أعلان الهيدر

الجمعة، 8 نوفمبر 2019

الرئيسية قراءة في قصة قصيرة جدا ( زبانية ) للقاصة إيمان السيد من سوريا.

قراءة في قصة قصيرة جدا ( زبانية ) للقاصة إيمان السيد من سوريا.


غريبي بوعلام

زبانية



أقسمَ أبي ألّا يزوّجني كي أموتَ عذراء، حين تكوَّرت بطني، ذبحني دون إذنٍ من الله، ثم رماني في الحُطمة، ولمّا اكتمل شوائي...أكلني، وأطعم ابني لخليلتِه!

-----------

أقسم والد بطلة القصة أن لا يزوج ابنته كي تموت و هي عذراء، هل يعقل أن يُوجد أب لا يتمنى أن يرى فلذة كبده في بيت الزوجية، أكيد لا يوجد،لهذا فعل ( يزوجني ) ليس المقصود منه الزواج الشرعي، بل الوالد هنا أقسم أن لا تكون لابنته أي علاقة مع رجل خارج اطار الزواج، حتى و إن اقتضى الأمر أن يدفنها وهي عذراء، نظرًا ما لعذرية الأنثى في مجتمعنا من رمزية الشرف العائلي، ذلك الغشاء لو تمزّق خارج فراش الزوجية سيتمزق كل المجتمع، و هذا حسب تلك النظرة التي تسيطر على مجتمعنا المتميّز بشدة محافظته على العادات و التقاليد إلى درجة التقديس في بعض الأحيان، و لك أيها القارئ الكريم أن تتخيل الطرق التي استعملها ذلك الوالد المحافظ جدًا كي تبقى ابنته عذراء إلى أن يلفها الكفن، من وعظ و نصح و فرض رأي أو حتى التعنيف اللفظي و الجسدي، لكن رغم كل ما قام به الأب، إلا أن ابنته فقدتْ عذريها و حملت خارج دائرة الحلال الشرعي، نرى هنا كيف يولّد الضغط النفسي و العنف الأبوي ذلك الانفجار العظيم و ما يخلّفه من دمار داخلي و خارجي، كيف يوصل القمع العائلي الى الانحراف الخُلُقي و ارتكاب ما لا يمكننا اصلاحه.

حَبِلت رغم كل حدث، و فضحها بطنها الذي أخذ ينتفخ رويدا رويدا، و ما كان رد فعل والدها إلا أن ألحق بها أشد العذاب النفسي و الجسدي، تركها في تلك الحالة إلى أن وضعت حملها، ليأخذه لخليلته التي كان يعشقها في السِّر، ثم ذبحها من الوريد إلى الوريد، ليغسل بدمها، العار الذي لطّخ اسم العائلة الشامخ الممتد في الماضي السحيق،و فعل كل ما فعل دون العودة إلى ما قاله الشرع الديني في هذه المسألة، و هو صاحب التديّن الكبير.

القصة تتناول نظرة المجتمع للمرأة، و السيطرة الذكورية المطلقة على الأنثى بحجة المحافظة على شرفها المتمثل فقط في ذلك الغشاء الذي لا ينبغي أن يتمزّق مهما حصل، لكن المشكل أو عقدة القصة و مفارقتها تتمثّل في ذلك الرجل الذي يدّعي المحافظة على شرف عائلة و بناته، بينما هو أول مَن يلطخه مع فتاة أو امرأة أخرى في الخفاء، و قد أحسنت القاصَّة إبراز هذه الفكرة من خلال هذا السرد القصصي القصير جدا بكثير من الحرفية الإبداعية المدهشة، التي تأخذ بلب القارئ و تجعله مشدود الانتباه، ملتهب الشعور أمام هذه الكلمات القليلة التي تقصّ قصة طويلة و مضغوطة بتقنيات سرديّة حداثية و مُميّزة جدًا، و التي هدفها كشف وفضح النفاق الخفي الذي عشّش و فرّخ في أعماق مجتمعنا، و الغرض منها محاولة إصلاح ما يمكن إصلاحه، و هي رسالة غير مباشرة مبثوثة في طيات هذه القطعة الأدبية الراقية.

