أعلان الهيدر

الخميس، 31 أكتوبر 2019

الرئيسية قراءة في قصة قصيرة ( طريق ) للقاصة الأردنية رولا العمري

قراءة في قصة قصيرة ( طريق ) للقاصة الأردنية رولا العمري

الأستاذ غريبي بوعلام
غريبي بوعلام





القصة

طريق

تتسلل خلسة خلف الجدران، تختفي خلف شريط الزينة تراقبه وهو يرسم ابتسامة عريضة على وجهه، تلك الابتسامة التي طالما كانت لها حياة... تنظر إليه و تتذكر كيف رأته لأول مرة. كانت تنتظر كل صباح لتشرق شمسها في عينيه، كانت تتباهى بشعرها الأسود المنسدل على كتفيها ترمقه بعيونها التي عاش فيها الربيع طول العام، تلتفت لتلمحهم جميعا ، يتغزلون ويرمون همساتهم التي كانت ترضي كبرياءها ، إلا هو، كانت تنتظر وجهه لترضي قلبها. طريق المدرسة هو طريق الحكايات التي تبدأ ولا تنتهي، بالنسبة لها على الأقل. كان لؤي يتأملها متوخيا الحرص على أن لا يرى أحدا تلك اللهفة التي تنتابه حين تمر من أمامه، مها ... ذات العينين الخضراوين، يكللهما رف رموش سوداء، يراقب الكرز في شفتيها، ويتوق إلى قطاف قريب، لم يسمع نداء أصدقائه له حين دَعوهُ لكي يراقب بقية الفتيات، فقد استحوذت على كل انتباهه، وكأنها قبيلة من النساء. مرة تلو الأخرى تتوطد العلاقة بين العيون، يراها يحدثها بصمت ، وتراه وكل ما فيها يدعوه لها. استدارت وأخذت طريقا غير الذي اعتادته، توقفت و نظرت إليه ودعته بعيونها ، فهم الرسالة وتبعها، مشت إلى أن وصلت إلى مكان بعيد ، فالتقيا أخيرا، "كم أنتِ جميلة" كانت أول كلماته لها ، أشاحت بوجهها محمرة الخدين خجلا، وتابع " كنت أنتظر الصباح كل يوم لأحظى برؤية وجهك، وشعرك ... وهذه الشفاه كم أخذتني إلى عالم آخر، " نظرت إليه بدهشة وقالت " أنا أيضا، لم يلفتني أحد غيرك ، أتجاهلهم جميعا و كأنك كل الحضور، " تابعا الحديث، و استمرت اللقاءات التي كانت تنتهي بعناق... وربما قبلة. اشتد الشوق في القلب وتسامرت الأحاسيس فلم يعد يطيق الانفصال عنها في نهاية اللقاء، مأخوذة بسحر كلماته كانت تنصاع له ببقائها عدة دقائق، حتى أتي ذلك اليوم الذي انصاعت لرغبته ... وبقيت ساعة كاملة بلا عقل، بلا تفكير ، مأخوذة مرة أخرى بسيطرة غريزته التي لم يضع لها حد، حتى استفاقت مصدومة من فعلتها، لم تعد تعرف كيف ستتصرف مدهوشة خائفة مسلوبة الإرادة، بل كل شئ ! نظرت إليه نظرة استغراب حين كان يشعل سيجارته وينتشي بدخانه، كانت تتفجر باكية نادمة ، صاح بها " لا تقلقي .. سيكون كل شئ على ما يرام، أنتِ لي و إلى الأبد ، لن يفرقنا إلا الموت." في كل مرة يفعلها كانت كلماته كالبلسم على مسامعها، تخدر ضميرها المشتعل تحت نار أقوى ... الحب. تمر من أمامهم ، لكن شئ ما مختلف، تلك النظرة اللامعة، وذلك