أعلان الهيدر

الجمعة، 23 يونيو 2017

الرئيسية فلسفة العودة والرحيل في قصص طاغور

فلسفة العودة والرحيل في قصص طاغور





بدر عبد الملك(كاتب من البحرين)

نود أن نوضح في مقدمتنا المقتضبة أننا لا نستطيع في ظروف زمنية محددة ان نتناول بالدرس العميق كل قصص طاغور القصيرة نتيجة بعدنا عن المصادر وصعوبة الحصول عليها. لذا لن تكون دراستنا كافية وشمولية لكل ما كتبا طاغور من القصص القصيرة ما بين فترة )
188 _ ا 194. ولا العودة الى مناقشة مرحلة سابقة عن هذه المرحلة. حيث ثمر النبتة الأولى للموهبة القصصية بدأت أبكر بعقد من الزمن. وعلى هذا الاساس وجدنا ان "مختارات " من القصص القصيرة لطاغور ستكون مفتاح الدخول الى عالمه ، منطلقين من اعتمادنا على الترجمة الانجليزية الرصينة والدراسة الاكثر حداثة في اعمال طاغور الشعرية والقصصية والتي وضعها "وليم راد يس"، وهي دراسة طويلة عبارة عن اطروحة الدكتوراة لعام 1987، وهو حاصل على عدة جوائز ادبية حول غرب البنغال وبنغلاديش ومحاضرا في اللغة البنغالية وأدبها في المدرسة الشرقية والدراسات الافريقية في بريطانيا، وسنقوم بتحليل موضوعة العودة والرحيل من خلال الثلاثين قصة التي وردت في كتاب راد يس كونها تفعلي اخصب واغزر مرحلة من حياة طاغور القصصية. وهي المرحلة الواقعة ما بين 1890 الى 0 190م.
* العودة والرحيل الطاغوري:
اذا كان طاغور مولعا بثنائية الحياة والموت ، واستمرارية العلاقة بينهما ، ثنائية الزواج والشراكة العائلية بين قطبي الكراهية والحب ، الطيبة والقسوة. فإن الرحيل والعودة عالمان متحركان في اغلب النتائج لذ خاتمة القصص او نهاياتها، والعودة والرحيل يحدثان في المتن الحكائي من اول وعلة ، بل وفي البدايات القصصية من اول ضربات الريشة الطاغورية على لوحاته التسجيلية والانطباعية. وحين تغادرنا تلك الشخصيات فانها غالبا ما تحمل معها مأساوية الحياة والشعور بالاحباط والرغبة في الخلاص من الحزن المدمر. لن نتوقف كثيرا حول القصص التي شاهدنا فيها الشخصيات وقد عادت الى البيت بحتمية الارتباط العائلي الموضوعي. الغامض والقسري، وانما سنمس تلك الشخصيات التي تعود او لا تعود ، حينما تغادر امكنتها ، اذ ينتظرها شبر الموت وظلاله ، او تلك التي تحركت في المجتمع وهربت منه. ذلك الذهاب والاياب الاوديي لا ينقطع في حرا كية القصة ولا نحتاج ان نضع عدستنا على تجوال شخوصها سواء كانوا في بؤرته او هوامشه وانما محورنا يتكثف حول البعد الدلالي والحياتي والاجتماعي للرحيل والعودة. نظريا إننا مشدودون الى نقطة كونية ونفسية ومكانية في ان نعود او لا نعود،غير اننا لا نستطيع المضي في الحياة دون نهاية الرحلة كحتمية ابدية لعلاقة الانسان بالموت. تتم النهايات القصصية الميلودرامية باستخدام وتوظيف موت الشخصية كرحيل من الحياة. اختفاء الشخصية في نهاية القصة كرحيل من المشهد الحياتي. قد لايهم الى اين ؟ المهم ان رحيله يكمن في اختفائه المؤقت او قد يكون السرمدي. الهروب في القصة نوع من الرحيل نحو العدم ، فالنهاية لا نهائية عند الرواية اما القارىء فعليه ان يبني تصوراته حول حالة الشخوص ل غموضها. في قصة "الحياة والموت " رحلت "قدم بيني" مؤقتا في داخل بنية المجتمع ، داخل بنية حكائية كاذبة تم تصديقها نتيجة الخطأ والاعتقاد بانها ماتت حقا، بينما الرحيل النهائي والحقيقي هو انتحارها في الخاتمة. وهنا يولد الموت الفعلي الذي ارادت برهنته "اقدم بيني" في قصة "مكتب مدير البريد" شعر الموظف برغبة حادة للعودة لكنه لم يعد. هذا الانفصال النهائي مثل انفصال الموت والحياة. ولكن بريق الامل لم يمت ايضا عند الفتاة الصغيرة "راتان " ظت تدور بقرب مكتب البريد تنتحب بغزارة ، ربما عاشت بأمل باهت في ذهنها بأن "دادبابو" ربما يعود في اللحظة الاخيرة ، غير ان القارب كان يبتعد واختفاء القرية كان يطوي مبقه املا اخيرا، كان الرحيل يتوازى مر موت الامل. في "الفسارة والربح " كانت القصة عبارة عن رحلة نحو الموت وخسارة الانسان شي ء اكثر من مرعب. اما "راجيران " فهو يختفي الى عالم غير معروف من اجل ان يحيا عل مسرح الحياة ابنه كما هو في قصة "عودة السيد الصغير" غير انه رحيل تسري دون رغبة او فرح. اما العائلة التي فتأت طفلها وصدقت انه ابنها الضائع فإنها امام نصف الحقيقة الخادعة ، وفي عودة هشة ، وهمية نتقبلها دون خيار كبديل للعاطفة الضائعة والمنتظرة كما هو عند الزوجة التي فقدت ابنها في يوم عاصف ممطر، "راجيران " نموذج آخر للضياع الانساني في ذلك "الحشد الغوغائي" كما فضل ان يقوله لنا طاغور، ليس المهم ان نموت ويعثر على أجسادنا، وانما كيف نموت ويطرق مخيفة ومختلفة. دون عنوان ولا هوية هكذا اختفى العجوز راجيران ولم يعطف عليه الا الرجل الذي تضرر منه مرتين ، مرة بالاهمال ومرة بالكذب. في قصة "القسمة " يبرز الطلاق الابدي بين العائلة الواحدة ولا عودة للحب طالما هناك الجشع والصراع حول ملكية الميراث. في قصة "شهرة تارابراسانا" يعود الشخصية الى بيته من كلكتا خاوي الو فاض بأوهامه وأوهام زوجته في شهرة عاجلة وثروة مرتقبة. في "التنازل عن الثروة " يغادر الشخصية "ياجانات " البيت وهو محمل بعذابات الضمير دون ان يغفر له احد ، كما رحل مع الموت نتيجة حماقته وقتله حفيده داخل القبو في المعبد المهجور، وظلت الثروة دون وريث معروف. في قصة "الليلة الوحيدة " عاد الراوية الى غرفته بعد هدوء العاصفة وهو يقلب مصيره وقدره وحياته بين حالة الذات وخداعها ، بين الاحلام المحسوسة واللذة والتعلق فيما وراء اللانهائي من القيم والعادات والطقوس. مكبلا بأثقال الفوق من الخطيئة الهندوسية. في "الذهب الخادع " تبرز تراجيدية العلاقة بين الزوجين ، وتمزق الشراكة والثنائية المتضادةAMBIVALANCE التي وضعها طاغور في لحظة نفسية سوداوية تاملية عاشها الزوج وهو يدرس قرار الرحيل محاولا الخروج من سحنته والانتقام لكرامته المهانة في البيت الهندي. وقد حطمت الزوجة فيا الطقوس العائلية.