القصة مكثفة تكثيف في منتهى الروعة و الأناقة الانشائية، كلماتها القليلة شملت كل القصة التي كان يمكنها أن تكون مشروع رواية، يدل على تمكن القاصة من أدواتها الإبداعية القصصية و كيفية توظيفها مع حسن اختيار الكلمات بدقة بحيث تحمل لنا عمق المعنى و جودة المبنى، كمثال على ذلك كلمة (زبانية ) التي تعني الملائكة العذاب في نار جهنم، كذلك كلمة ( الحطمة ) و هي اسم من أسماء جهنم، فعل ( شوائي ) و ما تحمله من معاني التعذيب و الحرق على النار، كل هذه الكلمات حملت في طياتها رمزية قوية و مركزة ذات عمق دلالي للعذاب أو التعذيب النفسي و الجسدي لبطلة القصة، العلاقة وطيدة جدًا بين ( الزبانية و الحطمة و الشواء ) الذي يُعَذِب، مكان التعذيب و نتيجة التعذيب، و نلمس هنا معنى السادية التي تتميز بها شخصية والد بطلة القصة الذي ذبح ابنته بسبب ما اقترفته، و هو في كامل نشوته النفسية العميقة، في نفس الوقت واصل اقتراف نفس الأفعال و نفس الرذائل القبيحة، و هذا ما يسمى بازدواجية المعايير والشخصية، و هو اضطراب نفسي عويص.

المفارقة كانت قوية، تمكنت القاصة من ابرازها، بأسلوبها الرمزي، أبدعت في سردها دون السقوط في المباشرة التي تجعل القصة مُمِلّة،و من قوة هذه المفارقة انتهت القصة بتلك الدهشة التي وصلت إلى مستوى الصدمة لأن القارئ لم و لن تمر بذهنه، لم يكن ينتظرها، لهذا كانت جارفة كالسيل لشعوره المتقد، مهما انتظر النهاية لن يحدس أن تخبره القاصة أن والد بطلة القصة كان يعاشر خليلة في السر بعد أن قتل ابنته لأنها حملت و هي عزباء، و الأشد و الأغرب أنه أهدى أو أطعم خليلته ابن بنته من الحرام، نرى هنا ذكاء القاصة في كيفية اخبارنا كيف كان ذلك الأب على علاقة سرية مع فتاة ربما في سن ابنته تلك، كيف يحلل لنفسه ما هو محرم شرعا، و يعاقب ابنته أشد العذاب بعد انزلاقها المرير.

و قد تعمدت القاصة عدم ادخال والدة بطلة القصة أو الاشارة لها، لتُظهر لنا أنها مغيّبة في الواقع بسبب سياسة الزوج القمعية و التهمشية ليسهل عليه خيانتها و قد فعل ذلك و ضميره مرتاح.

كما نلاحظ في القصة قفزات سردية و زمانية ساعدت القاصة على تكثيف النص جيدًا، و جعلت فيه فسحات بيضاء للقارئ، يلونها بخياله على قدر فهمه لعمق القصة، و هي تقنية تجعل القارئ يساهم في إبداع القصة مع القاصة، بهذه الطريقة يشارك القارئ في صياغة أخرى في مخيلته على قدر تأثره بأحداثها، مع امكنية أن تلهمه في كتابة قصة أخرى في نفس الفكرة بصياغة جديدة.

الكاتب و القارئ شريكان في إبداع القطعة الأدبية، هذا ما ذهب إليه النقد الأدبي الحديث.

الكاتبة كانت بارعة في سردها القصصي القصير، باللف و الدوران حول المعنى العميق بطريقتها المميّزة و اللفتة للنظر، كي لا تقع في المباشرة التي تقتل الإبداع، القصة فيها إيحاءات و تلميحات و إشارات عمّقت النص دون الوقوع في المبهم الذي يغلق المعنى و يجعله علامة استفهام كبيرة، كما استعملت القاصة ضمير الأنا، لتتقمص شخصية بطلة القصة، و يسهل عليها عملية السرد القصصي، و يمكنها من الغوص إلى أعماق البطلة بسهولة، و استكشاف تلك الأغوار البعيدة المظلمة.

القصة تحفة فنية راقية في حاجة لتتويج ( بلا مجاملة ).


غريبي بوعلام / الجزائر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.