الوجه المضيئ، لم يعد كما كان ، وكأن أنوار وجهها قد انطفأت ، وذلك الشعر الأسود لم يعد يجذب انتباهه، أصبحت تمر من أمامه، فلا يلقي لها بال، يلقي النكات مع أصحابه ، ويوزع ابتساماته، فلا تحظى بواحدة بعد الآن، إلا إذا انحدرت من ذاك الطريق؛ فإنها تحظى بإرضاء شغفه ومتعته. تلاحقت الأيام سريعا، إلى أن جاء ذاك اليوم الذي لم تحسب له بال، شئ ما اختلف فيها .. شئ ما أثار الذعر في نفسها، تتقيأ! "يا إلهي .. لا..!! " كانت تعرف تلك العلامات من زوجة أخيها وما كانت تعانيه ،وحسابها لكل شئ ، فكانت النتيجة واحدة... حامل ! استلقت على سريرها مذعورة خائفة تجهش بالبكاء، لم تقوَ على التفكير ، كل شئ مشوش، وكل شئ أعادها إلى تلك الطريق حين انحرفت ودعته بعينيها، كانت تغيرًا لكل شئ في حياتها، ليس فقط طريق المدرسة. دخلت أختها الغرفة تتفرسها بعيونها وتحمل في يدها جهاز كشف الحمل الذي نسيته في الحمام من وهل الصدمة، كانت تريد أن تسمع أي شئ يكذب حدسها، إلا أن الدموع ووجهها الشاحب كان فيهما الرد الفاضح لكل سؤال لم تسأله، لم تسعفها يدها في هزها و نهرها و ضربها، بل راحت تصرخ في وجهها، " لماذا دسستِ وجهنا في التراب ! لماذا ؟ لماذا لم تموتي قبل فعلتك هذه، وبماذا كنت تفكرين حين فعلتها؟ ألم تفكري في أمكِ ؟ أبوكِ؟ اخوكِ ؟الذي لو علم ؛ لأفرغ مشط الرصاص في رأسك.".! ولأن الحظ لم يكن معها، كان أخوها خلف الباب، يسمع كل كلمة قالتها أختها و لكن ، ادخر كل شئ في نفسه ، و ولّى وجهه خارج المنزل يستشيط غضبا. ضحكت أختها ضحكة ملؤها السخرية وهي تذرف الدموع على ما صنعت و ألقت على مسامعها الخبر الذي لم تكن تتوقعه، " أيتها الغبية ، اليوم حفلة خطبته على صديقتي جيهان"، كعادتهم .. فهم لا يذهبون إلى الجامعات وينتظرون العمل، الورشة التي يملكها والده ؛ كفيلة بأن تأمن مستقبله ومستقبل إخوته. فيصبح لكل منهم بيتا وزوجه في سن مبكرة. ضربتين في الرأس قد تفجره ، لم تستوعب ما قالته أختها وانهارت باكية تشد شعرها وتمزق ثيابها ندما على فعلتها فهل الندم كاف ليعيد لها ما خسرت! ...قطع حبل أفكارها أزيز الرصاص الذي أطلقه هو و أبوه فرحا في سماء ليلة صيفية، لكن رصاصة واحدة لم تكن للفرح قط..! سقطت بها قتيلة أمام أخيها.. الذي أطلق رصاصته وصاح مناديا مولولا على جثة أخته. وسط حشودً تبكي؛ ترك لؤي عروسه، نظر إليها مصدوما، اقترب يبكي بكاءا هستيريا، خسر كل شئ في عيار طائش، هكذا آلت التحقيقات التي أرجعت سبب الوفاة إلى طلقة في الرأس أصابتها بالخطأ. حكاية عجزت أن ترويها رصاصة، ظل صراخها يعلو من تحت التراب، كل ليلة يسمعها ذلك الجاني الذي يقبع على كرسيه، في مستشفى الأمراض العقلية

