أعلان الهيدر

الأربعاء، 29 نوفمبر 2023

الرئيسية قراءة في رواية ( برج شهرزاد ) للروائية الجزائرية زكية علال

قراءة في رواية ( برج شهرزاد ) للروائية الجزائرية زكية علال




غريبي بوعلام

بداية الرواية كانت بمشهد رهيب، تمثّل في محاول (مختار) دفن طفلة رضيعة في قماطها، يهيل عليها التراب، و زوجته بقربه قلبها يتقطع و لا تستطيع فعل شيء أمام قسوة أشد من الحجارة، لكن في الأخير يتراجع بعد نداء صعد من أعماقه سببه نظرة رضيعة عمرها شهر واحد، من حينها هاجر مختار رفقة زوجته و الرضيعة بلدة (برج الطهر) من جيجل إلى ولاية ميلة بالحي القديم.
تضعنا الروائية أمام مشهد تشيب منه الولدان، تتمزّق له القلوب، من هول الفعل الذي يذكرنا بوأد الفتيات في العصر الجاهلي، تعمّدت الروائية ذلك من بداية روايتها، لتثير عاطفة القارئ و تجذب انتباهه و تشعل فيه تشويقا سيربطه بإبداعها الروائي، لمواصلة القراءة بشغف كبير إلى النهاية، و معرفة سبب ذلك الوأد و السّر العظيم خلف ذلك السلوك الإجرامي، لهذا القارئ يتساءل في أعماقه لمعرفة أصل القصة من ألفها إلى يائها، ليجد نفسه يلتهم أكثر من 340 صفحة في وقت وجيز.


