أعلان الهيدر

الجمعة، 4 أغسطس 2017

الرئيسية بين الحكائي والروائي (نماذج من الرواية الجزائرية المعاصرة)

بين الحكائي والروائي (نماذج من الرواية الجزائرية المعاصرة)


محمد الأمين بحري
تلبية لطلبات عديدة من متابعي الصفحة من أجل تقديم أمثلة توضيحية عما اعتبرته روايات وحكايات والفروق التقنية بينهما.. أقدم هذ التفصيل والتمثيل للنمطين السرديين حسب قراءتي الشخصية طبعاً: وأرحب بكل الاختلافات والرؤى والقراءات لمن قرأوا هذه النصوص.

------------ الجزء الخاص بالحكاية والرواية من المقال القادم ------------
*- هوية الرواية وهوية الحكاية:
تتعرف هوية الرواية بما يميزها من فروق فنية داخل دائرة الحكي الكبرى. هذه الدائرة التي يملها كل إنسان متكلم مبين، فالحكي مطلق العنان، لا تحده التقنيات ولا الأساليب، وهو مبدأ بشري عام يملكه الطفل الصغير الذي يحكي ما شاهده من أمور لوالديه، كما تملكه العجوز التي تحكي لأحفادها ما تراكم في ذاكرتها الشعبية من حكايات الآباء والجداد، دون أن تلتزم بقاعدة موضوعية غير المتعة والتشويق والتندر لمن يستمعون إليها. بينما الرواية هي مبدأ خاص، داخل الإطار العام للحكي، يعني هو تمفصل سردي يخضع لقوانين وتقنيات فنية تميزه عن سائر المحكيات. تلك القوانين هي التي تحدد كينونته الروائية، وتمنحه هويته الأنواعية أو ما يمكن أن نسميه شخصية الرواية، تلك التقنيات التي من دونها، أو في غيابها يبقى النص مجرد حكاية خالية من أي خاصية تصنفها ضمن الإطار الروائي الذي لا يملكه إلا من امتلكوا صنعة التقنية الروائية من دون جميع الحكّائين من البشر.
ومن بين أهم التقنيات السردية التي تمنح النصوص هويتها الروائية: نجد بناء [العقدة] أو تقنية التعقيد، وهي التي تبنى على أساسها الحبكة التي تحكم تطور الأحداث وتسلسها، ويخضع لها المنطق المخيالي للسرد الذي يبنيه الكاتب مع قارئه، وتفضي من خلال الحبكة ال منطق السردي إلى حل معين سيؤول إلى حل العقدة حلاً كلياً أو جزئياً أو يخرجنا منها بعقدة أكبر منها تنسينا فيها، أو تضمحل فيها العقدة الأولى.
وهناك انواع عدة من التعقيد؛ منها ما يكون افتتاحياً، ومنها ما يكون متوسطاً، ومنها ما يكون ختامياً، ومنها ما يكون تفصيلياً: (كل فصل وعقدته الخاصة)، ومنها ما يكون مركزياً في الرواية: (ذات العقدة الوحيدة و البناء الهرمي للأحداث).
وكل نوع من التعقيد يلعب دوراً جوهرياً في تحديد أمرين أساسيين:
*- الأمر الأول هو توكيد أو نفي الهوية الروائية للنص.
*- الأمر الثاني هو المساهمة في تحديد نمط الرواية ونوعية سردها.
وكأمثلة تطبيقية على بناء الرواية من حيث تعقيدها وحبكتها وحلها.. نقدم للقارئ روايات جزائرية يعرفها. منها ما كانت أصيلة في جنسها ومؤكدة لهويتها الروائية عبر تمفصلها السردي والتقني مثرية ومجددة النوع الذي تنتمي إليه. ومنها ما غابت عقدتها وبالتالي حبكتها وحلها جميعاً، وبقيت تدور في فلك الحكاية دون أن تتخذ أي تمفصل سردي خاص يمنحها هويتها الروائية التي تدعيها على صفحة الغلاف.
*- رواية كاماراد- رفيق الحيف والضياع:
للقارئ أن يطالع رواية كامارد رفيق الحيف والضياع التي أستوفت تقنياً وجمالياُ كل مقومات الروائية، وقدمت تعقيدات تفصيلية تصل حد انسداد الأفق سواء بالنسبة لشخصيات الروائية وأحداثها أو بالنسبة لقارئها. ليعيد الروائي حل التعقيد كل مرة بطريقة سحرية تمنح للحبكة والعقدة الحل وظائفها البنائية وجدواها الفنية.
*- رواية الحركي لمحمد بن جبار
والرواية التي تعتبر نموذجاً متكاملاً للتعقيد والحل هي رواية "الحركي" لمحمد بن جبار التي تنبء عن صنعة مذهلة لتقنيات التعقيد والحل حيث استعمل الروائي تقنية التعقيد المفصل + والمركزي معاً(وهذ الجمع من أصعب تقنيات التعقيد وبرهاناً على تمكن كبير في التلاعب بتقنيات السرد والتكم فيها من طرف الروائي) وذلك بزرع عقدة جزئية في كل فصل تقود جميعها إلى ذروة درامية للحداث الدائرة حول عقدة مركزية. يتم الخروج منها بعقد فرعية أخرى حتى نصل إلى الخلاص أو الحل الذي كان درامياً (حوادثياً) ومأساوياً. مسح أثر التعقيدات السابقة ومنح الرواية صفة النموذجية في جنسها (التاريخي) في قراءتنا طبعاً.
