أعلان الهيدر

الأربعاء، 13 ديسمبر 2017

الرئيسية المواثيق السردية المنتهكة والهويات المتضاربة في الرواية الجزائرية والعربية

المواثيق السردية المنتهكة والهويات المتضاربة في الرواية الجزائرية والعربية


بقلم / محمد الأمين بحري

الناقد/ محمد الأمين بحري

في مجلة الإمارات الثقافية لهذا الشهر، ص: 59-60-61-62. 
مقالي التحليلي للميثاق السردي في 5 رويات جزائرية وعربية.
عنوان المقال:
المواثيق السردية المنتهكة والهويات المتضاربة في الرواية الجزائرية والعربية.


نص المقال:
منذ نشأة "الرواية" كنوع أدبي دأب الكاتب على إنشاء ميثاقٍ سرديٍ مخياليٍ مع قارئه، وهذا الميثاق مبني بدوره على جملة من التفاصيل الفنية، منها الخط السردي؛ الذي يسمى منطق السرد، والخط الدرامي الذي يربط تسلسل الأحداث وحبكها، وكلاهما عصب حيوي في كيان الرواية، حيث يحرص الأديب على ألا ينقطع فينهار البنيان، وينفك عقد الميثاق النصي مع جمهوره من القراء، ويظهر ذلك جلياً في بعض التجارب الروائية العربية لاسيما الجزائرية منها التي فقدت وهجها بسبب ابتعاد أصحابها عن المغامرة السردية في حبك نصوصهم، بل تسهى شخصياتهم المتخيلة أحياناً كثيرة عن أحداث وتواريخ بسبب الثرثرة والاسترسال في الحكي حتى ينقطع الحبل بين الكاتب والقارئ.
لدينا في نصوصنا الروائية العربية نماذج بارزة لمواثيق سردية متينة الوصال، سواء مع أطوار المغامرة الروائية وفاعليها، أو مع القارئ الخائض في تلك المغامرة حِساً ومتابعة؛ إذ لا أزال كقارئ، أبحث عن مصطفى سعيد الذي أوثقني الطيب صالح بتقصي سيرته الغامضة في موسم الهجرة إلى الشمال، كما لا تزال تلاحقني لعنة التبر منذ مقتل "أوخيد" في رواية ابراهيم الكوني، وكم هي كثيرة مواثيق الأدب العالمي التي تعلق بها قراؤها، وسكنتهم هواجسها إلى الأبد، بحكم قوة الميثاق المقدس بين الناص والنص والقارئ. وفي المقابل هناك من كتابنا العرب من بنوا مواثيقهم مع القراء، ثم نكثوها بأنفسهم، لعدة معوقات تتعلق بعلل في حبك نصوصهم، أو خلل مبدئي في متابعتها، والنتيجة في الحالتين تفكك الوصال مع المغامرة السردية، ومع القارئ. وسنحصر الحديث عن هذا النقض الفني لمنطق السرد وميثاقه، في عنصرين وهما التضارب بين الخطابات التأسيسية تارة بين العتبات والمتن تارة أخرى. ومن بين أبرز النماذج النصية المنتهكة لميثاق الخطاب السردي، نقدم اثنين مثالاً لا للحصر، ويتعلق الأمر بالروائي الجزائري واسيني الأعرج الذي شهدنا تناقض شخصياته الرئيسة في رواية "مملكة الفراشة"(الحائزة على جائزة كتارا 2015)،حول مدة هجرة البطل فادي أو فاوست خارج البلاد خلال الأزمة الوطنية في التسعينيات، التي حددها بـعشرة أعوام، قائلاً: "ماذا أقول عن منفاي الذي قارب عشر سنوات" (الرواية صفحة رقم 26، طبعة دبي الثقافية)، في حين نقرأ لحبيبته ياما قولها: "غيابه الذي استمر ثلاثة سنوات وشهرين وخمسة أيام..." (صفحة رقم 34). فعلى أي المدتين سيقيم القارئ ميثاقه الزمني مع النص، وقد أفلت الروائي الحبل السردي ومنطقه الزمني على بعد 8 صفحات فقط بين الخطابين؟؟