أعلان الهيدر

الأحد، 22 سبتمبر 2019

الرئيسية .المصنفون تحت الصفر

.المصنفون تحت الصفر

أنور زير


كل المعطيات تشير بأن هذا المساء لديه ما يبوح به على كرسي الاعتراف المستقر هناك في مقلتي الغروب الحمراء مضلع الأطوار.
وأنا على قارعة التأمل أتجرع كأس الهدوء من الغموض المثبت على أطراف المدينة المترامية في زرقة الإكسير العابر.
فإذا بصورة فتى مرسوم على جبهة خريف منسي في شعب الزمان.
رغم ملامحه المحملة بغيوم الحزن الترابية.
كان نور بشرته البيضاء يتذيل فيفر من دخانه الخانق إلى براءة مبتسمة مغلقة العينين خوفا من تسلل عدوة اليأس المنتشرة في كل مكان...
في ذات محطة أين تعطل الزمن عند شاكلة ليلة هادئة غير أنها شديدة السواد
خرج هذا الطفل البريء لحضن الحياة...
كانت صرخته الأولى عند الولادة قوية جدا لحد أنها أفرغت كل معتقدها من الصبر والتفاءل في فؤاد أمه بالرغم من أن جماله الملائكي كان يتجانف عن ذلك البكاء...
كأنه كان يعلم كل شيء.
وعندما جابه عقرب الزمن الذي لم يلتزم بمداعبة الصغار من أمثاله لأنه ينفر من حبوه.
تارة يعلمه السرعة حتى يتعثر فينكب على رأسه ليصعد من الأرض غضب وكأنه فوهة بركان تريد أن تلتهم الجميع...
وتارة يعتزل لعبة المطاردة فيستقر في زاوية ما ليسمع من أمه قصته المفضلة الموسومة ب : *فارس الظلام*.
كلما وصلت الأم لختام القصة كانت الابتسامة مستعدة أن تقفز من شفتيه الشاحبتين ويردد مغمغما : -متى يزورني ذلك البطل ليأخذني معه في رحلة ونزرع الورود التي ذبلت وهي بين يدي الناعمة.
ثم يدخل دولابه العجيب مسترخيا في فراشه المدجج بأحلام خضراء.
حتى ذلك الوقت يستيقظ الفتى على رنين مدوي !
كانت الدقة الكبرى كافية لأن تفتح أذنيه أكثر على ضجيج مرصع بعلامات الاستفهام والتعجب من نافذة ما على قلبه الذي نسي إغلاقه بالكامل.
إنه لا يبالي كان يثابر كل صباح مع الثامنة ككل شاب كادح كي لا أجحف في الوصف
نفس طلعة الشاب العشريني في قامته ولباسه الأنيق... حتى النظارات لم يصل لقناعة تامة بوضعها ويغش الحياة في لعبة المظاهر.
في يده اليمنى عصاه البيضاء يحمل في جوفه سلة من الابتسامة التي لا يتهاون في تذكرها وكلما صادف شخصا عند باب الجامعة يهديه إياها بكل ما أتى من بصيرة.
ثم يمضي بين أسراب النظرات المتغيرة ألوانها .
فهذه تعبق بشذا الإعجاب والتشجيع.. والأخرى تفوح منها رائحة الماضي البعيد فتكاد تذبح قلبه من فعل رأسها الحاد...
كل يوم كان يتوجه مع صديقاه لمطعم قريب من الجامعة ليتناولوا وجبتهم المفضلة قبل عودة الدوام... دائما يحجزون الطاولة المنزوية هناك في آخر المحل يجلسون فيملآن المقاعد الثلاث وكان المقعد الرابع لضميره الذي لا يمل من محاورته في كل خطوة يخطوها...
وكأن منظر المحل يناسب مقاس روحه البسيطة كل شيء قد زين بطلاء أبيض والأسود.
عند الانتهاء من الطعام الذي كانت كل لقمة منه تمر مع خبر يجفف الحلق برشة من الملح فتزيد ليتغير طعم الحياة يوما بعد يوم... حتى تلك البطاقة الزرقاء أصبح منظرها كالممسحة الموضوعة على طرف الطاولة لا تسمن ولا تغني من جوع.