. رولا العمري/ الأردن.

---------

القراءة

موضوع القصة معروف في مجتمعاتنا العربية، و مطروح في الأدب العربي الحديث و المعاصر، سواء في القصة القصيرة أو القصة القصيرة جدا أو حتى في الرواية، من القراءة الأولى للقصة يدرك القارئ معناها العميق و مغزاها الدقيق، رغم ذلك القاصة اجتهدت كثيرا لتعيد صياغته في حلة أدبية راقية و جذابة، مرصّعة بكثير من الأدبية، حيث تغلغلت بسهولة إلى أعماق القارئ كالماء في ظمأ الرمال، و تستقر فيه تاركة فيه ذلك الأثر البليغ، الذي لا يذهب بسهول مع مرور الزمن، خاصة و هي تداعب مشاعره بذلك السحر الأدبي المتأنق بكثير الحزن و شوك الأسى و الألم على بطلة القصة ضحية مشاعرها المتأججة، التي خذلها لجام فكرها في لحظة سَكَر عاطفية أوصلتها إلى الترنح الروحي و ذهاب العقل و سقوطها في متعة لم ينجُ منها إلا يوسف عليه السلام، و كانت نهايتها غرس رصاصة واحدة في جمجمتها التي لم تتمكن من كبح جماح قلبها و هو يتدحرج بها إلى هاوية لا قرار لها، و هكذا تم غسل العار بدمها، و الجاني خرج كالشعرة من العجين من حلبة الصراع.

القصة محبوكة حبكة جيدة، مغلفة بالترجيديا، مكللة بتاج المأساة، متماسكة في سردها الممتع بأسلوبها المتين، الذي لا تكلف فيه،و كأنها خرجت دفعة واحدة من أعماق القاصة، كالمولود من الرحم،بعد مخاض عسير في محبرة موهبتها المسكونة بهاجس الإبداع، تمكنت من سرد أحداث القصة الطويلة في قالب أدبي قصصي مكثف جدا، اختزلت المعنى الكبير في أقل كلمات و أجزل العبارات، تمكنت من تكثيف زمن القصة بطريقة عجيبة و مدهشة، لا نجد فيه ثغرة تثقب السرد القصصي، أحسنت اختيار كلماتها بعناية ملفتة للنظر مستعملة في ذلك صور أدبية بيانية، عمّقت الفكرة الرئيسية للقصة، و جمّلت الصياغة الأدبية كما تضع الأنثى حليّها على جمالها الظاهر.

أحسنت التمهيد لعقدة القصة، تدرّجت في تعقيدها بشكل تصاعدي في سردها، الذي كلما تقدمت فيه تشعرنا بقربها من القمة أو الذروة، بعدها أخذت في النزول رويدا رويدا إلى أن وصلت السفح، فكانت تلك المأساة المؤلمة جدا في النهاية، كل هذا جعل القصة متماسكة في نسيجها، و مُحكمة في بنائها مما يدل على تمكن صاحبة القصة من أدواتها الإبداعية، و حسن استعمالها بأسلوبها المتأنق في القص و تتبع الحدث المكثف دون الاخلال بعمق المعنى و لا السقوط في ثغرة سردية و لا المباشرة التي تقتل الإبداع القصصي، تتابع أحداث القصة كان منطقيا في تسلسله، لا نجد حدث مقحم بالقوة و لا يخدم التسلسل الحدثي و الزمني للقصة.

العنوان ( طريق ) في رأيي لم يخدم كثيرا عمق القصة و مغزاها البعيد، و العنوان في فن القصة بصفة عامة، يجب أن يشمل موضوع القصة بالإيحاء و الاشارة فقط كي لا يقع في المباشرة التي تفضح و تكشف المعنى العميق للقصة، و هذا لم نجده في العنوان.

القصة تبين العذاب النفسي العميق الذي تتخبط فيها الأنثى بصفة عامة في مجتمعنا العربي الإسلامي، الذي يحاول البعض التستر عليه، مع ذلك كاتبة القصة ( و هي أنثى ) تجرأت و كشفت ذلك المتستر عليه كثيرا في مجتمعنا بكثير من الشفافية و الوضوح، و تمكنت بقلمها الفذ من الكتابة عليه بأسلوبها الأدبي المميز، خاصة أن موضوع الجنس من الطابوهات التي تكبل مجتمعنا، و لا يحق لأحد الحديث عنه خاصة من طرف المرأة، هنا نرى جرأة المبدعة في اقتحام ذلك الممنوع بكل حرية، و الحديث عن تلك العلاقة الجنسية في قالب قصصي دون خدش المشاعر و لا الوقوع في الوصف الدقيق لتلك العلاقة، لأن هناك من الأدباء مَن يحب الاسهاب في وصفها إلى حد الاثارة.