كان الوصف من حيث مناخا يعكس العاطفة المشروحة في رمزية الظلمة ومجازية الصمت ، كأن هناك مساحة كونية تفصل بين الاثنين ، العمق والصمت وامتداد الظلمة في تلك اللحظة ، الظلمة من الداخل والخارج. في وعي الانسان وعواطفه داخل البيت وخارجه ، داخل «بيدينات » وخارج الكون ، داخل غرفة الزوجة وروحها المظلمة ، وألم الزوج في فناء بيته في تلك الليلة الاخيرة. عاد من بيناريس الى بيته (بيناريس منطقة حج مقدسة للهندوس ) محبطا ورحل عنه محبطا ، وفي كلتا الحالتين كانت الزوجة القوة القسرية والمتسلطة في دفعه الى حافة القرار السيىء. في قصة "العطلة " جاءت ام «باتيك » لتأخذه للبيت بعد ان قضى وقتا صعبا في بيت خاله ، غير ان باتيك لن يستطيع العودة للبيت معها. انه سيغادر نحو العطلة الابدية. كان النص غامضا في الخاتمة بين حالة الهذيان في ان نفهم انه سيموت أو سيعيش لقضاء عطلته. في حكاية " كابلي والاه " يعود الشخصية الافغاني «رحمت » من السجن في الوقت الذي ترحل فيه "ميني" الصغيرة الى بيت زوجها. غير ان الحدث لا ينتهي هنا، وانما بالرحيل الجميل والمفرح نحو الوطن "انها بركات جمع الشمل ونعمة اللقاء بالاهل ". وهنا يحطم طاغور الخاتمة بعزف مفرح يدخل البهجة الى قلوبنا بعد ان ادخلنا في رعب الانتحار والموت والاشباح في قصص عديدة كل خاتماتها ميلودرامية. في قصة «العقاب » تغادر الضحية الى الجحيم كما قالت لنا في النهاية ، غير اننا نتألم لموتها المأساوي ، فقد قتل الشقيقان الزوجتين بطرق مختلفة. اما شخصية «كريشنا غربال » في «حلت المشكلة ه يعود الى منطقة القداسة والحج في بيناريس كإنسان متدين وورع بعد ان حل المشكلة حول الميراث والارض بين ابنه الهندوسي والمستأجر المسلم محاولا طاغور ابراز العلاقة والتسامح بين الطوائف عند الجيل القديم الذي يفهم الدين بصورة مختلفة ويرفض التعصب له. في «منتصف الليل » تتوالى حكاية العودة المنتظمة ليلا للطبيب بسبب حالة
البارانويا والخوف والهواجس لدى الشخصية. تغادرنا زوجته الأولى في القصة منتحرة نتيجة اليأس والمرض وانشراخ وتمزق في العاطفة الانسانية. اما "نيلكنتا" في قصة "المنبوذ" فان العائلة الطيبة تعود الى بيتها بدونه «بينما نيلكنتا» يختفي دون اثر ولا احد يرغب في البحث عنه. غير ان طاغور يترك لنا اشارة سوداوية لتشرد ذلك الكائن المنبوذ الذي يتجول ضالا دون بيت او عائلة ، دون عاطفة انسانية او حب. وحيدا مثل الكلب الذي ينبح على حافة الشاطىء في القصة وهو يبحث عن لقمته. جائعا ومنبوذا. يضع طاغور بحساسية إصبعه على الجرح والظاهرة الاجتماعية للمشردين مقدما لوحة لحقيقة انسانية مؤلمة وعن حالة التخمة والمجاعة في آن واحد. فكم من "نيلكنتا" اليوم يتجول في عصرنا بين قمامات المدن العصرية ؟ في قصة "الاخت الكبيرة " تغادر الشخصية الحياة بالقتل المتعمد وتترك طفلا يتيما لا نعرف مصيره ، في "انكسار المقاومة " يغادر الزوج مسرح المدينة بعد ان رموه خارجه فنموذج للممنثل الفاشل ، لتصعد الخشبة «غريبالا» الجميلة والزوجة والمرأة المضطهدة اجتماعيا في بنية مجتمعية محافظة الانتصار للمرأة والتطور والجمال حيال الرجل الاناني. القبيح في روحه ، والبشع في سلوكا ، وقد حملت الخاتمة من الدعابة والسخرية وصراخ جمهور معجب بشخصية «غريبالا» ومستنكر نموذج الزوج ، وكان العالم هناك سيواصل التمثيل والمشاهدة ناسيا في الخارج زوجا بائسا ومكسورا ، خارج مسرح الحياة بعد ان كسرت المقاومة _بكسر السين _ في قصة "الضيف " يرحل «تارابادا» نحو عالم بلا قيود ، غير ان النهاية هنا بدت غامضة حول ماهية الرحيل. هل رحل الى الابد نحو الموت ؟ ام رحل نحو رحلة الحياة والتجوال كالطائر الطليق ، بين ذراع امه / الارض دون بيت ولا مسؤولية ، غير الفرح والغناء. في «الامنيات الممنوحة » حدثت العودة والرحيل عبر الفانتازيا من الطفولة الى الشيخوخة والعكس بين الاب وابنه وتبادل الادوار ثم عادت حيث كانت في واقعها الطبيعي، ليصور لنا طاغور قصة طريفة من طرائف قصص الاطفال التربوية الجامعة بين الحكمة والموعظة والطفولة والبراءة. وتغادر المرأة الجائعة وطفلها بعد ان يتم طردهما في قصة «الابن القربان » فلا نعرف الى اين ستذهب ؟ غير انها ستلحق بركب "المنبوذ" متجولة فكنا امام صورتين متنافرتين خارجيا ، وهي صورة التخمة وصورة الجوع ، ويفصل بين الابن والاب عالم واسع من الظلم الاجتماعي مثلما ظلمت الام من قبل وتم طردها جورا. في قصة "الاحجار الضائعة " تحركت القصة بصورة دائرية ، الحضور من المدينة بالقطار والعودة بالقطار بعد ان قرأنا قصة ليست خيالية وحسب بل وكابوسية ايضا. تمددت سرديا الى ما لا نهاية بشكل مترهل للغاية. في «الطائش » يرحل الطبيب وهو يتحسر على مغادرته بيت الآباء والاجداد. ولكن مغادرته كانت مقنعة فهو لا يستطيع العيش بين ركام عالم نتن بالوحشية والفساد. لا يملك الطبيب هنا صكوكا لتحرير القرية والناس الذين يعيش معهم غير أنه خطا خطوات متقدمة بصرخاته الاحتجاجية ضد الظلم الاجتماعي المتجسد في شخصية ضابط الشرطة وجهازه. انفصال العلاقة بين الطرفين نتيجة يقظة ضمير الطبيب ومشاعره المرهفة حيال موت المريض من جهة وفظاظة وقسوة صديقه ضابط الشرطة المرتشي. وفي قصة «نعمة البصر» لم تعوض الزوجة الجديدة ما كان يبحث عنه الزوج الطبيب ، فقلبت حياته الى جحيم فغادر بيته هربا فإن أسوأ شي ء في الحياة ان تكون أعمى دون أن تفقد بصرك الحقيقي. لقد وجدنا في الثلاثين قصة لطا غور مرتكزاته الفكرية والفلسفية والحياتية ، والتي تحكمت في مجمل مسيرته الكتابية خلال العقد الاول من حياته كشاب طري العود والخبرة محاولا الحفاظ على التوازن والتوفيق في الصراع بين قطبي الخير والشر، بين القسوة والفظاظة والطيبة والحنان ، بين الفرح والحزن ، سواء لدى واويته أو شخوصه الكثار الذين تنوعت طبائعهم وامزجتهم ونوازعهم الانسانية ، بل ورغبة البعض منهم في الخروج والتمرد. كما شاهدنا اكراهية والحب كمظهرين للخير والشر والطيبة والقسوة والجشع والطمع والقناعة والبساطة والاتضاع ، الغيرة والحسد وانعدام الثقة والكذب والخداع والغش والبراءة والنميمة والاشاعة والفساد والرشوة ، كلها قيم ونوازع خيرة وشريرة أهلت في القصة الطاغورية إما بصورة واضحة جوهرية محتلة صدارة الحدث ونسيج القصة وعناصرها البنائية الهامة كالشخصيات واللغة أو تلك الاشارات التي مرت كالفلاش السريع الذي تكفي من ومضة صغيرة ومكثفة ان تضيء مساحة كبيرة من مشهد المدينة والقرية وعالم الناس هناك ، وكيف يفكرون ويحلمون وقد استسلموا للوحشية والغدر والبؤس غير أنهم يتمردون أحيانا برغم كل طقوسيات الديانة والعالة والسادة الملاك.

بدر عبد الملك(كاتب من البحرين)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.