بعد قسط من الهدوء المفاجأ يقرر الثلاثة الانطلاق من جديد
ما يهم الآن هو الاستمرار فقط.
لا يريد أن يضيع هدية الرب له بأخيه وصديقه الذين تعاهدا على كسر أغلال العجز الفولاذية التي كانت تحاط بهم من كل مكان...
لقد اشتركا في بعض السلوكات الغريبة عن عالمهم لأنهما لا يفضلان تناول الحلوة ولم ينال منهما شغف ألوانها المزركشة خلف حجاب زجاجي.
ما يميزهما فقط هو وضع نكاشة في فمهما فصقلان اعوجاج المزاج بصمت.
وعندما يكاد النهار يلفظ أنفاسه.
يكون الجميع قد مل من جو الاعتياد فيعزموا على ترك العذاب لحين.
يجلس هو وصديقاه على هامش رصيف ما خارج هذا العالم.
ينظر للذكريات التي لا يجدها إلا في جعبة "نور البصائر" ليدور الأمل حول نفسه فتصبح صورته معكوسة في سراب بؤساء من عقم السعادة ويرتاح على اعتراف الصورة بأن الغد سيحمل فئته على سفينة نوح إلى بر الأمان متجاهلا المستقبل المرتج كأنه ثعبان يرقص السامبة على أصولها.
إما أن يرتب قصاصات الأمل المتناثرة ويحكم إلصاقها على عينيه البيضاء فيخفي آثار الحزن المتبقية ويبعد لسعات البعوض الكثيرة.
في قصيدة متجعدة الأطراف ويدير ظهره للرياح القادمة من أفواه عالمهم القبيح.
إما أن يمارس معتقداته الفطرية كتذوق موسيقى كلاسيكية يسد بها رمقه الذي لم يلتقي بالشهية منذ زمن.
حتى يرتد إليه طرفه عند ظهور بسمة أمه في هلال هناك على كبد السماء
يتلو عليهم بعضا من صفحات معلمته اللطيفة ولا يكملها.
كل يوم يتوقف عند سطر واحد فينفجر نورا وابتسامة وكأنه ولد من جديد.
أخبره الجميع أن يزور طبيبا لعله مصاب بلعنة حمار الليل.
ولكن سرعان ما باءت شكوكهم بالانزلاق والتلاشي.
حين أخبرهم الطبيب بعد التشخيص بأن علمه وخبرته في طب الإنسانية لا يعرفان الكذبة البيضاء ولا ينافقان كذلك لا يجيدان الخرافات التي حشيت في أدمغت البشر منذ القدم... كما أنهما لا يهمشان أي وظيفة عضو من هذا الجسم : -لقد وصفت له من أدوية الحياة ما يساعده على تجاوز مرحلة الغرابة ويتدحرج لمرحلة السعادة على ضفتي الخيال... لن تنفذ أقراص شعره الفوارة حتى تنتهي صلاحية الطفولة الملونة.
ضل الفتى على حالته الأزلية غير مبالي للفوضى والاحتفال المفخخ الذي أقيم على شرفه...
نفس ملامح أيلول تطبع على وجهه الناصع وهو حاملا كتابا بين يديه.
يمرر أنامله على بعض الأسطر الخشنة ويخبرهم بأنه بخير عند كل مرة.
احتار صديقيه قبل الجميع من عادته السيئة وعندما قذم الفضول من وشاح سره
قررا الاطلاع على ذلك السطر الذي لم يظهر مع مجموعة الحروف العادية.
فوجدا في أعلى الصفحة السوداء حروفا بيضاء تقول :*كن جميلا ترى الكون جميلا*.
الآن زهق الضباب الذي كان يخيم على روح الفتى الخريفي وفهما جيدا لماذا كان يبدو دائما طفلا مشعا ولم ينتقم يوما من العالم والمجتمع الذي حضنه بكل صدر معتصر.
الآن فهما قصة الشمس التي كان يريد لإمساكها مبتسمة في فصل الخريف ويذهب بها يتمطى إلى عالمه فيضعها على ترائب كبير القوم فتنتهي قصة التهميش ويعتبر الكفيف من صنف الكرامة التي من حقها رؤية النور...


''أنور زير''

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.