أعلان الهيدر

الجمعة، 10 يناير 2020

الرئيسية الرواية بين مطرقة المرجع وفضاء التخييل. قراءة في رواية (الديوان الأسبرطي ) لعبد الوهاب عيساوي

الرواية بين مطرقة المرجع وفضاء التخييل. قراءة في رواية (الديوان الأسبرطي ) لعبد الوهاب عيساوي

حسن قطوسة



مما لا شك فيه أن هذا النوع من الروايات (الرواية التاريخية )أو (رواية التخييل التاريخي ) صار سمة تغلب على كافة النتاج الروائي العربي في في السنوات العشر الأخيرة بشكل يجعلنا أن نصف هذا التوجه بالظاهرة ، فما الدافع وراء هذا النوع من الروايات ؟وهل عجزت أقلام الروائيين عن مواجهة واقعهم المتشظي في كل مكان ؟ وما الجدوى الكتابة عن أحداث ومكان وزمان وشخوص يعرفهم كل الناس ولهم مكان في الذاكرة ومدونة التاريخ الكبرى ؟؟
العلاقة بين الرواية والتاريخ وفق منظور الدرس النقدي صعدت الرواية في أوروبا في القرن التاسع عشر تزامنا مع صعود علم التاريخ ،ولأنهما (الرواية والتاريخ )يصبان في بحر الحكاية كانت العلاقة بينهما وطيدة بسبب روابط الدم التي لن تنفصم(فالتاريخ عماده السرد والزمان والمكان والشخوص والحكاية وكذلك الرواية )، ولأن لكل رواية موقف من الحاضر الآني ، وصف بعض النقاد والتر سكوت بأنه مؤرخ العصر الحديث حين كتب ٤٣ رواية عن التاريخ الأسكتلندي، وكذلك نعت بلزاك بهذا الوصف حيث كان متابعا لكل التغيرات الاجتماعية في فرنسا في كل ما يكتب، ومن أراد أن يعرف طعام ولباس وعادات وتقاليد المجتمع الفرنسي عليه أن يقرأ إميل زولا قبل كتب التاريخ المكدسة بأحداث ومعلومات جافة.

وعربيا بدأت الرواية التاريخية بعد الغرب عن طريق البستاني وجرجي زيدان الذي كتب تاريخ الإسلام في سلسلة روائية لم تخل من التزوير والتجاوز والتحامل، ولم يكن غرضه أكثر من تعليمي تربوي بحت، وأتى بعده علي الجارم وعلي أحمد باكثير وأبو حديد الذين كتبوا الروايات التاريخية بفنية أعلى حيث طرأ التطور على هذا الفن الذي دخل العالم العربي من خلف البحار دون أن تكون له أرضية خصبة كنظيره في الغرب . نستنتج مما سبق (وهو غيض من فيض )أن الرواية كفن أدبي انبجست من ينبوع التاريخ ،فهم صنوان أو وجهان لعملة واحدة وإن اختلفت الوجهة والطريق (فالتاريخ يستعير من الرواية السرد وقوته والرواية تتغذى على الأحداث التاريخية وتعيد تشكيلها ) فالعلاقة وطيدة في حين وإشكالية في حين آخر.



الروائي والمؤرخ

المؤرخ يسرد الحوادث التاريخية المفصلية وسير الأبطال والعظماء وفق رؤيا إيديولوجية معينة وضمن اطار لا يستطيع تجاوزه ، ومهما حاول أن يؤسطر الأحداث ويعطيها نسقا متجاوزا ،لا يستطيع أن يخرج عن رؤيا أو رواية ما مضى ، لذا تتعدت الروايات التاريخية لحادثة تاريخية واحدة، وذلك بسبب تعدد الأهواء واختلاف السياق الذي يعمل به المؤرخ . أما الروائي فلا يعتمد على مبدأ السببية ولا يعني بكل ما دونه المؤرخ من أحداث لأنه يعتمد في رؤيته على ما يجب أن يكون وليس ما مضى أو ما كان ، لذا تراه ينتقي ويفاضل ويوازي ويكثف في تناول الحدث والشخصية حتى لا يكون نسخة كربونية من السردية التاريخية التي يسعى لتفكيكها أو إعادة قراءتها قراءة واعية ومعاصرة .
الديوان الأسبرطي


العنوان كحلية وحيلة فنية متعددة الدلالات

لا أبالغ ولا أتجاوز المنطق إن قلت إن عنوان هذه الرواية من أكثر العناوين المثيرة التي جذبتني في الآونة الأخيرة، لما فيه من مرواغة فنية وتوظيف ذكي للتاريخ وصدمة للقاريء ، فهو العتبة التي تصدم جبهة القاريء وتدفعه للانتباه واليقظة فيركض في متن الرواية حتى يعرف الديوان الأسبرطي الذي بنيت الرواية على سوره المتين (الرواية تتحدث عن احتلال فرنسا للجزائر 1833 م وحين سلم الأتراك لهم هذا البلد باتفاقية ذليلة ، الديوان الأسبرطي هو مذكرات أو معلومات كتبها قائد الحملة العسكرية على الجزائر (كافيار )حين عاش فيها ردحا من الزمن ، وقد سمى مدونته (الديوان الأسبرطي ) عن قصد في محاولة منه لإعادة أمجاد نابليون وفرنسا العسكرية وتيمنا بأسبرطة التاريخ العسكري ، وهذا ما حرصت فرنسا على تجسيده في الجزائر ) عنوان ينم عن ذكاء وصدق فني ويشي بكاتب سيكون له شأن بين الكبار .


