أعلان الهيدر

الثلاثاء، 14 يناير 2020

الرئيسية قراءة في رواية ( رجل في الخمسين ) للروائي الجزائري حميد عبد القادر

قراءة في رواية ( رجل في الخمسين ) للروائي الجزائري حميد عبد القادر

غريبي بوعلام



أبحر الراوي على متن باخرة ( طارق ابن زياد ) لا لفتح اسبانيا من جديد، بل باحثا عن الحبيبة المفقودة في الضفة الأخرى من البحر، بعد أن تركها عائدا إلى وطنه للمشاركة في النضال و محاربة الظلامية بأنوار فكره، ترك الحبيبة و مقاعد الدراسة للبحث عن تجارب جديدة تلهمه الكتابة و الإبداع، و السؤال المطروح الم تكفي الراوي تجربة حبه و عشقه تلك،ليكتب و يبدع؟ يبدو أن الراوي يهوى خوض التجارب التي تلهمه و لو كانت تجربة الموت التي حصدت ألاف من أبناء وطنه، كانت تجربة جنونية كما أخبرته الحبيبة ( أميرة أنوارً ) و هو يفارقها.
طوال تلك الرحلة و الراوي ( إبراهيم ) في غرفته مع وحدته، تعود به الذاكرة إلى الوراء، تقفز به من زمن إلى أخر، بعد أن مزّق لها اللجام،ليقص لنا تجاربه الحياتية الخاصة في قالب قصصي أدبي و سرد مفعم بالعاطفة الجياشة و المشاعر الصاخبة كالموج و بالكثير من الفكر و التجارب التي تركت في أعماقه بصمات لا يمحها الزمن مهما تقدم، كان كمن يفرِّغ ما في أعماقه على الورق الأبيض خوفا من هبوب رياح النسيان عليه، أو ربما خوفا من هاجس الكفن الذي يخشى أن يكفنها في لحظة مباغتة، فتصير توأم العدم،نلمس كل هذا من خلال ذلك السرد للروائي على لسان ( إبراهيم ) الذي بلغ سن الخمسين،و هي سن غير متقدمة كثيرا في خط الزمن، إلا أن الروائي يراها مملوءة بالتجارب و الحِكم و النظرات و العَبرات، يرى وجوب تسجيلها و جعلها تحفة أدبية ممتعة للقراءة و التأمل.
كانت تجربة زواجه الفاشلة من أنثى صارت فيما بعد متطرفة، كانت ترمي لوحاته الفنية التي لا تقدر بثمن إلى المزبلة، و رسائل التهديد بالذبح المرسلة له من طرف جماعة إرهابية، وصف تعاسة أصحاب الأقلام و هم محشورين في فندق خوفا من الذبح أو الاغتيال، أكتفي بهذا القدر لأترك للقارئ لذة و متعة اكتشافها، فقد سردها الروائي بأسلوب أدبي شيق جذاب و مؤثر جدا.
الرواية سيرة ذاتية تحاول الغوص إلى أعماق الكاتب و نبش المدفون فيها من عواطف و أفكار، و اصطياد الدرر،إلا أن الروائي لم يلتزم هذا الخط السردي إلى أخر الرواية، و ذلك بإقحامه لبعض المواضيع الحساسة لها علاقة مباشرة مع قضايا فكرية و تاريخية قرأها و انفعل بها إلى النخاع، فخرجت رغما عنه أثناء سرده لسيرته الذاتية، أو ربما هو من تعمد ذلك، حيث طرحها و قال رأيه فيها بكل حرية و شفافية، هذه المواضيع فصلته عن ذاتيته لتفرض الموضوعية نفسها على قلمه و جعل الكثير من سرده يبتعد عن العاطفة المتوهجة أثناء سرد القصصي،لهذا كان مضطرا لتغير أسلوبه الأدبي العاطفي إلى أسلوب فكري محض، يمحّص به بعض أحداث التاريخ التي ناقشها، ولكن سرعان ما يعود إلى سيرته الذاتية ليغوص بالقارئ من جديد في ذلك الحكي الجميل المؤثر في الوجدان.
من خلال تلك القضايا نرى جانب كبير من شخصية الروائي و فكره وطريقة تفكيره، هو صاحب قراءات كثيرة و طويلة و مطالعات جمة و متعددة، بحوزته معلومات غزيرة تدفقت من خلال قلمه أثناء السرد و كأنه يسجل سيرة ذاته الفكرية أو العقلية ( إن صح هذا التعبير) إلى جانب سيرته الذاتية القلبية، يحاول المزج بينهما كتجربة منه لإبداع جديد، كأنه يحاول أن يضع اللبنة الأولى لذلك التجديد،خاصة أن تلك المواضيع المتناثرة المتباعدة في الأفكار و الزمن يربطهما خيط فكري ثقافي على شكل فسيفساء يتجلى للقارئ الحصيف الذي يدقق جيدا في قراءته، و من خلال تلك المواضع التاريخية و كثرة المعلومات يمكن للروائي ( في رأيي ) أن يكتب رواية تاريخية في المستقبل بمزجه لتلك المادة التاريخية بخياله المبدع.
و من تلك المواضع التاريخية، تشكيكه لخطبة طارق ابن زياد ( فاتح الأندلس ) الفصيحة و هو بربري الأصل، اذ يستحيل أن يكتب خطبة بتلك الفصاحة و ذلك الجمال اللغوي، كما تعرض للأتراك بعد غزوهم للجزائر و قتلهم لحاكمها حينها ( سليم تومي ) و قد ذكر بعض المراجع التاريخية و أصحابها، و نرى هنا كيف ترك الروائي ذاتيته، كما تعرض لنقد سياسة الرئيس الراحل و هو يؤمّم كل ما في الجزائر و الخراب الذي أوصله بالكثير من المُلاّك.
و من القضايا الفكرية التي تعرض لها قضية الأقدام السوداء، على سبيل المثال محنة الشاعر (جون سيناك ) و الروائي ( ألبير كامي ) كما تعرض لنقد روائي يتبع ايديولوجية معينة يكتب كي لا يموت بمعنى كي لا يُقتل في زمن كانت تُحزّ فيه رقاب أهل الفكر الحر النيّر.


غريبي بوعلام / الجزائر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.