أعلان الهيدر

الجمعة، 7 سبتمبر 2018

الرئيسية قراءة في رواية(ذكريات وأوهام) للروائية:آسيا عبد الهادي

قراءة في رواية(ذكريات وأوهام) للروائية:آسيا عبد الهادي



بقلم:محمد المشايخ 

ضمن محاولاتها التجريبية للنهوض بالرواية العربية ودفعها خطوات سريعة ومتقدمة إلى الأمام،تـُصدر الروائية آسيا عبد الهادي، روايتها(ذكريات وأوهام) التي تمتلك مفاتيح الغنى للفقراء، ومفاتيح السعادة للأشقياء، وتستحدث نوعا جديدا من السرد الذي يمكن أن نطلق عليه اسم "السرد السعيد"،القريب جدا من سرد"ألف ليلة وليلة"، الذي يُقدّم الإمتاع والمؤانسة والتنفيس، والذي ينتصر فيه المظلوم على الظالم، والحق على الباطل، والنور على الظلام، والخير على الشر. 

وتستعرض هذه الرواية، سيرة بطلها أحمد، الذي بدأ حياته، منذ الطفولة جامعا بين الدراسة ومشاركة والده(الفقير جدا، والذي اضطر لمغادرة مصر مغتربا) للعمل في الحدائق المنزلية في الأردن، وسرعان ما تتعاطف معه إحدى سيدات المجتمع"أم كريم" التي يعمل أحمد في حديقة منزلها ، فتنعم عليه، وتدعمه وأسرته ماديا ومعنويا،وتحميه من استفزاز ولؤم زوجها "أبو كريم". 

وحين تطمئن له أكثر، تفتح له قلبها، وتسرد له جانبا من قصة حياتها،وما جرى لوالدها المجاهد، الذي طارده الانتداب البريطاني في ثلاثينات القرن الماضي، الأمر الذي اضطره للسفر إلى فنزويلا،ليتعرف هناك على مسيحي كان له دور كبير في المقاومة في فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين. 

وتمضي الرواية في أحداثها، التي تجبر أحمد على مغادرة الأردن، والعودة إلى مصر مع والده، دون إعلام أم كريم، وبعد 4 سنوات يعود ليبحث عنها، فيجدها أيضا قد سافرت في اليوم الذي سافر فيه، تاركة له رسالة لدى محام يبلغه أن أم كريم قد وهبته بيتها، وحين يستقر في البيت، المجاور لمنزل تسكن فيه بنات الهوى، وتتعرض إحداهن للقتل أمامه، تبدأ معاناته من البيت المسكون بروح اللئيم أبو كريم، وروح المرأة التي سفك دمها أمامه، ولا يتخلص من هذه الكوابيس والأشباح والأرواح، إلا ببيع البيت للبلدية ليصبح مكتبة عامة، ويعود هو لمصر، ويواصل دراسته حتى ينجح، ويتزوج من زميلته في الجامعة. 

تـُخرج هذه الرواية قراءها من وضعهم الطبيعي، وتجعلهم في حالة الغليان، فالروائية التي تخاطب القاعدة الشعبية، بكل ما فيها من فقر وعوز وحاجة، وبكل ما لديها من طموح للتغيير، منطلقة من أقصى ما تملك من العواطف الصادقة، والمشاعر الطيبة،باذلة أقصى جهودها لنقل حالة التأثر التي تعيشها لتؤثر فيهم، وهذا هو دأبها في رواياتها السابقة، فبقدر ما يمتلك المرء من رجولة، سرعان ما ينهار ويندفع بالبكاء من شدة التأثر. 

تمزج الروائية بين الخاص والعام، وبين الثقافي والسياسي، وتجعل من القضية الفلسطينية ، والصراع العربي الصهيوني، وتمجيد المقاومة والمقاومين، هدفا رئيسا تخفيه، ولكنه سرعان ما ينكشف، حين تتحدث عن الوحدة الوطنية، وعن دور المسيحيين الفلسطينيين في التصدي المبكر للوجود الصهيوني في فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين، وحين تتحدث عن عذابات اللجوء وتـُحرّض على التمسك بحق العودة، عدا عن إشارتها لدور معاهدة السلام على الأوضاع المعيشية للسكان. 

نجحت الروائية في التخلص من الجانب التسجيلي في الرواية، وحافظت على فنيتها العالية، رغم اتكائها على أحد كتب المذكرات، وتوثيقها المصدر، هذا عدا عما بثته من لوحات تشكيلية في أثناء وصفها الجميل لفلسطين وأهلها ، في الربع الأول من القرن الماضي،حيث هداوة البال والزمن الجميل، وتتجاوز الوصف أحيانا وتدخل في باب الأدب الساخر، وخاصة حين تصف الذين أطلقوا على البسكليت حين رأوه لأول مرة اسم:"الحمار الحديدي"، وحين يفقد بطل الرواية مفتاح المنزل، ليجده بعد أيام من البحث والتنقيب مشبوكا بكيس طعام في فريزر الثلاجة. 

وتقوم هذه الرواية على المونولوجات الداخلية، وتيار الوعي، باعتبارها من أدوات الاسترجاع، والاستذكار، وإسقاط الماضي على الحاضر، في الوقت الذي كانت الروائية تستشرف فيه المستقبل الأجمل والأفضل للمعذبين في الأرض، والكادحين في القاعدة الشعبية ، ممن يُسـّلط عليهم القدر لؤماء لا يرحمون، لتدعو بشكل مباشر إلى احترام إنسانية البشر ومشاعرهم. 

