.. غليظة لكن ما أجملها .. جسدها الطري مازال يغويني ورائحة عرقها يستهويني، بريق عينيها كما المصابيح الزرق في تلألئها .. سامقة كما أشجار السرو في غلوِّها سوى أنه يأخذ بالألباب..
أمام باب المركب التجاري لمح الطفل كشكا صغيرا يبيع البالونات.. في دهاء الذئب الأسود أطلق عقيرته بالصياح..
تهزه الأم من كتفه وتسرع به ..
هناك، يتحلق الأطفال والأباء .. يتصايحون ..
وهناك تساعد الأمهات أبناءهن على نفخ بالوناتهم..
وهناك، تخفيني عن نظرها البالونات وتمتعني برفقتهما.. تسمَّرت بين الأطفال أرقبهما ..بينما هو تحت صرامةٍ ظاهرة يرفع ذراعه ليلحق بالصناديق المعــبَّــأة.. وهكذا يتنآى لي صوتها دون ان تراني..
أسمعها:
- لو لم نختر الآن أي بالونة فسننصرف في الحال .. مللت من الانتظار..!
..
كانت طاولة المعروضات أقل ارتفاعاً منه بقليل ، وهكذا لم بكن يستطيع أن يطلَّ بما يكفي.. ولا أن يحني رأسه بسهولة. يبدو لي مريضا يسعل بين الحين والآخر .. كم كان يقطع أنينه قلبي فأتألم..!
وأكثر رائحة البلاستيك المنبعثة تسد الأنوف هي أسوأ من رائحة المسالخ، ولا تسع من الهواء مقدار ما في صندوقِ ميّتٍ.. فتراه يمسح بأطراف كمِّه المخاط السائل من أنفه ..
ظل يضع يده هنا وهناك بين البالونات المفشوشة .. فتنزلق منه حينا من العرق.. وتلتصق أخرى من مخاطه ..
وإذا صادف أن سحب واحدة فيتلمسها ولا تعجبه يرجعها ثم لا يلبث يأخذ أخرى وأخرى ..
تتأمله السيدة وهو يتفحص بيديه واحدة زرقاء ..
- يا للعفن .. ماهذا الذي اخترته .. الم تعجبك إلا هذه ..؟
ولم تنتبه انها اختارت واحدة عفنة صفراء بلون ( الشمس في يوم غائم)..
وتشير عليه بها فيما كان المسكين غارقا باللون الأزرق..
وظلَّ يتردد بين ما تقترحه الام وواحدة زرقاء ثالثة بلون البحر ..
لقد كنت كــ(الرجل الذى يكره نفسه) أتظاهر أني مثله منهمك أبحث وأبحث.. وكنت أخفي وجهي عنهما لكني كنت أقلب له كومة البالونات ليستطيع أن يميز ويختار..
وعندما لاحظت الام اهتمام الغريب بالطفل حين حيرته.. وتفطنت أنه بعد، لم تَرُقْهُ البالونة التي اقترحتها..
نطَّت من أطراف (الفم الكرزى) على شفتيها كلمات متذمرة.. كأنما من خلال تلك الحروف تحاول ان تراني وتتبيَّنني.. لكنني اخفيت وجهي بالبالونات المتدلية من سقف الكشك..
وكررت وهي تنظر الى ساعتها مزمجرة .. أنهما سينصرفان من دون شيء..
ولم يطل الأمر كثيرا ..وبالنهاية دست بيده تلك التي اقترحتها عليه .. بالونة مجعدة صفراء كثدي العجوز..
حتى بدا مكرها ومقتنعا باقتراح أمه ..وحسبته .. يتألم ومن يقدر أن يضع (النار بين أصابع امرأة) مثلها..
ومرَّت دقائق..
وحينما ابتعدا خطوات اشتريت تلك البالونة الزرقاء التي راقت للطفل..ثم اسرعت أقتفي أثرهما فمن زقاق لزقاق ومن (حارة الشحادين) الى محطة المترو ..
واستغللت دورانهما خلف عربة رابضة وبــ(شرف قاطع طريق) وفي سرعته .. دسست البالونة في جيب الطفل دون أن ينتبه احد..
بتلك الاثناء تثبتت بوجه الطفل يسعل حينا فترمقه الأم وبتأوَّه حينا آخر ..
وبالرغم من ذلك كنت أقلب عينيَّ بين الطفل والسيدة بين (الارقش والغجرية).. بحثت في حقيبتها عن أوراق صحية لتمسح انفه ولم تجد.. انحنت عليه وفتشت جيبه..
ولكنها أخرجت البالونة التي دسستها ..
وتقلبت سحنتها تقلب (الربيع والخريف ) والتفتت الى المارة في رحلة البحر والسفينة..
وتعقبت الأثر.. حتى وصل الطفل وأمه أمام الكشك .. وجَّهت الام صفعة للطفل وقالت :
- أخرج البالونة أعدها في الحال..
نظر الطفل في خجل للبالونة التي دسستها في جيبه وسلَّمها للبائع..
- لكني لم أسرقها - قال باكيا - وجدتها بجيبي..!
قالت الأم يائسة :
- كذَّاب ... بنفس وقاحة أبيه يكذب ..
بمجرَّد ما انصرفا بذلك الحزن الكوني.. عدتُ واشتريت تلك البالونة ثانية بتلك اللهفة الطفولية..
ثمَّ تعقبتهما ثانية كـ(بقايا صور) بالذاكرة...
........
اقتربت منهما حين اشتد الزحام ولم يبق لي فرصة أخرى..
سنكون على الشاطئ الفارغ تماما من الناس والمصطافين ..
واخيرا تمكنت ان أدسَّ البالونة بمعطف الأم.. ولم يبق غير الخيط يتدلى ..
وحين التفتت او كادت كنت قد أخفيت البالون بمعطفها تماما ..
قلت :
- سلام ..
ونزلت كي أقبل الطفل.. دسَّ بحضني انفا أفطس بالمخاط .. أبعدته قليلا كي أتأمله..
ان أنظفه.. لكنها سارعت وأدخلت يدها لمعطفها ..
تدلى البالون واشتبك الخيط بيدها .. وبهتت ..
أطلق الطفل عقيرته..
- أريد البالون الأزرق يا أبي..!
سرقته ماما يا أبي من الكشك!
أما هي فكانت تنظر في خجل للبالونة التي دسستها في جيبها ...
- لكني لم أسرقها - قالت - وجدتها بجيبي..!
تفحصت وجهها كمن يعاتبها :.. كيف لـ(امرأة تجهل أنها امرأة)سارقة!؟
وبادرت وأرجعت الصاع صاعين :
- أبنفس وقاحة أبيك تكذبين؟؟؟؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق