أعلان الهيدر

الجمعة، 5 أكتوبر 2018

الرئيسية قراءة في ديوان ( سِفْرُ التَّوسُّل ) للشاعر محمود حسن

قراءة في ديوان ( سِفْرُ التَّوسُّل ) للشاعر محمود حسن



سعاد الزامك
لن أتحدث عن الديوان كناقدة أو كشاعرة فلن أدعي شرفاً لست أهلا له ، فللنقد أسس و معايير و أسلوب خاص ، لكن أسمحوا لي أن أتحدث كمتذوقة فقط تتحدث عما استشفته من معاني و جمال .
لنتمهل قليلاّ في محرابِ عنوان الديوان ( سِفْرُ التَّوسُّل ) .. لِمَ اختار الشاعر محمود حسن ذلك الاسم تحديداً و هو اسم القصيدة التي استهل بها ديوانه ؟ منذ أول وهلة عندما قرأت الاسم راودتني أسئلة حيرتني كثيراً عن سبب التسمية .. هل شاء الشاعر أن يصحبنا معه كي نقلب في سِفْرِهِ عن كوامن كلماته ؟ هل قصائده استقاها من ينبوع التوسل إلى الله عز و جل ؟ أم يدعونا إلى توسل من نوع آخر ؟
بالإبحار في أشعاره نرى أن أقلامه تتنوع ، فتارة تنبض بالطفولة ، و تارة تزخر بالصبابة ، و أخرى ثائرة و غيرها من أعاصير الروح المثقلة بالهموم ، كل تلك الأقلام ترتع بنعومة البوح و النظم في وديان رهافة الأحاسيس . يلاحظ المتلقي ذلك التغيير في القصيدة الواحدة و قد نُسجت بوعي ثقافي و حنكة شعرية كبيرة مما لا تؤثر بالسلب على القارئ ، و لا تُنفره من تقلب مزاج ذلك القلم المباغت .. فمثلا عندما تنساب قصيدته من الحب إلى الثورة فهي تنساب بسلاسة مطلقة و بمفرداتها المُعطرة بعبق الصور البديعية الرائعة فتمر كخرير حريري على ناظرينا و كنسمات ربيعية على وجداننا .
من يقرأ للشاعر محمود حسن يكتشف نشأته في بيئة دينية و ثقافية سليمة من خلال معجم كلماته الفريدة ، فكثيرا ما يستحضر للقارئ قصة قرآنية أو أسطورية في ثوب جديد ليُعبر بها عن غايته فى استخدام جديد غير مستهلك ولا مكرر ليخلق منه رؤية جديدة ومغايرة تسقط النص فى أرض الواقع فهو يلمح ويقتنص ولا يغترف من النص اغترافا ويحيل ويكنِّى ولا يسمى مباشرة 
و الأمثلة كثيرة على ذلك سوف أذكر بعض منها فيما بعد .
هيا معي لنتجول على مهل في أولى قصائده و تاج الديوان ( سِفْرُ التَّوسُّل ) ، بدأ الشاعر محمود حسن ببيتين رائعين أراهما نبع الابداع ذاته حيث قال :
فيضٌ من النَّهرِ أمْ ماءٌ على الجبلِ
لا عاصمَ اليومَ من حرْفيْنِ في الجُملِ
من منا يُنكرُ أن أنهار المشاعر تنهمر من نبع ذي حرفين ( الحاء و الباء ) ؟ تلك الأنهار إما أن تفيض فتُغدق بالسعادة على العاشقين ، أو تنحصر في منبعها فوق الجبل ( القلب ) منتظرة بلوغ مأربها فيمن يُقدرها . صورة بليغة أرى فيها التضاد الذي يُجمل المعنى و يُكمله ، رفع الشاعر قَدْرَ القلب إذ شبهه بالجبل ، فالجبل ذو الأوتاد الراسخات ، و سفحه المزهر بالبساتين و الأنهار ، و قمته الشامخة حَريٌّ به أن يُماثل الفؤاد العاشق ، ألا تدفعنا تلك الصورة الفخمة إلى قراءة ما بين السطور للوصول إلى لُب القصيدة .
( سِفْرُ التَّوسُّل ) قصيدة زاخرة بالصور و الإشارات الإيمانية التي تتجلى بوضوح ، فتذكرنا بمشاهد ذُكرت بالقرآن الكريم أو في السيرة العطرة فتحلق بنا في رحاب رحلة نورانية ، منها على سبيل المثال و ليس الحصر تلك الأبيات :
( هُزِّي إليكِ جذوعَ الوَجْدِ و اكْتَمِلي ) 
( و أنتِ وحدكِ حرفُ اللهِ في الأجلِ )
( منْ يسْتَمِعْ فَشِهابٌ إثرَ مُتَّصِلِ )
و قد ألهب اعجابي بشدة حين أثرى معاني الأوجاع حين قال :
زُمّي بِكَفَّيْكِ أوجاعاً سَتنْزِفُنِي
فماءُ هاجرَ دمعٌ سحَّ من مُقَلي
اسقاط رائع لقصة السيدة هاجر زوجة أبى الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام ، و قد تألق في الوصف و التصوير لأوجاعه و دموعه دون خجل أو كبرياء الرجولة فلا عيب في بكاء الرجل العاشق .
و ها هو يتغنى بأفلاطونية قصيدته إذ قال :
أنا بلا خطأٍ في الحبِّ يُخْجِلُنِي
و ما عبثتُ كما العشَّاقُ بالحِيَلِ
كما أمعن في التأكيد حين دعم معتقداته في الحب بصورة إيمانية أخرى إذ يُلمح إلى الحديث الشريف ( الأرواح جنود مُجندة ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف ) ، لكن الشاعر هنا أقر بأن الروح تبحث عن مثيلتها .. فهل هناك مشيئة لتلاقي الأرواح المتماثلة و بذا يكون الانسان مُخيراً ، أم هي الأقدار المسطورة بالغيب التي تُسيرهُ ؟ بقوله :
ما ذنبُ قافيةٍ أنْ قالَ شاعِرُها
و الرُّوحُ تبحثُ في الأرواحِ عن مَثلِ
ثم أردف بعدها بعدة أبيات بالاكتفاء بالروح دون الجسد مهما تاقت روحه للتلاقي حين قال :
إنِّي امْتلكتُكِ روحاً لا أجسِّدها
مهما يتوقُ عناقُ الوردِ لمْ تزَلِي