غير أن نصوصاً كثيرة مما يُكتب ويُنشر، لم تتعد عتبة الحكاية، وبقيت دون تقنيات روائية: لا عقدة لا حل وبالتالي حتى الحبكة بقيت فاقدة للمعنى والجدوى إذ لم تقد أو تفضي إلى أي نوع من التعقيد .. بل استمر السرد المنطقي المتواصل والتطوري من النقطة (أ) إلى النقطة (ب) وهو حكي ألفبائي وليس بناءً روائياً لافتقاده الهوية التقنية كما أسلفنا .ونضع أمام القارئ النماذج الآتية:
*-رواية الرايس لهاجر قويدري:
التي تحكى من البداية إلى النهاية بضمير الغائب (ذهب قام رحل تنقل.. فعل كذا وكذا.... حتى نهاية الحكاية ) دون أن تعرف أية عقدة لا كلية ولا جزئية. مما يلغي فاعلية الحبكة والعقدة والحل بانعدام العقدة التي تحمل الهوية الروائية للنص، ويبقيه في مدار الحكاية كأنما القارئ أمام حكواتي يبدأ من نقطة البدء وينتهي منطقياً إلى نقطة المنتهى في خط تطوري مستقيم لا توقفه أي عقبة أو إشكالية. حتى يختم القارئ متسائلاُ في النهاية: أين الإشكال في هذا النص ومن وراء كل هذا السرد؟؟ دون أن يتلقى أية جواب.. سوى زخم الحكاية الذي تبقى متعتها في ذهنه إلى أمد قد يطول وقد يقصر.
*- رواية أربعمائة عام في انتظار إيزابيل للسعيد خطيبي.:
هي الأخرى تأخذ مسارها الحكواتي الألفبائي مروية بضمير الغائب عن سيرة الرحالة إيزابيل إيبرهاردت، دون أن يلجا الكاتب إلى زرع أي نوع من التعقيد التفصيلي عبر فصول الروائية أو المركزي، بل تسمتر في منحى مستقيم تحكي في تفاصل حوادث منقضية منتهية.. لا تشكل في نظر كاتبها أي إشكالية أو تتوقف في مسارها عند أية عقدة تربك أحداثها، فكيف يمنح الكاتب لنصه ولقارئه عقدة روائية يبني عليها الحبكة والحل والتشويق بأسره وهو لم يوجدها أو لعله يجدها في نصه، بحكم سرده لتاريخ منقضٍ بالنسبة إليه؟
*- رواية الصخرة الأسيرة للصادق بن الطاهر فاروق:
نذكر بأن هذا النص هو الفائز بجائزة علي معاشي للرواية في الجزائر (طبعة 2017) والمفارقة أن هذا النص لا يحمل هوية الرواية، المتمثلة أساساً في العقدة التي تلغى بغيابها بقية المقومات الفنية الأخرى لروائية الرواية.
وعلى الرغم من تنويع السرد في هذه النص،(السرد المتواتر بين الفصوص لقصتين مختلفتين)، (واعتماد التنويع الفضائي بين الواقعي والمتخيل) إلا أن كلا القصتين الضمنيتين (الجارية في فرنسا والجارية في الجزائر- الجلفة).. لم تتضمنا أية عقدة بل أي نوع من التعقيد. مما أبطل مفعول الحبكة التي لا تؤدي لا إلى عقدة ولا إلى حل بل فقط إلى سيرورة متواصلة من الأحداث المتعاقبة (منها ما كان استذكاراً ومنها ما كان استباقاً ومنها ما كان توقفاً وترهيناً على مستوى الزمن). لكن رغم تقنيات التفضية والإيقاعات الزمنية، والسرد العجائبي الممتع في المحكي النصي إلا أن انعدام العقدة بكل أنوعاها جعله حكاية في السرد العجائبي للتاريخ، من حيث الموضوع وليس رواية لانعدام الشكل والعناصر الفنية (وخاصة العقدة بكل انواعها) التي تمنحه الهوية الروائية.
حتى وإن توجت لجنة تحكيم نصاً لا يحمل هوية روائية، واعتبرته أحسن رواية للسنة على حساب نصوص قد تكون أصيلة تقنياً في فنها وهويتها الروائية، فهذا لا ينفي حمل النص المتوج لتقنيات حكائية فيها الكثير من الجهد والإبداع (وإن كانت غير جوهرية ولا مفصلية في التجنيس وهوية النص كالزمن والتفضية وتوليد المحكيات التخييلية التي تشترك فيها كل المحكيات)، لأن الأمر يعود إلى خصوصية المعايير التي وضعتها اللجنة والتي قد تكون مضمونية وحكائية وليست تقنية تهتم بهوية النص وانتمائه السردي. كما رأينا في جائزة محمد ديب لسنة 2016. التي توجت في المرتبة الأولى لجائزة الرواية الجزائرية: مجموعة قصصية.
محمد الأمين بحري
يتم التشغيل بواسطة Blogger.