أعلان الهيدر

الاثنين، 14 مايو 2018

الرئيسية نص من مجموعتي القصصية ( وشم في ذاكرتي ) التي صدرت عن دار المختار للنشر والتوزيع في القاهرة

نص من مجموعتي القصصية ( وشم في ذاكرتي ) التي صدرت عن دار المختار للنشر والتوزيع في القاهرة


ليلى مراني



فصل من رحلة موت

يوم ونصف.. وغابة مرعبة، تسمّى الغابة السوداء، من يدخلها لا يخرج منها، وإن خرج ففي أحسن الأحوال بساقين أكلتهما (الكنكرينا) وأنا القادمة من أرض نخيلها الباسقات، بساتين تلعب بها الشمس نهاراً، والقمر يغفو على سعفها ليلاً..
ثلاثين كنّا, وولداً صغيراً في الرابعة، ترك أخاه وأمَّه هناك في أرض النخيل، وجاء مع والد يسعى للمّ شمل العائلة بواسطته..
نهاراً والضوء لا يزال يغسل ثلوجاً تغطّي أرض الغابة.. شهر شباط البارد، وعواصفه الثلجيّة تركت آثارها على قمم أشجار عملاقة تنتصب متراصّة كثيفة، وثلاثون وطفل يركضون بلا وعي خلف صفير مهرّبَين، يميناً وشمالاً.. شرقاً وغرباً، صلة الوصل بينهم وبين المهربين أحد أعمام الطفل أحمد، يعرف لغتهم، واتفاق مبرم بينه وبينهم على نغمة صفيرٍ معيّن, وتوصيّات وشروط نلتزم بها كي نتفادى الأخطار والمفاجآت؛ أن نبتلع حتى همساتنا. في سيرنا يطلقون صوت طائرٍ معيّن، نتتبّع مصدر الصوت، نركض بكلّ ما استطعنا من سرعة، تبدو كالزحف حتى لا يشعر بنا أحد.. وصل بنا الإنهاك حدّ انقطاع الأنفاس.. يوم ونصف ولقمة خبز، وجرعة ماء باتت حلماً.. أمل كان يعطينا جرعة من القوّة، نحن المنهكين في محطّات سابقة، وهذه ما قبل الأخيرة..
خمسة عشر كيلومتراً ونصل إلى الطرف الآخر من الغابة السوداء، ثم خطوة أخيرة وتتلقّفنا أرض الأحلام..
العرق يتصبّب أنهاراً ونحن نركض بعشوائيّة، كأنّ ذئاباً جائعة تطاردنا.. أحفن من الثلج الملوّث بفضلات حيوانات مجهولة، أضع بعضه في فمي الجاف، وتحت بلوزتي أضع ما تبقّى..
نتوقف للحظات، وقد تقطّعت أنفاسنا.. نرتجف برداً.. تصطكّ أسناني فأتخلّص من الثلج الملتصق بصدري.. الظلام يتسلّل بسرعة مذهلة، فتزداد الوحشة وحشة..ويزداد الصمت كثافة، وخوفنا يزداد عمقاً ورهبة ونحن نمسك بأيدي بعضنا، حتى لتكاد أظفارنا تنغرز في اللحم، خشية أن نفقد أحدنا، أو يسقط آخر في إحدى الحفر.. نركض ونلهث.. نتصبّب عرقاً، ثم نرتجف برداً وخوفاً، وأحمد الصغير تتناقله أيادي عمَّيه وعمّته حين يعيى الأب عن حمله. عجبت لولدٍ بهذا العمر الصغير يكاد يقطع أنفاسه خشية أن تسمعه أوراق الأشجار العملاقة.. مرتعباً في تماسك، يشير بإصبعه إن تحدّث اثنان همساً، يوشوش: "اسكتا.. للغابة آذان صاغية.. وشياطين متخفّية تنقل الأصوات إلى الناحية الثانية"
آه.. أهمس مؤكدة: "وللصمت الثقيل المطبق هدير تحمله أجنحة
الشياطين إلى خفر الحدود"
أوامر صدرت لنا أن نبيت الليلة في الغابة، ومبكّرا في الصباح نقطع الجزء الأخير منها، في انتظار سيّارات صغيرة تنقلنا إلى المرحلة الأخيرة من رحلة الموت.. سرعان ما افترش المهرّبان أوراق أشجارٍ ضخمة تشبه أوراق شجرة الموز، وناما مسافة منّا، قال أحدنا:
ـ لا تناموا.. الثلج سيجمّد أطرافنا إن نمنا على الجليد.. داوموا على تحريك أرجلكم.
قال آخر:
ـ ليُصلِّ كلّ منّا صلاته..
وصلّى المسلمون وقوفا، والمسيحيّة الضخمة صلّت جالسة في صمت، وأنا. همستُ بخشوع: "يا ربّ ساعدني حتى أدخل الحدود.. ولو متّ لا يهمّ.. سيحصل أولادي على الإقامة" هكذا صلّيتُ, وهكذا صوّرت لي سذاجتي.. أحدهم همس باكياً:
ـ اشتقت لأكل أمّي.. كباب, وشاي على الفحم..
شابّا كان لا يزال في مقتبل العشرين.. أنياب البرد أخذت تنغرس في أجسادنا شبه العارية، بعد أن تخلّصنا من معظم ملابسنا ونحن نركض.. ارتجف أحمد بشدّة.. خلع بعضهم ما يستطيع وغطّاه، وإذا بحزم من ضوءٍ مخيفة قادمة من الجحيم، أضاءت دياجير الغابة القاتمة وجعلتها صباحاً.. تتحرّك كألسنة شياطين هوجاء في جميع الاتجاهات.. تختفي وتعود ثانية، وثلاثون وطفل في الرابعة يرتجفون هلعاً.. يتوسّدون الثلج. ما أن تمدّ حزم الجحيم ألسنتها.. حتى تحيل ليل الغابة المخيف إلى نهارٍ ساطع.. كان للصمت والترقّب، والجوع والعطش ما هدّنا جميعا..
وللمرّة الأولى نسمع صوت الصغير أحمد مكتوماً، باكياً..
ـ بابا أنا جائع.
وهو يشمّ رائحة قطعة خبزٍ أخرجتها المرأة الضخمة من تحت قميصها.. أعطته قطعة صغيرة، صبّتها لعنةً على أبٍ لم يفكّر أن يشتري شيئاً لابنه..
بكى الوالد صباحاً وهو يحتضن ابنه، وكنا نستعدّ لمواصلة رحلة الموت..
ـ واصلوا انتم واتركوني مع ابني.. لم أعد قادراً.. لا أستطيع السير، فكيف أركض..
قالها في ألم.. امتدت أيدٍ مسرعة ورفعت الطفل، وأخرى سحبت الأب، واثنان ساعداني لأكمل مشواراً لم أعد قادرة عليه.
في عربة مخصصة لنقل الحصان، مربوطة إلى سيّارة بيضاء،
تكدّست الأجساد المنهكة فوق بعضها.. صحت وأنا أحسّ أن
ساقي انخلعت..
ـ أين ساقي؟ فقدتها.. قُطعت.
وآخر صوتٍ سمعته، يبدو أن المرأة ماتت..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.