كما تطرقت القاصة إلى مفهوم الشرف في مجتمعنا، و نظرتنا الثابتة له، في نظر القاصة لا و لن تغيير مهما تقدم و تغيير الزمن، و كأن المبدعة تطرح السؤال بأسلوبها غير المباشر، لماذا تحصرون الشرف فقط جسد الفتاة أو المرأة؟ الرجل ينادي بوجوب الحفاظ على الشرف( و هو قيمة عليا ) لكنه هو من يلطخه و يمرغة في الأوحال، لماذا الأنثى التي تفقد شرفها هي وحدها من تدفع الثمن بدمها ؟ و الرجل الذي كان من أسباب قتل الشرف، لا يُعاقب و يمنحونه كل البراءة و هو الجاني أو من شارك في الجريمة، القاصة هنا تفضح ذلك النفاق الذي يزخر به مجتمعنا، ذلك المجتمع الذكوري مع الأسف الشديد، و هل من الضروري أو الواجب أن ينتهي دائما ضياع الشرف بالدماء؟ هذه بعض الأسئلة و أكيد هناك غيرها تواجه القارئ، و تحثه على التفكير فيها عساه يهتدي إلى تفسيرات و اجابات أخرى مقنعة بحيث يكون هناك تغيير ايجابي، حتى من هذه الناحية أبدعت القاصة و هي تحوم و تدور حول هذه الأسئلة بالإيحاء و التلميح، و ما على القارئ النبيه إلا اصطيادها من عمق تلك القصة، تمكنت من تمرير رسالتها بحرفية كبيرة، و دون صِدام.

كما يمكن رؤية هذا النص الأدبي من زاوية أخرى المتمثلة في الوعظ و الارشاد، لكن بطريقة غير مباشرة (و إن كان الوعظ و الارشاد يسقطان النص الأدبي في المباشرة ) فالقاصة تقول بطرقتها الأدبية الخاصة، اياكِ أيتها الأنثى الوقوع في هذا الجب بسبب قصة حب، الرجال ذئاب جائعة يخفون كبتهم خلف كلماتهم المعسّلة، بعد قضاء الحاجة تسقط أقنعتهم، و يتركونك تغرقين وحدك في دمكِ داخل ذلك الجب، ثم ينتقلون إلى أخرى، لكن حسب رأيي أميل أكثر إلى الجانب الأول، أكثر من هذه الرؤية الثانية، لأن القاصة تريد أن تبث ثورتها الصامة من خلال سردها، و تبحث لها عن الصدى القوي في المجتمع عسى أن يكون هناك تغيير ايجابي.

كما تمكنت القاصة من تصوير الصراع الرهيب الذي احتدم في حلبة ضمير البطلة بكثير من الدقة و الشفافية، بغوصها إلى أعماقها و اصطياد تلك المشاعر الدقيقة، و نقلها بغليانها الشديد إلى وجدان القارئ، و التفاعل معها بقوة، في المقابل حبيبها ( إن كان فعلا كذلك) لم تعد إليه كثيرا بعد تلك المصيبة، انسحب من القصة ببرودته العاطفية، و كأنه ليس هو المذنب، و إن كان في رأيي هما الاثنان سبب تلك المصيبة، و ثمن فعلتهما يدفعانه سويا.

البطلة من خلال السرد القصصي أحبت فتاها حق الحب، لكن بعد أن وقع لها ما وقع لم تشر الكاتبة إلى حبها الصادق، ربما غفلت عنه، أو ربما سبب ذلك هو هول المصيبة التي وقعت فيها، أنستها صدق مشاعرها، التي ماتت من شدة عذابها النفسي، أو ربما حتى البطلة كانت هي كذلك كانت ضحية نزواتها المكبوتة مثل فتاها الذي أحب جسدها فقط و هي كذلك كانت تبحث عن نفس الاشباع دون التفكير في العواقب الخطيرة، كأن القاصة تركت ذلك للقارئ يستخلصه لوحده من خلال فهمه و إدراكه لعمق القصة، أو القاصة تريد أن ترسم لنا معادلة مفادها أن الحب يساوي الجنس و النتيجة هي الموت الحتمي للأنثى و هذا حسب ما نراه في مجتمعنا.

----------

غريبي بوعلام / الجزائر.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.