طوال السرد و الروائية تعمل على اخفاء السبب أو أسباب تلك الحادثة المؤلمة، يشعر القارئ بفراغات أو فجوات فتثير فضوله و التساؤل من جديد، فجوات تعمّتدتها الروائية لإثارة المزيد من التشويق. من حين لأخر تملأ بعضها بكلمة أو كلمتين أو جملة، دون أن تطلعه على السّر الذي أجلته إلى الصفحات الأخير، كانت ذكية في كيفية العزف على أوتار القارئ المشدودة.
تأخذ القارئ من يده، عبر منعرجاتها السردية و حبكتها الملتوية و القفز عبر أزمنة القصة، تلف به حلقة كاملة على تضاريس قصة صاعدة و نازلة، ترميه ذات اليمين تارة و تقذفه إلى الشِّمال تارة أخرى.
بعد تلك الحادثة المفزعة، تقفز بنا الروائية إلى عُمر البطلة الرئيسة للرواية شهرزاد (التي نجت من الوأد) في سنها 23 و هي طالبة جامعية ماستر2، تستطرد أثناء سردها لتتطرق لمواضيع فرعية مختلفة مرتبطة بموضوع الرواية.
شهرزاد فتاة بارعة الجمال إلى درجة الفتنة، تعيش قصة حب راقية مع سعيد الذي أحبها منذ صباها المبكر و الجميع يعلم ذلك.كانت بصدد الانتهاء من مذكرة تخرجها التي كان موضوعها عن مدينة ميلة القديمة المعروفة بآثارها التي تم إهمالها، اغتنمت الروائية الفرصة لتطلعنا على بعض معالم تلك المدينة الممتدة جذورها في التاريخ.
سعيد حبيب شهرزاد، خريج الجامعة تخصص التاريخ، بسبب البطالة صار بائع سجائر على طاولة في الشارع. أثناء دراسته بالجامعة تأثر كثيرا بشخصية تاريخية من مدينة ميلة اسمها عبد الحفيظ بوالصوف مؤسس المخابرات الجزائرية أثناء ثورة التحرير، كان يُلقب حينها سي مبروك، رجل تم تهميشه بسبب عدم رضاه بما حدث بين الإخوة الأعداء بعد الاستقلال.
كان ينصح سعيدا بعدم الدخول في متاهات السياسة الوسخة، و البقاء نظيفا و شامخا مهما كانت الظروف قاسية، كان يقول له: اعمل زبالا و لا تتلطخ بالسياسة القذرة، من قوة تأثره به، لقّب سعيد بسي مبروك. نرى كيف تحاول الروائية إعادة إحياء تاريخ منطقة ميلة و أمجادها الأبطال.
بعد طول انتظار يقرر سعيد خِطبة شهرزاد، التي أحسنت الكاتبة وصف مشاعرها الجياشة نحوه، والتي كانت محل أطماع كثير من الرجال، بعد الخطوبة الرسمية يهدي لها كتاب (طوق الحمامة) لابن حزم الأندلسي الذي يعتبر من أجمل كتب التراث التي فصّلت و أفاضت في عاطفة الحُب، و يُطلعها على عزمه في الهجرة غير الشرعية عبر البحر، و العودة بعد سنتين أو ثلاث من أجل الزواج، فتبدأ معاناة شهرزاد بمجرد التفكير في هذا الفراق المؤقت.
يغيب سعيد عن مناقشة رسالة تخرج شهرزاد، وتشعر بألم كبير لغيابه لأن حضوره كان سيغطي على كل الحاضرين، فهو تاريخها، ولم تكن تعلم أن الحبيب في الطرف الآخر تعرض لخيانة كلفته حياته لتعود هي إلى نقطة الألم الأولى، فتدخل في دوامة جديدة من العذاب النفسي و التمزّق الروحي، زيادة على إحساسها العميق المرهق بالوحدة.
على النت تتعرف على صديقة افتراضية اسمها نوارة الجيجلية، تحدث بينهما ألفة كبيرة و تقارب عاطفي كبير لتشابه اسمها مع اسم أختها التي رحلت منذ سنوات، إلى أن صارت نوارة تناديها حبيبتي، حدثت بينهما حوارات مطولة فكانت تفرغ لها قلبها عبر النت. تلتقيها في ملتقى أدبي لتكتشف خدعة وجريمة إلكترونية تعرضت لها وجعلتها تسقط في خيبة كبيرة، وتعيش انهيارا زعزع ثقتها فيمن حولها.
ومن خلف الفضاء الافتراضي يطل صالح لينقذ شهرزاد من وحدتها لكن أمها ترفضه ـ فقط ـ لأنه من جيجل التي تذكرها بماضيها وتعود بها إلى مسرح جريمة ارتكبتها واعتقدت أن لا أحد كشف سرها أو اقتفى أثرها، لكن ظهور صالح ووالده أعاداها إلى مسرح جريمتها واستسلمت لعدم وجود الجريمة الكاملة. وتظهر حقيقة شهرزاد التي جاءت من برج الطهر واحتمت بالسور البزنطي، وينكشف السر الذي دفنته حورية في صدرها، لتظهر معه تفاصيل دقيقة تعود إلى العشرية السوداء.
أترك الفرصة للقارئ لاكتشاف تلك التفاصيل التي تحمل السر الكبير، بعد قراءة الرواية كي لا أفوت عليه لذة و مغامرة الإبحار في عمق الرواية.
تحاول الروائية معالجة مشكل عويص جدا، لم يتمكن قانون الوئام المدني من إيجاد حل نهائي له، جرائم الشّرف ليست هينة، هي قصة واقعية حدثت أثناء العشرية السوداء، تكرر مثلها في عدة مناطق نائية، أعادت الروائية صياغتها عبر خيالها الخصب في قالب روائي مشوق، توحي أنها من الأدب الملتزم بقضايا المجتمع سواء سياسية أو اجتماعية أو دينية، مسلطة الضوء بعلامات و إشارات و دلالات عن فكر هؤلاء الإرهابيين، من سبي للنساء و اغتصابهن و السطو على ممتلكات الناس بعد قتلهم.