وضمن مزجها بين الخاص والعام، تشتمل الرواية على عدة أنواع من السير:السيرة الفردية، والجـَمعية، والغيرية، والشعبية، في أكثر من قطر،لا سيما وأن شخصيات الرواية كانت تعيش في مصر والأردن وفلسطين وفنزويلا، وتستعرض الروائية فيها حياة بطلها في طفولته وفي شبابه وفي كهولته، وفي علاقته مع المجتمع المحيط به، وتواكب نموّه وتطوّره حتى تجعله يمتلك المال والعلم والزوجة الصالحة والأسرة السعيدة، بعد أن مرّ بمنعطفات حادة، كادت تسلبه روحه وعقله. 

وحين كانت الروائية تغادر هذه الحالة الفردية، نجدها تـُبرز هنا وهناك دبابيس تمسّ المسؤولين عن تدهور الوضع الاقتصادي وممارسي الفساد،ومهربي الركـّاب في البواخر التجارية، وتمسّ أيضا الوضع الاجتماعي والمسؤولين عن المتاجرة بـ"بنات الهوى"، عدا عن العلاقة السيئة بين الحماة والكـِنـّة وأثرها على أفراد الأسرة كافة. 

والروائية مغرمة بالغرائبية،والعجائبية، والفنتازيا، واللامعقول، ولديها القدرة على جعل القارئ يعيش حياة بطلها المليئة بالأشباح والأرواح، وسرعان ما يستسلم لقدره، بعد أن تـُصبح لديه القدرة على سماع صوت الموتى والأشباح والأرواح، ومراقبة حركاتهم، والعيش في بيئة مليئة بالرعب،والغريب في ذلك كله، أنه يتم، بعد أن يمتلك من تصيبه هذه الحالة، ما كان يتمناه من غنى وسعادة، وكأني به بين ثنائيتين، إما الفقر والتعاسة، أو الغنى والجنون. 

آسيا عبد الهادي، التي تكتب القصة والرواية الواقعية، لا تستطيع لجم خيالها المـُحلـّق،ولا حرمان حواسها من لذة الاستشعار والاستكشاف،ولا تستطيع أيضا إيقاف عقلها وما فيه من قدرة على الاستبطان والتحليل والتقييم والتفلسف، فكيف يحدث، حين تضف لذلك كله، ذاكرة حديدية لا تنسى، وقدرة على سرد التفاصيل الصغيرة والكبيرة، التي تجعل من الحياة، فلما سينمائيا مكثفا ومُشوّقا، يقرأه المرء ويحضره في آن. 

تمتلك الروائية جماليات متقدمة، جعلتها تـُبدع رواية تدور أحداثها، وأمكنتها، وأزمنتها،وشخصياتها، على رمال متحركة، فهي ضد الثبات، وخيوطها بحاجة إلى ضبط على أكثر من صعيد، ورغم كثرة ما فيها من تداخل وامتزاج، وتناقض وتضاد، إلا أنها نسجتها بدقة وإتقان وجمال، وأنهتها بالزواج، وما فيه من إنهاء لسنوات من القهر والعذاب والكد والمغالبة. 

وبعيدا عن اللهجة العامية، كتبت آسيا عبد الهادي روايتها بالعربية الفصحى، محافظة على الأسلوب السهل الممتنع، ومتخلية عما كانت تبثه في رواياتها السابقة من مصطلحات خاصة بالنساء، ولكنها كانت تـُمرر أحيانا بعض الكلمات الأجنبية في السياق العربي دون أن تجعل القارئ ينتبه، ومن ذلك كلمة(أباجور)، في وصف أحمد لمنزل سيّدته بعد سفرها بأربع سنين: (البيت مغلق تماما، والأباجورات نازلة وتعلوها الرمال والغبار، والأشجار يائسة يابسة، والبيت خاو لا روح فيه). 


أما الاغتراب في الرواية ، فبقدر ما كان فيه من عذاب وقهر وألم روحي وجسدي، والذي كان سيفا ذا حدين، يمس أحدهما المغترب نفسه، والآخر يمس أهله الذين يتمنون عودته، إلا انه كان يقدح زناد الفكر، للبحث عن حلول للمشاكل التي أدت للسفر، وفي مقدمتها المال، الذي قالت الرواية عنه إنه هو الذي يتكلـّم ومن لا يملكه يخرس، وتصف الروائية معاناة المغتربين عبر قولها(الآباء يكافحون ويعانون ويتعبون ويعملون بجهد ويضحون بأجمل أيام أعمارهم ويعايشون الوحدة والغربة والبرد والجوع والشوق، ينامون كيفما كان ويأكلون الخبز الحاف ويرتدون الخرق البالية بعيدين عن أسرهم وزوجاتهم..إذا مرضوا لا يجدوا من يعتني بهم، وإذا تعثروا لا يجدوا من يواسيهم، يكتمون آلامهم وشقاءهم ويوهمون الآخرين بسعادتهم)والاغتراب نفسه، جعل من هذه الرواية، رواية مركبة،على جملة من القصص والحكايات، وقد وصفت الروائية نفسها ذلك حين وصفت ما جرى لأحد شخصيات الرواية:(القصة تلو القصة، والحكاية تلو الحكاية، تحدّث عن الناس والبلاد، لباسهم وطعامهم وعاداتهم ونسائهم، مناخهم ومدنهم، حكايات لا تنتهي وأسئلة متتالية). 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.