، ونقع على التضارب الخطابي نفسه لدى الروائية التونسية خولة حمدي في نصها: "في قلبي أنثى عبرية"حين تخبرنا على لسان إحدى شخصياتها الرئيسية وهي الشابة العبرية ندى خطيبة الفدائي أحمد الذي اختفى حسبها قبل أربع سنوات من لحظة السرد، حين تقول: "بعد مرور أربع سنوات على اختفائه لم يتم العثور على جثته"(الصفحة رقم 202). لكن بعد 8 صفحات فقط، تخبرنا الكاتبة على لسان نفس الشخصية بأنهما كانا معاً قبل سنة ونصف: "تذكرت موقفاً جمعها بأحمد قبل سنة ونصف"، بل وبعد 3 أسطر فقط تتحول هذه المدة إلى شهور، فهل سيبقى القارئ ممسكاً بحبل السرد وقد انقطع وتلاشى إلى هذا الحد المرتبك؟ وهل عليه أن يرمم هذا التداعي، وهو يرى الكاتب يبدد منطق السرد الذي بناه، وميثاقه الذي عقده معه منذ بداية النص، والذي تلاشى قبل نهايته؟.
عندما يتحول البطل إلى شخصية هامشية في الرواية الجزائرية
أما فيما يتعلق بالتضارب بين العتبات والمتن، فنذكر رواية "كتاب الأمير" لواسيني الأعرج، الذي منح بطولة العنوان وصورة الغلاف لشخصية الأمير عبد القادر وهو مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، لكن حينما يخوض الكاتب في مضمونها يسلم البطولة المطلقة لبطل جديد هو القس الفرنسي مونسينيور ديبوش الذي تفتتح الرواية بقدومه وتتوسط بتناول في أزمته وتنتهي بتشييعه، كما سيجد القارئ بأن كل فصول الرواية تفتتح بخطاب هذا القس الفرنسي وتنتهي معظمها بخطابه أو خطاب مساعده جون موبي، فضلاً عن كون هاتين الشخصيتين الفرنسيتين هما الراويان الرئيسيان في النص دون سواهما، وصاحبا أوسع رقعة من الخطاب كذات متكلمة، فيما يركن الأمير عبد القادر الذي هو بطل الغلاف والعنوان ضمن الشخصيات الثانوية إن لم نقل الهامشية، في متن الرواية حضوراً وخطاباً، ولا يُمنح فرصة للخطاب أو الظهور إلا في مقاطع حوارية بسيطة ونادرة من قبل الروائي.
ونقف على الحالة نفسها في رواية "الرايس" للكاتبة الجزائرية هاجر قويدري حيث نجد "الرايس حميدو" بطلاً للغلاف والعنوان، بينما يقصى نهائياً من المشاركة في الخطاب داخل النص، ويلتزم الصمت المطبق طوال الرواية، التي سلمت بطولة متنها إلى شخصية مريم خطيبة الرايس، التي لا تتحدث عنه إلا بضمير الغائب. وهي الظاهرة نفسها التي نقف عليها في رواية "أربعون عاماً في انتظار إيزابيل" للجزائري السعيد خطيبي، أين نجد شخصية إيزابيل إبرهاردت بطلة للعنوان والغلاف أيضا، بينما تم حرمانها من الظهور في الرواية، سوى بضمير الغائب حين يتكلم عنها البطل الفعلي وسيد الحكاية جوزيف. ومعلوم أن العمل الذي يحمل صورة واسم شخصية في الرواية هو بمثابة وعد مبدئي من الكاتب لقارئه بتحديد مسبق للبطل، ويعتبر التخلي عن هذا الوعد في مضمون النص، بتعيين بطل جديد للمتن (يهيمن على الحضور والخطاب ذاتاً وموضوعاً)، ضرباً من نقض للميثاق السردي الذي سيُضعف من التمسك بحبل السرد، ويُربك بقية المواثيق بين القارئ وما يقرأ، وهذه إشكالية تدفع القارئ للتساؤل حول وظيفة الشخصية المركزية التي همشها الكاتب في مضمون النص وموضعه، وبينما يمنح المركزية في الخطاب لشخصية أخرى.
