أعلان الهيدر

الاثنين، 19 فبراير 2018

الرئيسية رصاصةُ منتصفُ اللّيلِ

رصاصةُ منتصفُ اللّيلِ


نداء الجنابي

الكاتبة / نداء الجنابي
في تلكَ النّاحيةِ الصغيرةِ الغافيةِ على ضفافِ نهرِ دجلةَ عشْتُ طفولتي وجزءٌ من مراهقتي.
في فصلِ الرّبيعِ، كانَ والدي يأخذُنا بجولاتٍ شبه يوميّةٍ في البساتينِ والمزارعِ القريبةِ لنمضي يومًا هادئًا جميلا في بقعةٍ خضراءَ يعطّرُها شذى الوردِ والقدّاحِ.
اليومُ، وفي كلِّ مرةٍ أشعرُ بها بالإحباطِ والتّوتّرِ، أعودُ بمخيّلتي لتلك الفترةِ، فأسمعُ ضحكاتِ أخوتي وحديثَ والدي المشوِّقِ وأشمُّ رائحةَ أكلِ أمّي الشَّهي.
كانَ(رحاب) شابًّا وسيمًا أشقرَ الشّعرِ يسكنُ ناحيتَنا. هو من عائلةٍ متوسّطةِ يدرسُ في الجامعةِ وعلى أبوابِ التخرّجِ. كلّما مرَّ من أمامي، هو وصديقُه، كنْتُ أشعرُ بنسمةِ هواءٍ منعشةٍ تهبُّ على وجنتي فتشعرُني بالسّعادةِ.
كانَ صديقُه(محمد) شابًّا قويًّا ضخمًا حادَّ الملامحِ، كانَتْ نظراتُه ترعبُني.
همسَتْ لي صديقتي في المدرسةِ: رحابُ يعشقُ صفيّةَ، صارَتْ لديَّ رغبةٌ ملحةٌ لرؤيةِ صفية تلك، ربّما لأرى مدى جمالِها وروعتِها ليحبَّها رحاب.
حصلَ ذلك وأنا أمرُّ من أمامِ دارِها، رأيتُها واقفةً مع صديقتِها، كانَتْ فتاةً نحيلةً سمراءَ بشعرٍ أسودٍ طويلٍ، في تلك اللّحظةِ، مرَّ رحابُ وصديقهُ، فلمعَتْ عيناها وهي تنظرُ نحوهما.
لم أفهمْ سببَ حبِّهِ لها فهو يستحقُّ الأجملَ.
كانَتْ صديقتي (ليلى) فتاةً جميلةً بضفائرٍ ذهبيةٍ وعينيْن زرقاوين وبشرةٍ بيضاءَ. أجملُ مافيها هدوءٌها وحياءُها، تسكنُ مع أمرأةٍ عجوزٍ وأبنتِها العانسِ في منزلٍ كبيرٍ جميلٍ أمامَ منزلنِا. أمضيْتُ سنواتٍ مع ليلى وأنا لا أعرفُ بأنَّها أختُ رحابٍ، فهي لمْ تذكرْ لي ذلك، وكونُها لاتسكنُ مع أهلِها.
قالَتْ لي والدتي: المرأةُ الكبيرةُ هي جدُّتها والأخرى عمَّتُها، أخذَتْها الجدَّةُ لتعلِّقَها بها وليكونَ لها نصيبٌ من العيشِ الرَّغيدِ، فقدْ كانّتْ الجدَّةُ غنيّةٌ وتمتلكُ الكثيرَ من العقاراتِ والبساتينِ.
تقرَّبْتُ أكثرَ وأكثرَ من ليلى وحاولْتُ الاستفسارِ عن أخوتِها وأخواتِها وصولا لأخبارِ رحابِ.
كانَ يعشقُ صفيّةَ حدَّ الجنونِ وقدْ وعدَهُ والدهُ بخطبتِها له بعدَ تخرّجِهِ.
في قرارةِ قلبي المراهقِ الصّغيرِ، تمنَّيْتُ أنْ لاتتمُّ الخطبةُ ويحصلُ مايفرِّقُهما.
أمضيْتُ مع ليلى سنواتِ المتوسّطةِ وحينَ انتقلْنا للثّانويّةِ، بدأَتْ بالتّغيبِ وعدمِ الانتظامِ في الحضورِ للمدرسةِ.
في منتصفِ السّنة ِأختفَتْ وانقطعَتْ عن الدّراسةِ، حينَ سألْتُ جدَّتَها عنها ذاتَ ظهيرةٍ، أخبرتْني بأنَّ والدَها جاءَ وأخذَها.
بعد عدّةِ أشهرٍ تُوفّيَتِ الجدَّةُ وباعَتِ العمَّةُ الدّارَ وانتقلَتِ للمدينةِ.
حينَ سمعْتُ بأنَّ ليلى قد تزوَّجَتْ، صُدِمْتُ وأسرْعُت بزيارتِها مع صديقتي، استقبلتْنا بوجهٍ سعيدٍ مشرقٍ وكأنَّها ازدادَتْ جمالا.
أخبرتْنا بأنَّها سعيدةٌ مع زوجِها فهو إنسانٌ طيّبٌ بكلِّ معنى الكلمةِ.
حينَ دخلَ زوجُها ليسلِّمَ علينا، انتبهْتُ بأنَّه شابٌ نحيلٌ أسمرٌ ضيقُ العينينِ ومجعَّدُ الشّعرِ وأنفهُ كبيرٌ.
لا أعرفُ لم َحكمْتُ على صديقتي بأنَّها لابدَّ أن ْتكونَ غيرَ سعيدةٍ، ربّما مقاييسُ السّعادةِ في عمرِنا كانَ هو الزّواجُ بشخصٍ كاملٍ جميلٍ.