تعدد الرواة ووجهات النظر وموقع الراوي

غالبا لا تخرج الرواية التاريخية عن نمط الرواي العليم المحيط بكل شيء ؛ لأنه أنسب للرواية ذات المرجع التاريخي التي تعتمد على مبدأ السببية ، إلا أن الكاتب تخلى عن هذا السارد ، وأفرد فصولا كاملة لأبطال الرواية كي يحدثنا كل منهم عن قصته وقصة احتلال الجزائر، فجاءت الرواية على شكل شهادات لشهود عيان عاصروا تلك الفترة دون التورط بأحداث كبرى تطغى على السرد وتفقده سلاسته وتدفقه ، والشخصيات هم :
ديبون:صحفي فرنسي رافق الحملة ورأى بأم عينيه الجنود الفرنسيين وهم ينبشون قبور الجزائريين من أجل تصديرها لفرنسا وطحنها لتبيض السكر أو عمل تحف أنيقة ،يحاول هذا الصحفي أن يرأب الصدع بين الشرق والغرب ،لاسيما أنه كان صديقا لكافيار قائد الحملة لكن تذهب محاولاته وجهوده أدراج الرياح .
كافيار : من جنود نابليون وقد شهد معركته الأخيرة في واترلو وانكساره وهو بالأساس صياد رنة ،يتم أسره عن الأتراك في الجزائر كأي عبد ، ثم يتم تحريره من الأنجليز ، ليقرر العودة للجزائر على رأس حملة عسكرية كبيرة مقررا الانتقام من كل شيء .
ابن ميار:أحد وجهاء الجزائر وشيوخها سياسي براغماتي يحاول عن طريق الاعتراض والاحتجاج ورفع المذكرات أن يحسن أوضاع الجزائريين ويطالب الفرنسيين بالرحيل ،يذهب لفرنسا لمقابلة الملك ليخبره عن تجاوزات جنوده ،لم يقابله الملك وتبوء كل محاولاته بالفشل حتى يداهمه المرض، فيقرر الرحيل لأسطنبول منفاه الاختياري ،إذ أكد أكثر من مرة أنه عثماني الهوى ويفضل عودة الأتراك الذين لم ينتهكوا مسجدا أو يصادروا عقارا رغم أنهم لم يبنوا مشفى واحدا .
السلاوي : من أحب الشخصيات التي تفاعلت معها، فهذا الرجل البهلوان كان ضمير الجزائر الحي ، ولو لم إلا ثائرا على كل من حكم الجزائر من عثمانيين وفرنسيين، دوما يحرض على الثورة حتى أنه قتل (المزوار )القواد الذي كان يمتهن النساء وانتهى به الأمر ثائرا في صفوف الشيخ القائد عبد القادر الجزائري .
دوجة :جزائرية أصيلة ابنة فلاح كان يعمل في أحد القنصليات ، غادرت بيت القنصل بعد وفاة أهلها جميعا فوقعت في وكر الدعارة ، إلى أن رأها السلاوي فأنقذها وذهب بها لمنزل ابن ميار وزوجته الطيبة ،كأني رأيت الجزائر في هذه الشخصيات التي تقلبت بها الظروف ولم تكن إلا في انتظار السلاوي في نهاية الرواية .
وكما نلاحظ مليا وبوضوح الرواة هم (صحفي فرنسي،قائد الحملة الفرنسية ،سياسي جزائري ،ثائر من عامة الناس ، صبية تتقلب بها الظروف بين الدعارة والطهر ) كسر هؤلاء جميعا التاريخ السلطوي المركزي الذي لا يحفل بالعامة والفقراء والمهمشين ،وتحدثوا عن تفاصيل لم تكن تحفل بها كتب التاريخ الجافة ،وبذلك طغى السرد المتشبث باللحظة الحاضرة على المرجع التاريخي الذي كان اطارا للرواية ، ومن هنا أيضا تأتي أهمية هذه الرواية التي قالت ما لم يقله التاريخ الرسمي عن احتلال الجزائر ، وقد نجح الكاتب في تجسيد رؤيته بمهارة فنان محترف .



السرد واللغة الروائية

عماد أية رواية السرد الفني السلس المتدفق دون عوائق ، واللغة الروائية في هذه الرواية كانت منتقاة بعناية وغير ملتبسة مع التاريخي وإن جاورته ، بمجرد أن تلمس الصفحة الأولى لن تتوقف إلا في الصفحة ٣٨٨ . مآخذ على الرواية غلبة المونولوج الداخلي الذي كاد أن يوقع الرواية في عاطفية ساذجة لا يجوز إن تطغى على روايات لها مرجع تاريخي.
الصدفة السطحية التي جمعت ابن ميار وديبون لم تكن مقنعة أو واقعية، كانت صدفة محضة سطحت أحداث الرواية . كان على (دوجة ) أن تكون أكثر فاعلية ولقد أعطيت لها مساحة كبيرة غلب عليها الثرثرة.
رواية تستحق القراءة والدراسة أهنئ كاتبها عبد الوهاب عيساوي وأنصحكم وبشدة بقراءتها جمعتكم دفء .


حسن قطوسة / شاعر وكاتب فلسطيني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.