روائيون أم الحكائيّون
وتعاني السردية العربية من أزمة هوية حادة لا يميز فيها الكثير من الكتاب بين الحكاية والرواية فيما يكتبون، وهي أزمة التجنيس التي تعتبر الوجه الثاني من مسألة الميثاق السردي الذي نحاوره هنا؛ لذا ارتأينا التمييز بين الحكائي والروائي، لما كان السرد الحكائي مبدأ عام يملكه كل حي ناطق مبين، في المقابل يعد السرد الروائي مبدأ خاص بداخله، ما يعني أنه تمفصل سردي نوعي يخضع لقوانين وتقنيات فنية تميزه وتمنحه شخصيته المتفردة والمختلفة عن سائر المحكيات. تلك القوانين والمبادئ الفنية هي التي تحدد الهوية الروائية للنص وتمنحه التصنيف، تلك المبادئ الفنية التي من دونها أو في غيابها يبقى النص مجرد حكاية خالية من أية خاصية تصنفها ضمن الإطار الروائي الذي لا يملكه إلا من امتلكوا صنعة التقنية الروائية من دون بقية الحكّائين من البشر، ومن بين أهم التقنيات السردية التي تمنح النصوص هويتها الروائية: تقنية التعقيد؛ أو بناء العقدة التي تعتبر المقوم الأساسي لهوية الرواية التي تفضي من خلال الحبكة إلى منطق سردي يقود بدوره إلى حل العقدة حلاً كلياً أو جزئياً، أو يخرجنا منها، نحو عقدة أكبر منها تنسينا فيها، أو تضمحل فيها العقدة الأولى.وتتعدد أنواع العقدة حسب نوع الرواية، فمن العقد ما يكون استهلالياً مثل الروايات البوليسية حيث تبنى العقدة فيه على الحبكة الافتتاحية، وقد يكون التعقيد متوسطاً، فتنشطر الحبكة إلى شطرين، والسرد إلى مرحلتين ما قبل العقدة، وما بعدها، كما يكون التعقيد متعدداً أو تفصيلياً حيث يبدو كل فصل في العمل الأدبي بحبكته وعقدته سواء تقدمت العقدة في الفصل أو توسطته، وأخيراً يمكن أن تكون العقدة ختامية في النص إن كانت متفرعة أو متضمنة في حل العقدة الاستهلالية أو المركزية، أي أن يكون حل العقدة الأولى بعقدة ثانية تنتهي بها أو تضمحل فيها. فيكون الحل بأزمة ختامية وهي خاصية تتعلق بالروايات المأساوية، وهنا نضطر للتساؤل حول جدوى الحبكة السردية، والحل والأحداث إن لم تكن هناك عقدة تبني عليها عدد يسير من الروايات العربية مغامرتها وتحدد هويتها، ونقصد الأعمال الأدبية الحديثة تلك التي أسقطت من متاعها تقنية العقدة، ففقدت بذلك جدوى الحبكة والحل، وهويتها كجنس أدبي لتبقى تدور فقط في مدار الحكاية وتدخل في هذا النموذج الحكائي كل الروايات التي تمثلنا بها آنفاً، عدا رواية خولة حمدي: "في قلبي أنثى عبرية"، وحسبنا من هذه النماذج السردية تقديم طرح تمثيلي لإشكاليتين الميثاق والهوية في روايتنا المعاصرة التي يشهد زخماً من الظواهر المستجدة تجريباً وتخريباً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.