في الرواية أيضا إشارات و علامات قيّمة عن مشكل البطالة خاصة أصحاب الشهادات العليا، مثل سعيد الذي تحول إلى بائع سجائر على قارعة الطريق، شهرزاد التي صارت بائعة أحذية في محل، مشكل الهجرة غير الشرعية(حراقة)، الإهمال الكبير الذي طال شخصيات كان لها بصمة كبيرة في تاريخ الجزائر، كذلك أماكن تاريخية مهملة، صارت أوكارا للدعارة و مخابئ لأصحاب الفِكر الديني المتطرفة.
أغتنم الفرصة لأقترح على الروائية تجريب قلمها المبدع في رواية تعمل على خلخلة المفاهيم و إعادة بنائها وفق نظرتها الخاصة.
أحكمت الروائية بناء روايتها، السرد لم يكن متسلسلا تسلسلا زمنيا متتابعا، تعمدت القفز على فترة زمنية طويلة كتقنية ىسردية، كانت كمن دارت دورة كاملة، ثم العودة إلى نقطة البداية لتغلق الدائرة، وتستوي الحكاية كلها في ذهن القارئ بعد ملء تلك الفراغات بالتدريج و تقدم السرد، فراغات شغلت باله، أحيانا تضعها الكاتبة على شكل نقاط متتالية، يمكن اعتبارها دعوة من الروائية لملئها، ليشاركها القارئ إبداعها الروائي، في الأخير تطلعه على السّر العظيم الذي كان كالسم في ذيل العقرب.
بداية السرد كانت قوية، غمست الروائية القارئ في مشهد صادم، بدأ من ذروته بعد وصف عميلة الوأد التي لم تتم، ثم يتواصل بأقل حدة ليشهد بعض النزول، يسير على تلك الوتيرة مع بعض أحداث الرواية، فتضطر الروائية إلى التصعيد من وتيرة سردها من جديد بصدمة عاطفية أخرى، لتزيد في تأجيج مشاعر القارئ و لا يسقط في الملل، ليصل السرد إلى ذروة ثانية، تمثّل في مقتل سعيد خطيب شهرزاد، لأنه لو تم الزواج لانتهت القصة و لن يظهر السّر العظيم.
الذروة الثالثة كانت كالانفجار الكبير، تمثّلت في ظهور السّر بعد سلسلة من الأحداث بموت حورية زوجة مختار، هكذا نرى كيف كانت الحبكة في ثلاث ذروات قوية و صادمة، الأولى محاولة وأد فاشلة، الثانية قتل، الثالثة موت، العامل المشترك هو الموت، هذا ما أضفى على الرواية تراجيديا بمسحة من الحزن و الكآبة و السلبية، رغم ذلك تحاول الروائية التغلّب على هذه العناصر المخيبة بالعودة إلى عاطفة الحب، التي ترى فيها الأمل الكبير لاستمرار الحياة و الخروج من الكهف المظلم، نجد ذلك في مقاطع رومانسية قصيرة غاية في الوصف و الجمال الأدبي.
السرد كان على شكل مخطط متواصل فيه صعود ليصل القمة ثم نزوله ليستوي، ثم صعود مرة أخرى هكذا إلى نهاية الرواية.
لم تستعمل الروائية كثيرا الصور البيانية كالتشبيه و الاستعارة و الكناية، و إن وجدنا بعضها تأتي بصفة عفوية أثناء السرد الذي شغل بالها كثيرا ليكون مؤثرا على القارئ منفعلا و متفاعلا معه، مع ذلك نرى أنها تتقن استعمال التناص مع كثير من الآيات القرآنية، لتخرج بعض تعبيراتها قمة في الجمال و حسن تركيبها اللغوي مما يزيد في أدبية نصها الروائي، و يدل على ثقافة الكاتبة الدينية و إطلاعها على أسرار بلاغة القرآن الكريم، الذي أخذت منه بعض آياته كبداية لروايتها.
في الصفحات الأخيرة من الرواية، استعملت الروائية نوعا من الرسائل الأدبية، كانت فقرات قصيرة مختصرة و مكثفة جيدا جعلتها كملخصات للأحداث المتتالية، لتستوي في ذهن القارئ كل القصة الطويلة من أولها إلى آخرها، و فصلت بين تلك الفقرات بمجموع من نقاط متتابعة كعلامة للانتقال من حدث إلى الذي يليه.
في الرواية جانب من شخصية صاحبتها، صاحبة مبادئ و محافظة عليها، نلمس ذلك في محاولتها ستر بطلة الرواية و تعاطفها الكبير معها منذ كانت علقة في رحم والدتها، عاطفتها إنسانية إلى أبعد حدودها.
شهرزاد تعيش شروخا نفسية عميقة ليست هي سببها، حالة نفسية مضطربة جدا حتى هي لا تعرف سببها الخارج عن نطاق إرادتها، السر يبقى عند شخص واحد فقط، وعد أن لا يفشيه بعد أن مات الذين يعرفونه، ليصير السّر سرا، هكذا نرى كيف نصرت الروائية بطلتها و أخرجتها من عنق الزجاجة.
في الرواية ارشاد مضمر عرفت الروائية كيف تمرره بأسلوبها الإيحائي، دون الوقوع في المباشرة أو التقريرية التي تقتل الإبداع، يجد القارئ صداه في أعماقه، كما نجد حكمة مدرجة وسط السرد في منتهى الروعة من ناحية المعنى و المبنى، جعلتها الروائية كبريق اللؤلؤة التي تخطف البصر، يستحيل أن يمر عليها القارئ دون الوقوف عندها و اعادة قراءتها، تمثّل في قولها: (الصمت صراخ مذبوح في عمق الروح، يتردد صداه في فراغ القلب الذي غطاه الخوف) و هي نظرة أخرى للصمت.

 
 
غريبي بوعلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.