ثم قال ممعنا في ترسيخ حبه الروحي :
هِيئِي لبعثٍ فلا موتٌ يُفَرِّقُنا
في الحبِّ لا موتَ تبقى الرُّوحُ للأزلِ

مشاعر متضاربة بالقصيدة أرهقت الشاعر محمود حسن فبرغم حديثه عن الحب و الروح فما زالت جراحه و أوجاعه تُشاكسه ، فتارة يصرح بأن :
كمْ ألفِ مليونَ قد حجّوا على وجعي
كم همْ و كمْ شربوا من دمْعيَ البَطَلِ

و تارة يصوغ نتائج الأوجاع من سُهد و قلق قائلا :
و كانَ في عيْنِيَّ النَّوْمُ المُحالُ فما
إلَّا على قلقِ الأوجاعِ و العِلَلِ

و دائما يتخذ من محبوبته الملاذ و المأوى فهي التي تُضمد جراحه المُثخنة فيقول :
إني التَجَأْتُ إليكِ الآنَ من وجعي
مُدِّي يديكِ و خِيطي الجُرْحِ و اندَمِلي
جُرْحِي و إبْرَتُكِ الملْساءُ مُعْجِزَةٌ
تَخيِطُ لحماً على عَظْمٍ لِمُحْتَمَلِ

و في النهاية لم يخجل الشاعر محمود حسن من الاعتراف بطفولية تجتاحه و هو الرجل الرشيد حين قال :
إنِّي تَجاوَزْتُ كالأطفالِ في نَزَقي
عفواً فلا تَغْضَبي منْ طفْلِكِ الرَّجُلِ

و من وجهة نظري المتواضعة كقارئة وجدت أن الشاعر تميز في اختيار أسماء قصائده الخمس عشرة ، و التي عَدَّدَ فيهن أسماء شهيرة سواء كانت دينية أو تاريخية أو أسطورية و خلافه ، و إن نأى بالمضمون قليلا عن حقيقة الاسم المطلقة أو قصته . فمثلا في قصيدته ( عِشتار ) التي يعرفها الكثيرون بدأ أبياته بالتعريف بقصتها الأسطورية ( التي ترددت عبر العصور و إلى وقتنا الحالي على ألسن الشعراء ) فاحتضن لُبَّ القارئ بين أحداثها بفخامة كلماته ، ثم باغته بل صدمه بعاصفة غضب بللورية بَرَقَ فيها الواقع المُتردي المرير للوطن العربي عندما تساءل بما يجول بخواطر أغلبية شعوب الوطن :
يا كسرة الخبز
هل يمضي بطاوية
سيف المعز
و تبني مجدها الدول ؟
عندئذ يفيق المتلقي على وميض شُهب الحقيقة التي هطلت من مُزن كامن في علياء خوالجنا العربية ، و قد يتساءل المتلقي ما ممدى علاقة ( عشتار ) بواقعنا ؟ أعشتار هي تلك الدنيا بزينتها الفانية و التي أغوت بعض الطامعين بزيفها لاستلاب أوطاننا العربية و قهر شعوبها ؟
ثم عاد ليغرس حلمه المشروع ( الحرية ) في نفوسنا و يحث الأدباء و الشعراء لأن يسطروا بأقلامهم عن جهاد القهر حين قال :
يا أيها القلم
المغروس في رئتي
اكتب
فإن سجون القهر ترتحل

نعم أراه قد أحسن اختيار الاسم و التعبير عن آلامنا و جرحنا العربي .

بعض صفات المرأة و الحبيبة في ديوان الشاعر محمود حسن :
يراها روحاً لا جسداً و لا يعنيه التلاقي في الدنيا لخلود الروح إلى الأزل .
هي صِديّقَة طاهرة ترتق الأوجاع بمخيط الحب و الحنان .
طفلة تداعب الشوق برغم هنات نَزَقهُ .
أنثى تَفجَّر من شلَّالها مطرٌ .
عيناها تُعيدُ جنون مراهقته .

و أخيراً أتوجه بالشكر لذلك اليراع المتدفق و القلم الثائر بكل مؤثراته الأنيقة ، إنه حقاً شموخ الإبداع في أبهى حُلله . لا أظن أن القارئ سيمل أبدا من تكرار قراءة ( سِفْرَ التوسل ) ، حيث إن الإبحار بين حدائقه يرسخ مشاعر الانتماء و يُعزز الأصالة بالوجدان ، و يؤكد ملائكية المرأة و نقاء الحب الروحي .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.