بقيْتُ لفترةٍ طويلةٍ وأنا أفتقدُ صديقتي وأشعرُ بأنَّها لابدَّ ان تكون تعيسةٌ.
في ذلك المساءِ الصّيفيِّ الحارِّ، جمعَتْنا والدتي، بعدَ مشاهدةِ تمثيليّةٍ(تحتَ موسِ الحلّاقِ) وشبِعْنا ضحكًا وصخبًا، صعِدْنا للنّومِ على السَّطحِ، كعادةِ العراقيّين في تلك الحقبةِ.
كانَتِ السّماءُ صافيةً والنّجومُ تتلألأُ، وأنا أرقبُ السَّماءَ، كنْتُ أتذكَّرُ أحداثَ التمثيليّةِ وأكتمُ ضحكاتي كيْ لا أوقظ ُالجميعَ.
حينَ استسلمْتُ للنَّومِ، شقَّ هدوءُ اللّيلِ صوتَ رصاصةٍ أيقظَتْ كلَّ الجيرانِ.
قالَ أبي: لاتخافوا لابدَّ أنَّ الشرطةَ تطاردُ لصًّا.
كانَتْ أخبارُ الرَّصاصةِ هي حديثُ المدرسةِ في اليومِ التّالي، بدأَ الجميعُ بالتكهّناتِ واختلاقِ القصصِ، ولكنّي لم ْأصدَّقْ غيرَ تبريرِ والدي للحادثةِ.
مرَّ يومانِ وبدأْنا بسماعِ خبرِ اختفاءِ رحابٍ، فقدْ خرجَ تلك اللّيلةِ ولمْ يعدْ.
في البدايةِ، كانَ أهلُه يعتقدونَ بأنَّهُ في بيتِ صديقِهِ حيثُ كانَ متعوِّدًا على قضاءِ بضعَ ليالٍ معه كلَّ شهرٍ، ولكنْ حينَ جاءَ الصّديقُ يسألُ عنْهُ بدأَ الرُّعبِ.
استنفرَ رجالُ الشّرطةِ جهودَهم في البحثِ عنْهُ، وبعدَ اسبوع ٍوجدوا جثَّتَهُ ملقاة ًعلى ضفافِ النَّهرِ برصاصةٍ في القلبِ.
مزّقَ بكاءُ أمّهِ وأهلهِ هدوءَ ناحيتنِا، فُجعَتِ الفتياتُ، تخبطْنَ في التكهّناتِ، بعدَها بدأَ التحقيِق.
في تلك الفترة انتقلنا للعيش في العاصمة لدخولي الجامعة، ولكن أخبار ناحيتي لم تنقطع عني.
لقدْ كانَ قاتلُ رحابٍ هو صديقُه محمد، قالَ بأنَّ الّسببَ مشادة ٌكلاميّةٌ أثارَتْ غضبَه.
وعرفْنا بعدَ ذلك بأنَّ المشادَّةَ كانَتْ بسببِ صفيّةِ، فحينَ أخبرَ رحابٌ صديقَه بحبِّهِ لصفيَّةِ ورغبتِه بالزّواجِ منْها، جُنَّ جنونُه فقدْ كانَ هو الآخرُ يعشقُها.
أودعَ محمدٌ السّجنَ لسنواتٍ، بعدَها أُطلِقَ سراحُهُ بوساطةِ رجالٍ متنفّذينَ في الحكومةِ، تزوّجَ صفيّةَ وغادرَ النّاحيةَ.
ليومي هذا، لازالَ هذا السّؤالُ يحيّرُني: هلْ عشقَتْ صفيّةُ رحابَ أم محمدَ؟

نداء الجنابي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.